شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
المدينة البيضاء التي تسعد زوّارها وتشقي أبناءها… عين دراهم

المدينة البيضاء التي تسعد زوّارها وتشقي أبناءها… عين دراهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

السبت 25 مارس 202303:37 م

عندما يحل الشتاء في تونس، تنشرح النفوس غالباً فرحاً بمطر قادم سيسقي الأرض التي تزهو بسرعة، وترتدي ثوبها الأخضر المرصّع بالورود الملونة، ولكنها تبتهج أكثر بذلك الضيف الأبيض، الثلج، الذي يخصّ المناطق الغربية من البلاد، بالإقامة في ربوعها لأيام قد تطول وقد تقصر، لا سيما مدينة عين دراهم أو "المدينة البيضاء" كما يحلو لكثر تسميتها.

تكتسي هذه المدينة جمالاً باهراً عندما يغطّيها الثلج شتاءً، فيرغب الجميع في تونس في زيارتها والتمتع بزواج اللونين الأبيض والأخضر فيها وتوثيق لحظات تبدو لهم فريدةً وساحرةً أيضاً، لا تمنحهم إياها سوى عين دراهم. لكن هذا الضيف الجميل الأبيض الذي يسعد زوّاره، ينغّص حياة العديد من ساكني المدينة الذين نسيت عجلة التنمية أن تمر بهم، وظلت منذ الاستقلال تتعثر تاركةً إياهم في جوع دائم حتى تأتي اللحظة التي تحظى فيها مدينتهم باهتمام الدولة لا سيما وأنها حظيت في فترة الاستعمار والحقبات السابقة باهتمام كبير من قبل من سكنوها وأدركوا أهميتها.


يروي سكان مدينة عين دراهم، أسطورتين عن سرّ تسميتها، فيقول البعض إن الاسم أُطلق عليها نسبة إلى امرأة جميلة جداً، تدعى "دراهم"، كان جمال عينيها خاصةً محل حديث وسجال في قريتها منذ زمن، فأطلقوا تسمية "عين دراهم" تكريماً لجمال عيني ابنتهم، وربما تبركاً بها كما يضيف البعض. في حين يقول قسم آخر، إن المدينة الخضراء تتميز بكثرة العيون (ينابيع) المائية الطبيعية النقية المتدفقة من الأرض والجبال والثمينة في نظرهم، فأطلقوا "عين دراهم" للإشارة إلى أنها مصدر المال أو لتشبيه نقائها بنقاء الدرهم كما يضيف آخرون ممن تحدثنا إليهم.

يقول البعض إن الاسم أُطلق عليها نسبة إلى امرأة جميلة جداً، تدعى "دراهم"، كان جمال عينيها محل حديث وسجال في قريتها منذ زمن، فأطلقوا تسمية "عين دراهم" تكريماً لجمال عيني ابنتهم، وربما تبركاً بها 

وكانت عين دراهم تاريخياً من بين المناطق التي استحوذ عليها الإسبان في حملتهم على تونس، منتصف القرن السادس عشر، واستمر وجودهم فيها لمدة أربعين عاماً قبل دخول العثمانيين، ولهذا الحضور أثره على طبيعة العمران في المدينة إلى حد ما.

ترتفع مدينة عين دراهم نحو ألف متر عن سطح البحر، وهي أشبه بقرية معلقة وسط أشجار الصنوبر والبلوط والصنوبر والفلّين، وتمتد على آلاف الهكتارات، ولعل شجرة الزان المقلوب من أشهر الأشجار في هذه المدينة، لأنها جاءت كحصيلة للتفاعل بين شجرتي الفرنان والزان، ما أنتج شجرةً فريدةً جمعت بين الاثنتين، ولهذا ينظر إليها العلماء كإعجاز من الطبيعة. ويمثل هذا الغطاء الغابي 78 في المئة من مساحة المدينة ما يجعلها خضراء على مدار السنة.

"ثلوج وعيون وغابات"

وحسب أستاذ التاريخ التونسي وصاحب كتاب "عين دراهم"، محمد دبوسي، فإن الغطاء الغابي في عين دراهم يمتد على أكثر من 42،000 هكتار مقسمة إلى 26،000 هكتار من خشب البلوط، و10،000 هكتار من سن البلوط، و6،000 هكتار من الصنوبر، هذا فضلاً عن عيون الماء (ينابيع) الكثيرة التي يزورها المشاة في عين الدراهم كل يوم تقريباً، ومن بينها عين الدراهم، عين بولحية، عين العماري، عين علي، عين التواتي، عين بورميشان، عين تيشة، عين خليفة، عين 18، عين الغراب، عين الحلوف (الخنزير)، عين الرملة، عين، وعين الزينة. كما تنشط في عين دراهم السياحة الاستشفائية في قرية حمام بورقيبة، ذات المياه المعدنية والعلاجية، التي تحتل المرتبة الثانية بعد فرنسا في الاستشفاء بالمياه المعدنية والكبريتية.

تحافظ عين دراهم حتى اليوم على خصائصها المعمارية القريبة من الريف السويسري، إذ إن غالبية أسقف بيوتها مصنوعة من الخشب ومن القرميد الأحمر.

وبالإضافة إلى الطبيعة الساحرة لعين دراهم، فإن للمدينة بعداً إستراتيجياً وعسكرياً، ظهر خاصةً في فترة الاستعمار الفرنسي حسب محمد دبوسي. إذ يقول في حديث لرصيف22: "التفت المستعمر الفرنسي إلى هذه القرية الواقعة بين جبلين وواديين بهدف السيطرة على جميع الممرات، ولهذا بنى فيها واحدةً من أكبر الثكنات العسكرية في البلاد في ذلك الوقت. ولكنه واجه مقاومةً شرسةً من الأهالي حتى أنه قام بحشد ترسانة من 30،000 سلاح للتعامل معهم. ومن أبرز المعارك التي دارت بين الجانبين هناك، معارك 'حجرة المنقورة'، و'خنقت الحمام'، و'فج كحلة'، و'الكمير' وغيرها".

هذه الطبيعة الساحرة تستهوي زوّارها في كل الفصول، ولكن للشتاء روايته الخاصة مع المدينة، فبمجرد حلول هذا الفصل يبدأ موسم هطول الثلج ومعه تنطلق الحكايات التي تختلف إلى حد التناقض بين الزوار والأهالي. فبمجرد أن تطأ قدمك عين دراهم في موسم الثلج، تتراءى لك عشرات القرى والأرياف المكسوة بالبياض والمعلقة على الجبال وفي السفوح، تربط بينها بعض المسالك الغابية الوعرة. إنها صورة هادئة وحالمة كلوحة مثالية الجمال والإبداع. وسرعان ما تبدأ احتفالات القادمين خصيصاً من أجل ثلج عين دراهم من تونس، ومن خارجها، خاصةً من الجارتين الجزائر وليبيا، لالتقاط الصور مع الثلج هنا وهناك، واللعب بكرات الثلج، والتفنن في صناعة الدب الثلجي وغيرها من مظاهر الاحتفال بالزائر الأبيض حتى أنه يخيل إليك أنك في حضرة مدينة الفرح.

لكن بمجرد التجوّل قليلاً داخل التجمعات السكنية المتفرقة في المدينة، أو الحديث مع بعض الأهالي، ندرك أن هناك حكايةً أخرى تُروى، فهطول الثلوج يُدخل قرى عين دراهم في عزلة شتوية، وتزداد أوضاعهم الصعبة أساساً، سوءاً.

الثلج "المخيف"

تحدثني منى، ابنة عين دراهم التي أمضت فيها طفولتها ومراهقتها وقسماً مهماً من شبابها، قائلةً: "نظرتنا إلى موسم الثلوج لا تشبه أبداً نظرة أولئك القادمين إليه؛ هم يأتون ليوم أو اثنين لالتقاط الصور والتباهي بها أمام أصدقائهم، ثم يعودون إلى دفء أيامهم. أما بالنسبة لنا فالرحلة الشاقة تبدأ مبكراً ولا نعلم كم تستمر، فقبل قدوم الثلج يتوجب على الأهالي جمع كميات مهمة من الحطب على ظهور الحمير من الجبال والغابات المحيطة، واقتناء كميات كبيرة من المؤونة والعلف للمواشي التي لن ترعى خلال هذه الفترة، لأن الطرق الوعرة وغير المهيأة أساساً تغلَق مع هطول الثلج، ونجد أنفسنا في عزلة قسرية عن العالم.

لا يدرك الزوار كم أن هذه المهمة شاقة، فعلينا أن نتدبر أمرنا بمفردنا ولا أحد سيشعر ببردنا في حال انتهت كميات الحطب قبل رحيل الثلج، ولا أحد سيتحسس جوعنا في حال نفدت مؤونتنا. إننا منسيون هنا وراء هذه الغابات، ويبدو أننا تعوّدنا على تنكر الدولة لنا".

غادرت منى مدينتها قبل ثلاث سنوات نحو العاصمة، بعد أن حصلت على عمل هناك، وعلى مدار هذه السنوات الثلاث ترفض العودة إلى عين دراهم في موسم الثلج. تحاول الاطمئنان على عائلتها عبر الهاتف وتتجنّب العودة حتى لا تستعيد ذكريات أليمةً مع الثلج.

تقول لرصيف22: "ذلك الأبيض الساحر في ظاهره طبع في ذاكرتي ذكريات سوداء قاتمةً. إنه موسم الخوف بالنسبة لي. أذكر أنه في إحدى المرات حين كنت طفلةً، وقد نفدت مدّخراتنا من الحطب في فترة نزول الثلج، كان والدي مريضاً، ولم تستطع أمي جمع الكثير من الحطب. كدت أتجمد من البرد. كان بيتنا بارداً جداً حتى أنني كنت أبكي وشعرت بأنني سأموت، وساءت حال والدي الصحية بسبب ذلك ولم نستطع نقله إلى المستشفى بسبب إغلاق الطرقات، لقد نجا بأعجوبة ومنذ ذلك العام يتملكني خوف رهيب كلما زارنا الثلج حتى أنني كنت أقوم بجمع الحطب مبكراً، وأكومه في ركن من بيتنا كي لا نعيش ذلك الخوف مجدداً".

عين دراهم الساحرة ما زالت تأسر كل من يزورها، لا سيما أولئك الباحثين عن قسط من الهدوء والهاربين من ضجة المدينة. فيها تحتضننا الطبيعة بحلّتها الخضراء وأشجارها الشامخة وينابيعها

ورواية منى يؤكدها الكثير من أبناء عين دراهم، ولكن ما نسيت أن تقوله منى أن الأهالي يصمدون ويتحملون الكثير من الصعاب في موسم الثلج، إيماناً منهم بأن نزوله هو أيضاً بشرى سارة، فهو مؤشر على أنهم بصدد استقبال "سنة خضراء"، كما قال لي أحد الشيوخ، في إشارة إلى وفرة المحصول الزراعي لا سيما وأن المدينة تعتمد بشكل كبير على الفلاحة. كما أن قدوم الزوار من الداخل التونسي وخارجه، للتمتع بالثلج، ينعش المدينة اقتصادياً ولو لفترة قصيرة.

أفقر المناطق... وأغناها بالماء

ولا تتوقف المتاعب عند هذا الحد، فعين دراهم الغنية بمواردها الغابية والمائية (سدّان وبحيرات وعيون)، هي إحدى أفقر المناطق في تونس، وإحدى أكثر المناطق التي تعاني من عدم توفر الماء الصالح للشراب، وغياب ربطها بشبكة الشركة الوطنية لاستغلال المياه وتوزيعها. وتضطر الكثير من العائلات إلى التزود بالمياه من الأودية والعيون علماً بأنها لا تخضع لمراقبة مصالح الصحة العمومية في البلاد، وهو ما أدى إلى إصابة الأهالي ببعض الأمراض بسبب تلوث الماء الذي يستهلكونه حسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

عين دراهم الساحرة ما زالت تأسر كل من يزورها، لا سيما أولئك الباحثين عن قسط من الهدوء والهاربين من ضجة المدينة. فيها تحتضننا الطبيعة بحلّتها الخضراء وأشجارها الشامخة وينابيعها التي تصادفنا كثيراً هنا وهناك، لكنها تأبى أن تأسر السلطة في تونس منذ الاستقلال. لقد راهن الاستعمار الفرنسي على عين دراهم ليس عسكرياً فقط، بل تحولت معه إلى إحدى المستوطنات المفضلة بالنسبة للفرنسيين، ومنذ سنة 1930 أصبحت محطةً سياحيةً متعددة الوظائف.

يقول محمد دبوسي: "من بين 66 فندقاً (480 سريراً) في تونس عام 1937، كانت هناك أربعة فنادق تعمل في عين الدراهم، بسعة 100 سرير". ولا يدري أحد لماذا تأبى تونس أن تلتفت جدياً إلى "المدينة البيضاء" وتعيد إليها مجدها الذي تستحقه وتنصف أبناءها المتطلعين إلى ذلك اليوم الذي تدور فيه عجلة التنمية على أراضي مدينتهم الخضراء الساحرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image