شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
السيرة السياسية للجواهري شاعر العراق الأكبر... قرن من البحث عن الوطن

السيرة السياسية للجواهري شاعر العراق الأكبر... قرن من البحث عن الوطن

كانت نشأته في النجف سبباً في اكتسابه النزعة الاستشهادية، وروح المغامرة، وركوب المخاطر دون وجل أو تردد، فجنح إلى التحدي والتمرد والثورة، وعاش حياةً عاصفةً، تداخلت فيها عوالم بعوالم، وأهمها السياسة في الشعر، حتى أصبح لا مفر له منها، ولم يكن يهادن حاكماً حتى لو كان قد ناصره من ذي قبل، فكان مصيره السجن مرات عديدة، ومات خارج وطنه. إنه محمد مهدي الجواهري، الملقب بـ"شاعر العراق الأكبر".

من هو؟

تختلف المصادر في تاريخ مولده، فهناك من يقول إن ميلاده كان عام 1900، وقيل 1901، أو 1903، في النجف العراقية، لأسرة عريقة ذات سمعة طيبة تضع العلم والتراث ومكارم الأخلاق في المقام الأول، ما ساهم في صناعة اسمه، خاصةً أن والده كان شاعراً، وابن عمته كذلك.

بالطبع كان لهذه المؤثرات دور بارز في تكوين سمات شخصيته ونضوج شاعريته، وقد عُرفت أسرته باسم الجواهري، نسبةً إلى قريب له، هو الشيح محمد حسن، أحد الفقهاء في عصره، والذي ألّف كتاباً عظيم الأهمية، أطلق عليه اسم "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام".

درس الجواهري على أيدي كوكبة من الشيوخ، وأخذ عنهم علوم النحو والصرف والبلاغة، والمنطق والفقه، ونشأ نشأةً دينيةً صارمةً، وتعمّم (وضع العمامة) في بدايات حياته.

ويؤكد هاني الخير في مؤلفه المعنون بـ"محمد مهدي الجواهري شاعر الكلاسيكية الفخمة"، أنه بفضل نباهة الجواهري وقوة ذاكرته العجيبة، كان وهو في مرحلة الطفولة تقريباً، يحفظ في نهاية كل يوم فقرات من خطبة من كتاب "نهج البلاغة" للإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقطعةً من كتاب "الأمالي" لأبي علي القالي، وقصيدةً من ديوان "المتنبي"، من دون أن يهمل حفظ آيات من القرآن الكريم، وقد كسب جائزةً من والده مرةً ومنحة قيمتها ليرة ذهبية حقيقية؛ لأنه حفظ 450 بيتاً من الشعر في مدة لا تتجاوز 8 ساعات.

كانت أسرته تعامله بقسوة في ما يتعلق بدراسة التراث وحفظه وإجادته، وكان يحفظ في الليلة الواحدة 400 بيت

ونقل المؤلف عن نجله فرات الجواهري، قوله في حوار سابق له مع مجلة الحوادث، إن "أسرته (محمد مهدي) كانت تعامله بقسوة في ما يتعلق بدراسة التراث وحفظه وإجادته، وكان يحفظ في الليلة الواحدة 400 بيت".

يعارض قدامى الشعراء

عُرف عن الجواهري أنه كان نهماً في مطالعاته الحرة، يقرأ دواوين الشعر القديم والحديث، وكتب الأدب واللغة والفلسفة، وكذلك الأدب العالمي المترجم إلى لغة الضاد، حتى تمكّن من دون عناء وبأيسر جهد من حفظ ديوان المتنبي.

هذه الأسباب دفعت الجواهري إلى نظم الشعر في صباه، لكن لم يبقَ من شعره الأول شيء يُذكر، وأول قصيدة له نُشرت في شهر كانون الثاني/ يناير عام 1921، وأخذ ينشر بعدها في مختلف الجرائد والمجلات العراقية والعربية، وفقاً لكتاب "محمد مهدي الجواهري شاعر الكلاسيكية الفخمة".

ونشر أول مجموعة له باسم "حلبة الأدب"، عارض فيها عدداً من الشعراء المعاصرين والقدامى، وسافر إلى إيران مرتين، الأولى عام 1924، والأخرى عام 1926، وقد أُخذ بطبيعتها، فنظم في ذلك مقطوعات عدة.

وبدأ دفاع الجواهري عن الحرية، والوقوف في مصاف الكبار ضد الاحتلال مبكراً؛ إذ إنه في بدايات شبابه كان يوزع المنشورات السرّية والبيانات الثورية في النجف ضد الإنكليز، الذين سيطروا على مقدرات وطنه (كان ذلك عام 1918، في ما عُرف بثورة النجف).

لكن على الرغم من ذلك، لم يستطع الجواهري الالتزام بإطار حزبي معيّن، فقد حدث أن شرع في تأليف حزب سياسي مرتين، إلا أنه لم يستطع الالتزام بذلك.

الحرب بدأت مبكراً!

ترك الشاعر العراقي النجف عام 1927، ليعيَّن مدرساً في المدارس الثانوية، لكنه فوجئ بتعيينه معلماً في الملاك الابتدائي في الكاظمية، وفي العام ذاته أصدر مدير المعارف آنذاك ساطع الحصري (1879-1968)، أمراً بإنهاء خدمة الجواهري من سلك التعليم، بسبب نشره قصيدة "بريد الغربة"، التي استوحاها من طبيعة غيران في أثناء سفرته الثانية إليها، وقد أُخذ بيتاً ورد فيها ذريعةً للإيقاع به.

أحدث هذا الأمر ضجةً، ما استدعى تدخّل وزير المعارف آنذاك، السيد عبد المهدي، وألغى قرار الفصل، لكن الجواهري استقال من وظيفته بعد أقل من شهر، ولما اتسعت الضجة رأى بلاط الملك فيصل الأول (1883-1933)، أن يضع حداً لها، فعيّنه في دائرة التشريفات، ثم بعد سنوات استقال من الوظيفتين لينصرف إلى مزاولة الصحافة.

وهنا نجد سؤالاً يطرح نفسه، مفاده: ما السبب وراء ترك الجواهري وظيفته المرموقة في التشريفات الملكية؟ عن هذا السؤال أجاب هاني الخير، قائلاً: إنه نظم سنة 1929 قصيدةً عنوانها "جربيني"، نشرها في جريدة العراق، بتاريخ 23 تشرين الأول/ أكتوبر 1929، جاء في مطلعها:

"جرّبيني من قبل أن تزدريني وإذا ما ذممتني فاهجريني

ويقيناً ستندمين على أنك من قبل كنت لم تعرفيني

أنا ضد الجمهور في العيش والتفكير طراً وضده في الدين".

أغلقت الفرات في أول سانحة يتيحها حكم النظام، أغلقت ومات الوليد بالنسبة للجواهري، وهو وليد عزيز وأصبح عقدةً أو ظاهرةً نفسيةً عنده أن كل مطبوع له في الصحف التي أصدرها سرعان ما يخفّ صوته

حين سمع الملك بهذه القصيدة استدعاه على عجل، وعاتبه عليها، فاعتذر إليه وأخبره بأنه لن يعود إلى ذلك مرةً ثانيةً، لكن في قرارة نفسه عزم على عكس ذلك، ثم نظم قصيدةً أخرى يقول فيها:

"قال لي صاحبي الظريف وفي الكف ارتعاش وفي اللسان انحباسة

أين غادرت عمةً واحتفاظاً! قلت: إني طرحتها في الكناسة".

ثم هجر الشاعر العراقي العمل الرسمي، بعد أن مكث فيه نحو 3 سنوات، واتجه سنة 1930 نحو عالم الصحافة بخطوات جريئة.

لم يكن الملك فيصل يرغب في استقالة الجواهري من التشريفات الملكية؛ إذ كان يدرك أمرين، أولهما أن الأخير داخل البلاط الملكي محيّد تجاه الفئة الحاكمة، أما إذا خرج منه فإنه يصبح في حل من هذا الحياد، وثانيهما أنه سيخرج ليصدر جريدةً سياسيةً؛ وبناءً عليه سيعاد فتح الأبواب أمامه للالتصاق بالقضايا العامة، بدلاً من أن يبقى جالساً في قصر القضايا الخاصة.

ولم يمر الأمر بسلام، وإنما وفقاً لما ذكر نجله فرات، فإن الجواهري عوقب على فعلته هذه، فما أن خرج من البلاط الملكي وأصدر جريدته "الفرات"، حتى قدّر لهذه الجريدة ألا يطول عمرها أكثر من أشهر معدودة، وقد صدر منها 20 عدداً، موضحاً: "لقد تربصت بها الفرص كي تغلق في أول سانحة يتيحها حكم النظام، أغلقت ومات الوليد بالنسبة للجواهري، وهو وليد عزيز وأصبح عقدةً أو ظاهرةً نفسيةً عنده أن كل مطبوع له في الصحف التي أصدرها سرعان ما يخفّ صوته".

ويروي مؤلف كتاب "محمد مهدي الجواهري شاعر الكلاسيكية الفخمة"، موقفاً طريفاً حدث مع الجواهري، موضحاً أنه حين زار سوريا ولبنان سنة 1944، حظي بترحيب من رجال الأدب والفكر ونجوم المجتمع، وعاد إلى وطنه ترافقه فتاة جميلة تُدعى "رمزية" زوجةً له، لكن هذا الزواج لم يدم أكثر من 3 أشهر، وعادت بعدها الزوجة إلى أسرتها في بيروت.

لم ينتهِ الأمر عند ذلك، وإنما في عام 1945، ألقى محمد مهدي الجواهري، قصيدةً انتصاراً لقضية فلسطين، مطلعها:

"خذي مسعاك مثخنة الجراح ونامي فوق دمية الصفاح

ومدي بالممات إلى حياة تسر وبالعناء إلى ارتياح".

في ذاك الوقت، علّق أحد الأدباء الظرفاء والخبثاء على ذلك، زاعماً بأن الجواهري لا يقصد بذلك نكبة فلسطين بوعد "بلفور"، وما نجم عنه، وإنما يقصد نكبته وكارثته بفرار زوجته منه وعدم عودتها إليه.

نظم الجواهري الشعر في جميع المجالات، لكن كان أعظمه ما اتصل بالحياة، وعرض لمأساة المجتمع والبلاد

الجواهري يسلّط شعره على الحكام

أما بالنسبة إلى شعره، فيشير مؤلف كتاب "محمد مهدي الجواهري شاعر الكلاسيكية الفخمة"، إلى أنه في عام 1924، أعدّ للنشر مجموعةً من شعره، باسم "خواطر الشعر في الحب والوطن والربيع"، ثم أضاف إليها ما استجدّ له من شعر، وبدأ طبعها سنة 1927، بعنوان "ديوان محمد مهدي الجواهري"، وعندما أُنجز الطبع سنة 1928، صدر بغلاف عليه اسم "ديوان بين الشعور والعاطفة"، لصاحبه محمد مهدي الجواهري.

نظم الجواهري الشعر في جميع المجالات، لكن كان أعظمه ما اتصل بالحياة، وعرض لمأساة المجتمع والبلاد، فندد بالحكام، وحمل على المستعمر، وحيّر المتزمتين، وطعن الإقطاع، ولم يسكت عن الحاكمين بل نقدهم مراراً، وكان نقده لهم ساخراً يطفح بالاحتقار والاستخفاف، ويدعو إلى الثأر منهم بصراحة وجرأة نادرتين.

ويمكن القول إن محمد مهدي الجواهري، أسهم بقلمه وشعره في حركات التحرر والنضال في العراق، وسائر الدول العربية، ولقي من جرّاء ذلك الكثير، وسُجن واضطُهد، وأصيب بأخيه الشهيد جعفر، ولما لم ينفع معه الاضطهاد والتعسف، لجأ الحاكمون إلى مساومته وقدّموا له النيابة، وكاد يعتريه الضعف أمام هذه الإغراءات والمكاسب المالية الهائلة، لكنه عاد للتحدي والصمود، ومقارعة السلطات الحاكمة.

كانت النتيجة الطبيعية لذلك، خروج الجواهري من العراق، وهو ما حدث بالفعل، وانتقل بين العديد من العواصم العربية والأجنبية، وكانت محطته الأخيرة في سوريا التي دُفن في ثراها، داخل مقبرة السيدة زينب في دمشق، كما أن شقيقته "نبيهة" دُفنت في المقبرة ذاتها.

حياة مليئة بالمتاعب

حياة محمد مهدي الجواهري، كانت مليئةً بالصعاب، خاصةً أنه كان يستخدم شعره في كل مناحي الحياة، ويسلّطه على الحكّام وغيرهم، منها أنه كان بعد واقعة البلاط الملكي، قد زار العراق الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود، فنظم قصيدةً يمدح فيها آل سعود، لمحض التشفي في الملك فيصل، وأوصلها إلى الأمير السعودي، وطلب إليه نشرها في الجريدة السعودية "أم القرى".

وعندما نُشرت القصيدة، أثار ذلك الملك فيصل، وكان الشاعر حينئذ مدرّساً في ثانوية البصرة، ثم لم يمضِ فيها بضعة أشهر ونُقل إلى الحلة، ثم أعيد إلى ثانوية النجف، ثم إلى دار المعلمين الريفية في الرسمية، وهنا نشر قصيدةً أخرى عنوانها "حالنا اليوم أو في سبيل الحكم"، فضح فيها نظام الحكم القائم، وأبان عن مفاسده، فأحيل على لجنة "الانضباط" العام، فأبدل المجلس الإنذار بعقوبة الفصل، ولم يرغب في العودة إلى الوظيفة، إلا أن بعض المسؤولين في الوزارة أقنعوه بالعودة فاختار الناصرية، لكنه استقال من الوظيفة بعد أشهر ليتفرغ للصحافة.

وبحسب ما ذكر في الجزء الأول من "ديوان الجواهري"، فإن الشاعر العراقي أصدر في عام 1935 ديوانه الثاني باسم "ديوان الجواهري"، وفي أواخر العام التالي، أصدر جريدة "الانقلاب"، إثر الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي (1886-1937)، وأزاح حكومة ياسين الهاشمي، ما يعني أن ابن مدينة النجف كان يؤيد هذه الحركة ويدعمها.

ربما استشعر الجواهري أن انقلاب بكر صدقي سيؤتي بثماره على دولته، لكن لم يكن كما تخيل، لذلك عندما أحس بانحراف الانقلاب عن أهدافه التي أعلن عنها، بدأ يعارض سياسة الحكم فيما ينشر في الجريدة.

وفي هذه الأثناء، كتب الجواهري قصيدةً ضد حكومة الانقلاب، جاء فيها، وفقاً لعصام عبد الفتاح في كتابه المعنون بـ"الأعمال الشعرية الكاملة (محمد مهدي الجواهري)"، جاء فيها:

"ما تشاؤون فاصنعوا فرصة لا تضيع

فرصة أن تحكموا وتحطوا وترفعوا

وتدلوا على الرقاب وتعطوا وتمنعوا

لكم الرافدان والزاب ضرع فأضرعوا

ما تشاؤون فاصنعوا الجماهير هطع

ما الذي يستطيعه مستضامون جوع؟".

وبعدها أخذت الحكومة تتحين الفرص للإيقاع به، وتم لها ذلك، وحُكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر، وبإيقاف الجريدة عن الصدور شهراً.

وبعد سقوط حكومة الانقلاب، غيّر محمد مهدي اسم الجريدة إلى "الرأي العام"، ولم يتَح لها مواصلة الصدور، فعطلت أكثر من مرة بسبب ما كان يكتب فيها من مقالات، ناقدة للسياسات المتعاقبة، وكان يصدر في أثناء تعطيل "الرأي العام" جرائد أخرى بأسماء أخرى، باسمه أو باسم آخرين كـ"الثبات"، و"الجهاد"، و"الأوقات البغدادية"، و"الجديد"، و"الدستور"، و"صدى الدستور"، و"العصور".

أريد منه أن يعود إلى المجلس النيابي في جملة من عاد إليه من المستقيلين فامتنع، وفي وثبة كانون استشهد شقيقه الأصغر جعفر، فكتب فيه شعراً: "أتعلم أم أنت لا تعلم بأن جراح الضحايا فم".

ولما قامت حركة مايس سنة 1941، في ما عُرف بـ"ثورة رشيد عالي الكيلاني" في العراق، أيّدها محمد مهدي الجواهري، لكن بعد فشلها غادر بلاده إلى إيران.

وعاد إلى العراق في العام نفسه، واستأنف جريدته "الرأي العام"، وفي عام 1947 دخل المجلس النيابي، نائباً عن كربلاء، واستقال منه مع من استقال من نواب المعارضة، احتجاجاً على السياسة الاستعمارية التعسفية التي أرادت فرض معاهدة بورتسموث على الشعب (معاهدة بين العراق وإنكلترا)، فكانت وثبة كانون عام 1948 في ما عُرف بـ"انتفاضة الوثبة"، وأريد منه أن يعود إلى المجلس النيابي في جملة من عاد إليه من المستقيلين فامتنع، وفي وثبة كانون استشهد شقيقه الأصغر جعفر، فكتب فيه شعراً:

"أتعلم أم أنت لا تعلم بأن جراح الضحايا فم".

في مؤتمر للسلام العالمي

وفي أيلول/ سبتمبر عام 1948، سافر إلى باريس، ومنها إلى بركلاو في بولونيا، لحضور أول مؤتمر للسلام العالمي، وكان العربي الوحيد الممثل في هذا المؤتمر، بعد أن تغيب عن حضوره الدكتور طه حسين، وبعد انتهاء المؤتمر عاد إلى باريس وأقام فيها أشهراً عدة، ثم رجع إلى العراق، وفقاً لـ"ديوان الجواهري".

ودعاه الأديب الدكتور طه حسين عام 1950، للمشاركة في المؤتمر الثقافي لجامعة الدول العربية، الذي عقده في الإسكندرية، وعندما وصل إلى مصر أعلن الأول أن الشاعر العراقي ضيف الحكومة المصرية، وفي هذا المؤتمر ألقى قصيدته:

"يا مصر تستبق الدهور وتعثر والنيل يزخر والمسلة تزهر".

وقد عرّض فيها بالحكم الرجعي القائم في العراق آنذاك.

عاد الجواهري إلى العراق، ثم دُعي في عام 1951، من قبل لجنة تأبين عبد الحميد كرامي، الرئيس الأسبق للحكومة اللبنانية، للمشاركة في تأبينه، وألقى قصيدته الشهيرة:

"باقٍ وأعمار الطغاة قصار من سفر مجدك عاطر موار".

ويؤكد هاني الخير، أن الجواهري على إثر تلك القصيدة تلقّى أمراً عاجلاً بوجوب مغادرته لبنان؛ إذ ظل ممنوعاً من دخوله لسنوات عديدة، وبعد عودته من بيروت عُطّلت الجرائد التي كان يصدرها في العراق، فسافر إلى مصر احتجاجاً على مضايقته.

عاد الشاعر إلى العراق بعد أن حضر مؤتمر السلام العالمي الذي عُقد في فيينا، وأصدر "الأوقات البغدادية" و"الثبات" و"الجهاد"، ثم أغلقت الأخيرة إثر انتفاضة 1952، واعتُقل في سجن أبي غريب ونظم في المعتقل قصيدة "ظلام".

اللجوء السياسي

كان من الطبيعي بعد هذه المشاقّ التي وجدها الجواهري أن يهدأ ويأخذ جانباً بعيداً عن السياسة، لكنه أبى ذلك، واستمر في طريقه الذي بدأه منذ صباه، فما أن دعته لجنة تأبين العقيد عدنان المالكي إلى دمشق، للمشاركة في تأبينه، حتى ألقى قصيدته المدوية:

"خلّفت غاشية الخنوع ورائي وأتيت أقبس جمرة الشهداء".

كتب عن دمشق قصيدةً أخرى حملت اسم "دمشق جبهة المجد"، يعدّها النقّاد إحدى درره الشعرية

وفي هذه القصيدة فضح الجواهري الحكم الرجعي في العراق، وظل مقيماً في دمشق، بعد أن منحته الحكومة السورية حق اللجوء السياسي، واستمر هناك قرابة عامين ضيفاً على الجيش العربي السوري، ثم عاد إلى بغداد عام 1957.

وبحسب مؤلف كتاب "الأعمال الشعرية الكاملة (محمد مهدي الجواهري)، فإن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، منح الجواهري أعلى وسام في البلاد، فامتدحه الأخير بقصيدة قال فيها:

"سلاماً أيها الأسد

سلمت وتسلم البلد".

كما كتب عن دمشق قصيدةً أخرى حملت اسم "دمشق جبهة المجد"، يعدّها النقّاد إحدى درره الشعرية. ووفقاً لما ذكر في "ديوان الجواهري"، فإن الشاعر أقام بعد عودته من دمشق في مدينة علي الغربي، حتى إذا قامت ثورة 14 تموز/ يوليو عام 1958، التي أطاحت بالمملكة العراقية، عاد إلى بغداد، وحيّا الثورة بقصيدته:

"سدد خطاي لكي أقول فأحسنا فلقد أتيت بما يجل عن الثنا".

ومن أجل الثورة، استأنف إصدار "الرأي العام"، وأوقفها على تأييدها ومنجزاتها، وانتخب رئيساً لاتحاد الأدباء العراقيين ونقيباً للصحافيين.

وعندما عُقد المؤتمر الرابع للأدباء العرب في الكويت في كانون الأول/ ديسمبر 1958، حضره رئيساً لوفد اتحاد الأدباء العراقيين، وقد واجه الوفد استفزازات شرسةً، لكنه بذل جهداً في تجنب الوقوع فيها.

ولم يمضِ على الثورة عام، حتى أخذ يواجه مضايقات مختلفةً بلغت حداً أدى إلى الاعتداء عليه وتوقيفه، فخشي على حياته، وانتهز دعوته إلى حضور حفل تكريم الأخطل الصغير (الشاعر بشارة عبد الله الخوري)، في بيروت عام 1961 لمغادرة العراق، ومن هناك استقر في براغ، عاصمة تشيكوسلوفاكيا، ضيفاً على اتحاد الأدباء التشيكوسلوفاكيين.

أرِح ركابك...

أقام الجواهري في براغ 7 سنوات، وصدر له فيها عام 1965 ديوان جديد سماه "بريد الغربة"، وبعد ثورة السابع عشر من تموز/ يوليو عام 1968، للإطاحة بحكومة الرئيس عبد الرحمن عارف، وفي أواخر العام ذاته، عاد إلى الوطن بدعوة من حكومة الثورة، وقد استقبل استقبالاً حافلاً، وأقامت له وزارة الإعلام حفلاً لتكريمه، ألقيت فيه القصائد والكلمات، وألقى هو فيه قصيدته:

"أرح ركابك من أين ومن عثر كفاك جيلان محمولاً على سفر".

وحينها خصصت له حكومة الثورة العراقية راتباً تعاقدياً قدره 150 ديناراً في الشهر، وأمضى سنواته الأخيرة في دمشق، ضيفاً على القائد حافظ الأسد، وفي العاصمة السورية صدرت أعماله الكاملة في مجلدات، ضمن منشورات وزارة الثقافة السورية، كما أنجز في دمشق تحرير مذكراته وسيرته الذاتية وطباعتها في مجلدين.

قرن من الحياة

توفي الجواهري في دمشق في السابع والعشرين من تموز/ يوليو عام 1997، ودُفن فيها في مقابر الغرباء، وكُتب على قبره: "يرقد هنا بعيداً عن دجلة الخير".

رحل الشاعر بعد أن لاقى من كل الأنظمة الجهامة والتضييق على حريته، جزاءً على جهره بمعارضتها، واعتراضاً على مخالفته لفلسفة الحكم. يقول عن نفسه: "عشت حياةً عاصفةً، اختلطت فيها عوالم بعوالم، الفقه بالشعر، والشعر بالسياسة، والسياسة بالصحافة، والصحافة بالحب، والحب بالصداقات، والبؤس بالنعيم، والتوطن بالترحل، والطفولة بالرجولة".

ويشير عصام عبد الفتاح، إلى أن جموع قرّاء الشعر في الوطن العربي، أطلقوا على محمد مهدي الجواهري، لقب "شاعر العراق الأكبر"، وفي السياق ذاته يرى علي ناصر كنانة، في كتابه "المنفى الشعري العراقي"، أن الشاعر أمسى قرينة للعراق، تسامت في الضمير الجمعي إلى حد اعتباره نهراً عراقياً ثالثاً، يضاف إلى دجلة والفرات، لافتاً إلى أن البعض وصفه بأنه "متنبّي العصر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image