وأنا كنت هناك بين هذا كله، أقف وأجيل النظر حولي وأفتش عن النعش، فأدرك أنني أول شخص يبحث عن الجنازة، كأني أتطفّل على الموت وأمشي بخطى لا أتحكّم بها نحو قدرٍ لم يأت بعدُ. أمشي بمخاوفٍ فرديّةِ الألم. كنتُ أمشي ونظري مسمّر نحو نقطة ما، نقطة مجهولة، كنت كأني أراقب الموت وحدي، ولكنه لم يلمحني بعد. كنت كأنني كلمة تتأرجحُ بين الحياة وهذا اللامعرّف، كلمة ناقصة، لست نصاً ولا معنى. كنت كلمة ناقصة أمام حشد من الأحياء يقف بينهم موت بصرامة النصل، بينما أنا أتأرجح بين الوضوح والغموض، محاصر بفكرةِ اليقظة، أنا يقظ تماماً ولكن يقظتي كانت يخالطها غباش الحلم، كنت أسير متجهاً في طريق حتميّة الغموض.
سألتُ شخصاً واقفاً عن الجنازة فأشار لي بصمت مهيب ودون أن ينظر بعيني؛ أن أذهب هناك. إلى الآن لم أفهم لِمَ لا ننظر في أعين بعضنا وقت الجنازة؟ ربما لا يريد أحدنا أن يلمح هذا الخوف الذي ظهر فجأةً في طرف العين. نخاف أن يرى أحدنا خوفنا، حتى عند إهالة التراب لم ينظر أحدهم إلى الآخر، كانت النظرات لا تلتقي. لسبب ما لا تلتقي.
في الدفن، هناك عادة هي أن يشترك الجمع كله بدفن الميت، بأن يمشوا كلهم بخطى واضحة المقصد ويبدؤون بإهالة التراب على الميت، منهم بأيديهم ومنهم بمحافر، وعندما أتى دوري لأهيل التراب، توقفت وأقعيتُ، وما إن مددتُ يدي نحو التراب حتى سحبتها. شعرت بغرابة هائلة، شعرت بأني لا أريد أن أفقد أحدهم ولا أن أُفقَد، شعرت بأن هذه الحياة كلها غريبة، كأنها طريق طويل وركض متواصل، ولا تعرف كيف ينكسر الطريق بك بأي لحظة.
لا نريد أن نسأل: ما الموت؟ ما الذي يحدث؟ أنا نفسي لم أكن أفهم كيف صرتُ أمام هذا القبر المفتوح، كل ما أذكره هو محادثة صديقي لي يخبرني بعبارات موجزة وتنهّدات متتالية وحشرجة صوته المكتوم، تقول: "أي أبوي هو للي مات، أبوي أنا"... مجاز
شعرت وقتها بعدم الثقة بالحياة: هذا التشبّث العنيد بها قد انتهى. لوهلة، وكضوء يعبر زجاجاً، يحدث أن تنكسر رغبتك بالعيش، وخفتُ لأول مرة من الفقد، أنا الذي دربت نفسي على أن أرى الفقد شيئاً عادياً ومتوقَّعاً، ولكن وقتها لم أقدر. لم ألمس التراب. تنصَّلتُ من الجمع كما يتنصّل ماء من كفّ، ووقفت في زاوية المكان أرقب الوجوه بعد أن انتهوا من إهالة التراب، كأن الوجوه عندما لمستْ الأكف التراب أخذت في الحيادية والغرابة أكثر، والأكف كلها بعد الدفن أخذت تنتفض وكأن تراب الميت نفسه يخيفها، ولكن الوجوه هي التي أخذت أقلب نظري بها: كانت الوجوه ساكنة وهادئة، لا تشي بفعل أو شعور، صامتة وواجمة كرخام بارد، لا تعي أين هي الآن، كأنها أطلتْ من عالم آخر غريب وغير مفهوم، أطلت من عالم فوق - واقعي لا معرفة لنا به.
الوجوه كانت حياديّة ورتيبة كأنها نسيتْ ملامحها، كأنها بلا ذاكرة، يغلفها شحوب ينتشر بكثافة غير معقولة، وجوه كأنها مخدرة ومغيّبة، لا تقرأ في تفاصيلها أي حركة، هادئة كأنما الكون كله ليس هنا ، كأن الكون قد كُسِر وغاب ، كل وجه من هذه الوجوه كان يداري شيئاً ما بصرامة حادة ، منها من كان يداري دمعة ناصعة بأن لا يهدّل نظره للأسفل، منها من كان يحفر الصمتُ فيه مكانه، منها من بكى إلى أن جلس الباكي على التراب، ولكن مع هذا، فكل الوجوه بقتْ هادئة وساكنة، حتى الوجوه الباكية لم تتغضنْ ملامحُها ولم تشحب أو تتغير، بقيت هادئة وحادة السكون.
الأبيض كما الموت تماماً، واضح إلى درجة غياب الوضوح. أمي كانت تقول عن الأبيض إنه بقدرِ ما هو واضح للعيان يبقى مستعصياً على الفهم. لا أحد منا يفسر الأبيض ولا الموت. جدي في فلسطين كان يقول: "بنغطي الميت بشرشف أبيض تنعرف نشوفوا يابا، الموت أبيض".
في المقابر تتحد الأضداد دوماً، حتى في الملامح. تكون البرودة السارية في التغضّن متحدة بالقسوة التي تغلّف على نحو ما تفاصيل ما من أعلى الجبين. تتحد الخشونة الظاهرة بالهدوء الكثيف. يتحد الصمت كله برغبة الصراخ إلى أن يتمزّق الصوت في الحنجرة، ولكن صديقي ظلّ هادئاً على وقعٍ غير معهود. لم يتكلم ولم يبكِ وهو يهيل التراب. فقط صوت لهاث خفيف يهرب من جسده كله وكأن إيقاع جسده كله كان اللهاث. كان يلهث بصعوبة كمن خانه الهواء، حتى إنك لتظن أن الهواء في هذا النقطة في المقابر يخشى أن يمرّ، وكأن حتى الهواء يخاف من الموت.
بعد أن انتهى من إهالة التراب، تحلّق الجمع حوله لتقديم التعازي والمواساة التي قد تبدو وكأنها كلام يكسره ريح، لفرط ضعفه أمام فظاعة موت كهذا، وانتبهت أن الجمع الواقف حول صديقي كان يسرحُ في شرود مستمر. كان كل واحد منهم يبتعد في دائرة مغلقة لا أحد فيها غيره، كأنهم جوقة ظِلال لأفرادٍ لم يظلوا هنا. يقفون كلهم ولا يدركون بأن أكتافهم تلمس الأكتاف الأخرى، وكأن الحِسّ عندهم قد هدأ، خفّ، تلاشى، وكأن هناك شعوراً ما أضفاه الميت عليهم، شعور بـ"اللاحِسّ الشامل". شعور بعدم الشعور.
لم أقو على المكوث وجهاً لوجه أمام كثافة الموت، وقبل أن أرحل، سؤال واحد ظل يشتعل في رأسي: كيف ستكون الوجوه في غيابي؟... مجاز
بعد أن جلس على كرسي أبيض وشرد في نقطة بعيدة، لحقته. كانت عيناه لا تتحركان، مسمّرتان وكأن الجفن أيضاً أصبح بلا ذاكرة الرمش. جلست بجانبه وأردتُ أن أبقى على صمتي، فما هي الكلمات التي يجب قولها أمام الموت؟ ولكن لمسة يده كانت تقول لي تحدّث، وكأنها تسألني: ما الذي يحدث؟ أين أنا ومن هذا الذي أهلتُ عليه التراب؟ ولكن لا جدوى مما ليس لديك معرفة فيه أو عنه.
صمت لبرهة وقلتُ: "الموت حق وأنا هنا ومعك". أردتُ أن أقول له: أشعر بك، فأنا دفنتُ أبي في ذاكرتي مرات عديدة. لم أهِل التراب ولكن دفنته. ولسبب ما، وتحت تأثير قوى أجهلها تلبّسني صمتٌ، وصمتَ هو الآخر، والصمتُ أشكال، ولكن هذا أغرب شكل وأبشعه. ترك لي صمته عندما قام، ووجهه ظلّ مغلقاً.
في غياب الآباء نشعر بأن علينا أن ندفن وجوهنا، لا نقوى على مواجهة العالم دونهم. تشعر بأن وجهك عارٍ، وليس لك. تشعر في غياب الأب وكأنك تفقد وجهك، تفقد وجهك كاملاً. في غيابهم لا تقدر على النظر في المرآة، لا تريد أن ترى نفسك بلا وجه، في الغياب نفقد الوجوه.
لم أقو على المكوث وجهاً لوجه أمام كثافة الموت، وقبل أن أرحل، سؤال واحد ظل يشتعل في رأسي: كيف ستكون الوجوه في غيابي؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...