يحتل العراق مكانةً مهمةً لدى صانع القرار الإيراني، المتأثر بسياسات الحرب المدمرة معه والتي تلت الثورة الإيرانية عام 1979، مباشرةً. فالحرب بين العراق وإيران (1980-1988)، التي وصفها مسؤولون إيرانيون بـ"الدفاع المقدس"، كانت حدثاً محورياً بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية.
نتيجةً للأثر المدمّر الذي خلفته حرب الثماني سنوات، عملت إيران قبل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وبعده، على تنويع نفوذها في العراق وتطويره. من أبرز أوجه النفوذ هذا، الفصائل المسلحة الشيعية التي، بحسب عدد كبير من الدراسات التي تناولتها محللةً جميع مكوناتها، تندرج ضمن سياق أوسع، ألا وهو مكانة العراق ضمن الإستراتيجية الإيرانية.
المنظور الواحد
في كتابه "العراق في الإدراك الإستراتيجي الإيراني"، يتحدث علي القريشي، في مواضع متعددة عن مكانة العراق في هذا الإدراك، قائلاً: "للعراق موقع جغرافي متميز من بين كل الدول المحيطة بإيران، لما يمثله من تأثير في الأبعاد الأمنية والاقتصادية والدينية. ولا ننسى الموروث التاريخي في عقلية الساسة الإيرانيين حول تبعية العراق لإمبراطوريتهم القديمة".
الحرب بين العراق وإيران، التي وصفها مسؤولون إيرانيون بـ"الدفاع المقدس"، كانت حدثاً محورياً لهم
على هذا الأساس، تبلورت الرؤية الإيرانية لأمنها القومي القائم على إبعاد جميع الأخطار المحتملة، والتي بإمكانها أن تقوّض مصالحها الجيو-سياسية، والجيو-إستراتجية. فالفراغ الأمني والسياسي الذي خلّفه الاحتلال الأمريكي، جعل العراق في أولوية حسابات إيران، ومنذ اليوم الأول للاحتلال، سعى النظام الإيراني إلى أن يكون له موطئ قدم ووجود، على الساحة العراقية.
وفق ما تقدّم، يبدو أنه لا يُمكن فهم هذه الفصائل خارج إطار علاقتها مع إيران، سواء على مستوى الخطاب أو الفعل، وهو ما توصلت إليه الدراسات الغربية والعربية على حد سواء، والتي تعاملت معها على أساس استقراء وفهم مكانة العراق، وأهميته بالنسبة إلى إيران، وموقعه من جغرافية المنافسة على الموارد والنفوذ بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.
العودة إلى الجذور
أما الجانب الأساسي المهم من التكوين البنيوي لهذه الفصائل، فهو جذورها الاجتماعية والسياسية والدينية، التي نادراً ما تأخذ ذاك الحيز المهم في النقاش العام، فالسياسة التعسفية التي مارستها الحكومات السنّية المتعاقبة في حق شيعة العراق، جعلتهم دائماً ينظرون بعين الريبة والخطر إلى هذه الحكومات، وبالأخص النظام البعثي (نظام صدام حسين).
هذا بالضبط ما عبّر عنه صموئيل هيلفونت، في كتابه "الإكراه في الدين... صدام حسين والإسلام وجذور التمردات في العراق"، إذ يقول: "حاول صدام والبعثيون فرض تفسير موحّد للإسلام في العراق، وذلك للسيطرة على الخطاب الديني وتوظيفه سياسياً. وعليه، واجه النظام عدداً من المشاكل في جنوب العراق عملت على إحباط إستراتيجيته في تطبيق سياسة واحدة على جميع القيادات الدينية ومؤسساتها، وبالأخص المؤسسة الدينية الشيعية، بسبب الدخل المادي الذي تتمتع به، ألا وهو (الخمس)، مقارنةً بالمؤسسة الدينية السنّية، التي لم تكن تمتلك هذا الدخل المادي. لذا كان علماء السنّة أقل استقلالاً مالياً، وأكثر عرضةً لمبادرات النظام المالية. فيما كانت لدى الشيعة في جنوب العراق مدارس دينية عريقة، ولا سيما الحوزة في النجف. ولم يستطع النظام اجتذاب الطلاب الشيعة بسهولة عن طريق بناء مدارس دينية جديدة تحت سيطرة نظام البعث، أو جعل العلماء الذين تلقوا تعليمهم في هذه المؤسسات الموقرة بدلاً من أولئك الذين درسوا في المدارس التي يرعاها النظام".
وعلى غرار محاولة الاستمالة الفاشلة، يتحدث عباس كاظم، عن محاولة أخرى باءت بالفشل أيضاً، في كتابه "الحوزة تحت الحصار... دراسة في أرشيف حزب البعث العراقي"، ويقول فيه: "في 28 آب/ أغسطس 1984، قدّم السكرتير الحزبي لصدام حسين ملخصاً لما توصلت إليه لجنة حسن المجيد في دراسة الشعائر الحسينية وأسباب استمرارها بفاعلية كبيرة. فبالإضافة إلى مقترحات اللجنة لتقليص 'خطر' النشاط خلال موسم الزيارة في شهرَي محرم وصفر، أضاف سكرتير صدام الحزبي ستة مقترحات، كان ثانيها أهمها، وينص على معالجة ما تبقى من الظواهر السلبية وإن كانت ضعيفةً من خلال اختيار رفاق حزبيين، تكون لديهم الرغبة في أن يكونوا رجال دين ضمن المؤسسة الحوزوية في النجف للدراسة، ثم يتدرجوا في تحصيل العلوم الدينية ليجري استثمارهم في ما بعد حين يصبحون علماء دين متمكنين من ممارسة الاجتهاد".
الفصائل المسلّحة الشيعية هي أقدم من أن تكون تابعةً للإستراتيجية الجيو-سياسية الإيرانية في المنطقة، لكنها وبسبب إقصائها على الدوام، وجدت نفسها منساقةً مع حجتها إلى حليف مثل إيران
وكانت آلة النظام الإعلامية متمثلةً في صحيفة "الثورة"، قد نشرت في نيسان/ أبريل 1991، مقالات هاجمت فيها الأغلبية العربية الشيعية في العراق، بأقسى العبارات المباشرة، وبالاسم الصريح، وعدّتهم "أشراراً ومنحطّين بالسليقة، وليسوا عراقيين أو عرباً، وإنما هم من سلالة العبيد الوافدين من الهند، ويطيعون ديانةً وضيعةً لا تحتوي أي مبدأ أخلاقي"، وغيرها من العبارات الطائفية والعنصرية، وكذلك كانت تصف الشيعة الذين عارضوا النظام البعثي قائلةً بأنهم إما من أصل فارسي أو متطرفون دينيون، أو أنهم من الطبقات الدنيا التي رفضت الحداثة، وكان مصطلح "الشعوبيين" هو الأكثر شيوعاً في نظر الأنظمة السنّية لوصف المعارضين الشيعة.
وظهرت الشعوبية للعيان في العصر العباسي، وكان أتباعها يؤمنون بأن "لا فضل للعرب على العجم"، فكان اعتماد هذا الوصف من قبل النظام البعثي، للشيعة المعارضين، من باب اتهامهم بالولاء لإيران.
أبعد من السياسة الصدامية
هذه السياسات لا تتوقف عند الحقبة البعثية من تاريخ العراق الحديث، بل هي تمتد حتى إلى النظام الملكي الذي دائماً ما يوصف بأن فترته كانت من أكثر الفترات الزمنية التي استطاع الشيعة فيها أن يحصلوا على بعض التمثيل السياسي والاجتماعي المهم. فعن هذه الفترة يتحدث المدير العام للبنك التجاري العراقي عبد الكريم محمد رؤوف القطان، في مذكراته "مذكرات من جنوب العراق من الطفولة إلى المنفى"، ويقول إن "النزعة الطائفية التي انتقلت من العهد العثماني إلى العهد الملكي الجديد، والذي استبشر به الناس خيراً، كانت لا تقف في مجال التعليم والعمل (الوظائف الحكومية). فالمدارس الحكومية التي حظرها العثمانيون على شيعة العراق، استعاضوا عنها بالكتاتيب (المدارس الدينية) ومدارس الأقليات الدينية كمدرسة الأليانس وهي مدرسة الطائفة الموسوية في بغداد. فضلاً عن قانون العمل الذي أصدرته الوزارة زمن عبد الرحمن النقيب، وهو رئيس أول حكومة عراقية، والذي حصر وظائف الدولة بحملة الجنسية العثمانية أي العراقيين الأصليين (السنّة)، وحجبها عن الشيعة".
وهنا، يتفق إسحاق نقاش، في كتابه "شيعة العراق" مع القطان، إذ يشرح كبف أن "الشيعة قد شعروا بالقلق من نتائج الحظر الذي فرضه المجتهدون على مشاركة الشيعة في انتخابات الجمعية التأسيسية، الأمر الذي أسفر عن ازدياد سيطرة السنّة على أجهزة الدولة، فطالبوا بتمثيلهم في الحكم والخدمة المدنية تمثيلاً يتناسب مع ثقلهم العددي بين السكان".
حكام العراق السنّة كانوا لا يضمون إلا وزيراً شيعياً واحداً وبشكل رمزي في حكومات العشرينات
ويضيف أن "حكام العراق السنّة كانوا لا يضمون إلا وزيراً شيعياً واحداً وبشكل رمزي في حكومات العشرينات. وفي عام 1921 لم يكن هناك شيعي على قائمة المرشحين لمنصب متصرفي الألوية. وشيعي واحد من بين تسعة مرشحين لمدراء الأقضية. في عام 1930، شغل الأكراد الذين يشكلون 17 في المئة من السكان 22 في المئة من المناصب الحكومية، مقارنةً بالشيعة التي كانت نسبتهم من المناصب الحكومية 15 في المئة، وهم الأكثرية بنحو 1.5 ملايين من أصل 2.85 مليوناً، في التعداد الذي أجراه البريطانيون سنة 1919".
وقد حذّر المؤرخ عبد الرزاق الحسني، في مقال نُشر في مجلة العرفان الصيداوية، في حزيران سنة 1925، بعنوان "الأكثرية الشيعية في العراق"، من أن التمييز ضد الشيعة سينال من محاولة بناء الوحدة الوطنية في البلاد.
مما تقدّم نفهم أن هذه الفصائل المسلحة الشيعية هي في الأصل، أقدم من أن تكون تابعةً أو جزءاً من الإستراتيجية الجيو-سياسية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، لكنها وبسبب المناخ السياسي الذي أقصاها على الدوام، وجدت نفسها وبالأخص في الفترة الصدامية، منساقةً مع حجتها إلى حليف مثل إيران أو غيرها، وبدرجات متفاوتة، إلا أن الصبغة الإيرانية التحالفية مع الفصائل قد طغت إلى درجة أنه أصبح من الصعب على أي باحث غربي أن يفهم هذه الفصائل خارج إطار علاقتها مع إيران.
برأي الأستاذ في التاريخ في جامعة الكوفة، الدكتور حيدر نزار، التضييق على الشيعة هو حال كل العراقيين في مجال النشاط والتعبير السياسي، لذا تحولوا إلى المقاومة السلبية وعدم الإذعان لما يريده النظام، وذهب قسم آخر منهم إلى العمل المسلح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع