شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
منازل الأمس

منازل الأمس

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 15 يوليو 202311:15 ص


عندما أمضيت الأشهر الثلاثة رفقة سليم، كان قد مضى أربعة عشر عاماً لي في الإمارات، مرميةً إلى عالم تقاذفتني فيه المسؤوليات واحدة تلو الأخرى. وكنت أعيش وسط وعيي بأنني شخص مؤقت يمكن أن يُستبدل، ومطلوب مني بصورة دائمة بذل كل ما لديَّ كي أثبت للآخرين أنني ناجحة. وفي أثناء نقاهة سليم بدأت أنظر إلى ليال وكميت بصورة مختلفة. وبدأت أستغربهما عندما كانا يتحدثان معي عبر محادثة فيديو شات، وأستغرب سجالهما وتعاركهما للحديث معي وسرد قصص يومياتهما عليَّ. كما بدأت أنظر إلى كارم بوصفه شخصاً من حياة لم أعد أريدها.

بدأت اللاذقية تغويني مجدداً، والحاجة إلى التحرّر من أعباء العيش في الإمارات أخذت تضغط عليَّ. بدأ حلم العودة يراودني، وفكرتُ كيف أن ابتعاداً طفيفاً عن حياتي جعلني أشعر بالاستغراب منها. أنا التي كنت أبدو منسجمة مع حياتي، وربما تحسدني كثيرات. فما كان حال وداد التي لم تكن مرتاحة في حياتها مع عائلة أبي، وربما كان زواجها بسليم ضرباً من المجازفة؟ العائلة بذاتها قد تكون ضرباً من المجازفة. أقول هذا مع أنني لا أتخيل حياتي من دون عائلتي.

اكتشفت وأنا في اللاذقية ألا طاقة لديَّ للبحث في تاريخ وداد. لم أكن أشعر، على الرغم من نبرة سليم المتصالحة والودود تجاهها، بأنها تعني لي كثيراً. غير أن للأمكنة ذاكرتها، ما يفسر السطوة العجيبة لحكاية وداد التي بدأت تسيِّرني منذ وصولي إلى مطار اللاذقية، قبل أن يتحول إلى مطار عسكري روسي.

أنا لا أعرف أمي، حتى لو رأيتها لن أعرفها، ولا أختلق الدراما مع حاجتي إلى حكاية تؤنسني. أنا أجهل أمي، لا يوجد ما هو أكثر درامية من هذه الحقيقة البسيطة، ولطالما ترك جهلي بها نقصاً في داخلي كان ينمو من غير إرادة مني مع السنوات... مجاز

أنا لا أعرف أمي، حتى لو رأيتها لن أعرفها، ولا أختلق الدراما مع حاجتي إلى حكاية تؤنسني. أنا أجهل أمي، لا يوجد ما هو أكثر درامية من هذه الحقيقة البسيطة، ولطالما ترك جهلي بها نقصاً في داخلي كان ينمو من غير إرادة مني مع السنوات.

لا أعتبر نفسي أبالغ في الكلام إن قلت وأنا في اللاذقية بعيدة عن طفلَي إنه تأكد لي أنني أجهل نفسي أيضاً. وتساءلت كيف لمدينة خرجتُ منها منذ سنوات طويلة أن تتحكم في أفكاري؟ المدينة الخجول الهادئة التي باتت مرمية في الذاكرة البعيدة لسكانها لا تتيح النسيان، ولا تلح في طلب تذكُّرها. تشبه العاشقة. وكنت أشعر بقلب تلك الفاتنة المدفونة تحت دثار القبح ينبض في صدري. تذكرت، بينما كنت أسير في شارع الكورنيش الغربي، الأوقات التي كان سليم يحملني فيها كي يلتقي بفدوى، ويتركانني أراقب السفن وأنا جالسة على كرسي واطئ في مقهى «العصافيري». بقيت أجلس على ذلك الكرسي الواطئ لثلاث ساعات خلال يوم في الشهر ولمدة أربع سنوات، قبل أن تنتقل فدوى مع زوجها إلى حمص وتنجب هناك. وأدرك الآن أن ذلك الكرسي الواطئ كان حصتي من اللاذقية، وربما كان حصتي من العالم برمته.

كيف لي أن أستعيد الأحاديث التي لم أكن أفهم ما يصل إليَّ منها؟ كانا يتحدثان عن امرأة اسمها وداد، واستنتجتُ من نظراتهما العاطفية نحوي أن ثمة علاقة تربطني بها. وعندما أخذوا بياناتي في المدرسة قلت بصوت عالٍ إن وداد هي أمي. لم يخبرني أحد بذلك. لكن اسمها خرج من داخلي خروج العاصفة المفاجئة وأضحك المعلمة التي لم تكن تعرف حكايتي. وهكذا أدركت سنةً بعد أخرى وجود خسارات لا يربح المرء بعدها شيئاً. توجد قصص تحطم البشر، وحياتي بدأت محطمة. كل ما فعله سليم كان نوعاً من رد الأقدار. لكن توجد أقدار لا تُرَد. والسنوات التي مضت في كنف سليم كانت تبدد الحقيقة في مخيلتي، وتبعد عني واقع فقدان الأم.

كثيراً ما فضلتُ الحقائق على العيش في الأمنيات. لا أريد أن أقسو على سليم، فأنا أحبه، وحياتي من غيره كانت لتكون أسوأ وأكثر قسوة. غير أنني كنت أحتاج إلى أن يروي لي كل ما حدث في مرحلة مبكرة من حياتي، وأن يخبرني عن طباع وداد وعاداتها، عن طريقة استيقاظها وتسريحتها وثيابها، وعن رائحتها ووجودها في منزلنا، عن المنزل ذاته عندما كانت تعيش بينهم. وقد تشكلت فكرتي عنها من شذرات حاقدة مقتضبة بعيدة. كما لو أن أحدهم حذر الجميع من ذِكر اسمها في المنزل. وكان لسليم أسبابه الخاصة كي لا يأتي على ذكرها.

كنت أراقب سليم من الكرسي الواطئ عندما كان يتحدث إلى فدوى، وكان يبدو لي شخصاً آخر. وحتى لا ينتبه ذلك الشخص الانفعالي المتألم، الذي كان أبي ولم يكنه، كنت أنقل نظري إلى السفن في الميناء وإلى العابرين من جواري، الذين بدورهم كانوا يحيونني، ويبتسمون في وجهي من غير أن يعرفوا شيئاً عن ألمي، وكانت تلك المرات الأولى التي أشعر فيها بالاغتراب وعدم الانتماء إلى ما يحيط بي. كان الناس لطفاء معي دائماً، لكن اختلاف سليم بين مكان وآخر جعلني أشك فيما أراه على وجوههم. بقدر ما كنتُ أحب سليم وأشعر برعايته لي في منزل العائلة، كنت أعجب بلهفته عندما يلتقي بفدوى. عندما أخبرتنا معلمة اللغة العربية بأن كل فتاة بأبيها معجبة، جاء إلى خاطري ذلك الأب الانفعالي في «العصافيري»، لا ذلك الهادئ في المنزل. وكلاهما كان حقيقيّاً. غير أن أحدهما تصالح مع فقدان وداد والآخر أرادها بكل جوارحه. وكلاهما كان الرجل نفسه. وهكذا أدركتُ باكراً أن الإنسان مثل الجحيم مصنوع على طبقات. وعرفت بعد سنوات طويلة من تجربتي كيف يصير المرء عندما يقرر الانفصال مقسوماً إلى جزأين؛ أحدهما يريد أن يرحل، والآخر يريد أن يبقى. الانفصال يشبه استئصال السرطان، لا أحد يؤكد إن كنتِ ستنجين بعده.

أحبني الناس من غير أن يعرفوا بأن أمي غادرتني من غير أن تضمّني إليها. علمني أبي أن أدخل الأمكنة وأصير الجزء المرح فيها، أن أبتسم لكل الابتسامات التي أُقابَل بها، وأضحك عندما يضحكون معي... مجاز

عندما مررت بمقهى "العصافيري" شعرت بأنني أجتاز طفولتي، لكنني تجنبت النظر إلى المكان. مع زعمي أنني عشت طفولة هانئة فإن شعوري بالتوجس في منزل العائلة لم يكن ليفارقني كلما خرج سليم من المنزل لقضاء عمل ما. وكنت ما إن يعود حتى أجري إليه. كل الأبناء يعرفون أو يعيشون هذه التفاصيل. ومن كانوا يعيشون معنا كانوا يبالغون في تعليقاتهم، لكنني لم أخجل من اندفاعي إلى سليم، ولم تحبطني نظراتهم. وعندما أصبحت أجيد التعبير عن نفسي أكثر، أصبحت أطلب منه أن يأخذني معه، وكان يفعل ذلك. فكنت أصغر مَن دخل مكتبة الشاطئ في شارع أنطاكيا، وأصغر مَن دخل المكاتب العقارية والمالية ودائرة البريد والمياه والكهرباء. كبرت على الشعور باللطف الذي كان الآخرون يوجهونه إليَّ. جلستُ على أحسن المقاعد في المكاتب الحكومية، وقفت في أحسن الزوايا في المتاجر التي كنا ندخلها، وشربت المياه من أي سبيل يصادفنا قبل أن يعتاد سليم إحضارَ عبوة مياه صغيرة من أجلي. هذه هي اللاذقية التي عرفتها، وكان الذهاب إليها يشبه النزهة. كما نمَّت لديَّ شعوراً بالانتماء إلى الغرباء.

أحبني الناس من غير أن يعرفوا بأن أمي غادرتني من غير أن تضمّني إليها. علمني أبي أن أدخل الأمكنة وأصير الجزء المرح فيها، أن أبتسم لكل الابتسامات التي أُقابَل بها، وأضحك عندما يضحكون معي، وأن أحتفظ لنفسي بتعليقاتي ما إن أشعر بأنها لن تُفهَم لدى الكبار أو تحمل إساءة لهم. لربما هذه الصفات التي صنعها سليم هي ما جعلت مني مستمعة جيدة، وهي السمة التي تناقلها عني أصدقاء كارم.

لم يعد يعني لي شيئاً ما كان أصدقاؤه يقولونه عني. لكن أحياناً في البداية كنت أشعر بشيء من الإهانة. كنت حساسة جدّاً. ولم يكن أحد يبذل جهداً كي يفهمني. كنت وافدة جديدة. وحتى الشمس هناك كانت جديدة عليَّ. وتسبب الطقس الجديد في عدم انتظام الهرمونات لديَّ. كما اضطررت إلى تناول أدوية تنظم هرموناتي، وكانت تنتظم لمدة ثم أنتكس من جديد. لم أكن أستطيع أن أقدِّر متى كان جسدي يخذلني. كنت أعيش الغربة فعليّاً وحدي، وليس لديَّ الطاقة بعد تلك السنوات لسرد الأوجاع التي قاسيتها وحدي. كنت خارج بلدي وكانت تجربة صعبة بكل المقاييس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image