شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
اعتذار متأخر من سميرة محسن

اعتذار متأخر من سميرة محسن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 8 يوليو 202312:44 م



نعم هو اعتذار، وعن أيّة خطيئة؟

أمضيت حياتي بالسفر، معظم آسيا، كلّ أوروبا، الولايات المتحدة، ومجموعة من دول أمريكا اللاتينية، وفي أحيان أخرى، سفراً ما بين الجليد والصحراء الغربية. طيلة هذا العمر، لم أحمل معي حقيبة سفر، أما أغراضي الشخصية فأتركها حيث أغادر الفندق أو الشقة. حمولة واحدة رافقتني طيلة عمري: نجيب سرور.

ما الذي يعنيه نجيب سررور بالنسبة لفتى لم يغادر مراهقته بعد، ويقف على بوابات المحاكمة العقلانية، الوجدانية، بل لنقل العادلة من الحياة والأشخاص؟

رافقني لا نجيب الشاعر صاحب "البحر بيضحك ليه"، ولا مسرحياته العبقرية بدءاً من "منين أجيب ناس" و"قولو لعين الشمس" و"وبهية"، وروائعه في القراءة الوجدانية لهاملت شكبير. تماماً لم أحمل نجيب بشغبه، ولا نجيب بعبقريته، ولا نجيب باشتباكه الدائم مع كل ماله صلة بالحياة، فالرجل في ديمومة الاشتباك.

لا، شغلتني تلك الخيانة العاطفية لنجيب، وهي التي بعثت منه "كسميّات"، فيما لم يستطع نجيب أن يُعامل وليم شكسبير إلا كما لو كان محاوره، ولهذا قحّب "أوفيليا شكسبير"، ورسم المرأة عبر "سميرة محسن"، لتكون المرأة، هي المعادل الطبيعي، الضروري، اللامهرب منه للـ "خيانة العاطفية".

شغلتني تلك الخيانة العاطفية لنجيب سرور، وهي التي بعثت منه "كسميّات"، فيما لم يستطع نجيب أن يُعامل وليم شكسبير إلا كما لو كان محاوره، ولهذا قحّب "أوفيليا شكسبير"، ورسم المرأة عبر "سميرة محسن"... مجاز

كنت أتنقّل مسافراً وأنا أحمل نجيب، وأحمل معه أوجاعه، وكنتِ أنتِ الوجع الذي ألقى بكلكله على نجيب، حتى بات في "مشفى المجاديب". كانت الخيانة بالنسبة لي تتمثل في اثنين: بروتوس، ومن الصعب نسيان خنجره المسموم وهو ينزرع في قلب قيصر. و.. أنت، التي لاتعني بالنسبة لي وحتى دقائق معدودة، سوى الخيانة العاطفية، بل الجنسية حصراً، وأنت تتنقلين في أسرّة "أصحاب نجيب".

تلك هي الرسالة التي بعثها نجيب عنك، وتلك هي الرسالة التي تلقيتها كأي مأخوذ بالتلقي.

أعرفك منتصف التسعينيات من القرن الفائت (يا الله على هذا الزمن الحسابي)، شابّة يجوز وصفها بـ "من سلالات الخيل"، هكذا كانت طلّتك الشهية الأولى. امرأة بكل المخزون الأزلي من الأنوثة يمكن أن يُمنح لامرأة.

لا تُلقي راحة يدك على فمك حين تضحكين، تاريخك لا يُخجِل

أظن أنك أصبحتِ في الثمانين من العمر اليوم، أيّ في زمن "انتهاك الجسد"، ترهّله، وربما ضمور الإليتين عند المرأة بما يقلّل من أن تكون هدفاً لرجل. ولكنك في الثمانين، العمر الذي تخوننا أجسادنا فلا نقوى على الكذب.

الكذب يا سيّدة الاحتمالات، عمل مجهد، يتطلب بدناً قوياً، بل يتطلب قوّة ثور، ولهذا فما كتبته أنت عن نجيب، هو "أمّ الصدق". ما كتبته يا سيدتي هو "اللغة العاشقة"، "القلب العاشق"، الضمير العاشق"، ومن ثم الذاكرة التي لم تخزِّن من نجيب سوى "لحظة عشق".

أي امرأة رائعة أنت، مذهلة، قديسة، وبوسعك استعارة كل الأسماء النسوية الحسنى إن شئت ومعها الأسماء الذكورية كذلك.

عشقت دون أن تكذبي، فحكيت عن نجيب مالم تلتقطه الصورة، فصورة الرجل الجديّة لن تكون في الزقاق أو الشارع أو على خشبة المسرح، ولا في خنادق القتال حقاً. صورة الرجل الحقيقية في "غرفة نومه"، وأي نجيب في تلك الغرفة؟

في تلك الغرفة "نجيب الذي يُحثّك على الخيال والضحكات واللعب، حتى كنت تخالين أنك ستتقدمين في السينما على فاتن حمامة وتتخطين كل نجمات السينما المصرية وصولاً لمارلين مونرو".

أنت تعترفين بكل ذلك وتحكين عن مقابلتكما الأولى، وكنت بالفستان الأخضر الموّرد بنثرات ورود، وكنت تنتظرين من "نجم مرحلة" أو "وعد بنجم"، تنتظرين أن يغازلك، وغازلك مُقلّداً الدونجوان المجرّب، ففشل في تقليده، وكنت أول من أدرك براءة وطهرانية نجيب، وأوصلت كل هذه الرسالة البديعة من سّيدة طعنها نجيب بشرفها، وحوّلها إلى عاهرة مسترزِقة، وقال بك وعنك، ما يعجز الهجاء عن وصفه، لا لأنه وصف مستحَق، بل لأن وراءه الجانب الثاني من نجيب، وأعني: الجانب المظلِم.

الجانب المظلِم يعني ما تعنيه ازدواجية الشخصية في الجانب اللامرئي منها، ولد يلاعب الدنيا ويعاديها، يعشقها ليميتها، يظن بأنه الضحية فيشتغل على خلق ضحاياه منه وله.

الكذب يا سيّدة الاحتمالات، عمل مجهد، يتطلب بدناً قوياً، بل يتطلب قوّة ثور، ولهذا فما كتبته أنت عن نجيب سرور، هو "أمّ الصدق". ما كتبته يا سيدتي هو "اللغة العاشقة"، "القلب العاشق"، الضمير العاشق"، ومن ثم الذاكرة التي لم تخزِّن من نجيب سوى "لحظة عشق"... مجاز

كلها أمراض "اللامنتمي"، ذاك الذي يذهب في شؤونه إلى "ما لا يجب" وأبعد مما يجب.

رجل مسكون بالخيانة، المرأة بالنسبة له هي الوعد والجحيم بآن، وفي نجيب ثمة صراع ما بين هذا الوعد وذاك الجحيم، وكان عليه أن يخلق وعداً مأمولاً، ليُطاح بالوعد على الدوام من الأيدي الخفية، والنوايا الخفيّة، والمدن الخفيّة، بل من الذات الإلهية نفسها.

كنت أنت "الذات الإلهية" التي غدرت به، هكذا يظن، ومع أنه صوّرك في أشعاره، وخصوصاً بالأميات، على صورة "اللعنة" فقد "رفعك" إلى مرتبة "الذات الإلهية"، وأظن أن سيّدة ترتقي إلى احتلال شاعر من مثل نجيب، لابد وتكون "ذات إلهية".

ما الذي يجعلني أقول هذا بعد مضي ما يقارب 40 سنة على حملك ونجيب والتجوّل بكما؟ رسالتك التي كتبتها عن نجيب، جعلتني أدرك كيف حملتك (أقصد أنا) كائناً بشعاً، نهماً، طيلة هذه السنوات، وأنت كل هذا التدفّق من الصفاء والغفران والحب.

أدركت أنني نمت مع "العيب" سنوات طويلة، كان "العيب" هذا يرافقني لسنوات وسنوات، وأيّ عيب أكبر من أن تطعن امرأة بشرفها؟ شرفها ليس الجسدي فحسب، فالشرف ربما له علاقة وطيدة بـ "الوعد"، فمن ليس لديه وعد ما للآخر، أيّاً كان الآخر، فلابد وأن ينقصه "الشرف".

تكتب بكل ما أوتيت من تسامح وغفران. لا، بل تكتب بلغة البنت سلالة الخيل التي تكشف ضحكتها عن أسنان بيضاء بيضاء بيضاء، ضاحكة

نجيب طعن بشرفك بدءاً من التثاؤب وصولاً للسرير، فكان قاتلاً أيتها السيدة الطيبة، تماماً كما أولئك القَتَلَة الذين طالما حاربهم نجيب.

هكذا هو الحال: "عبقري قاتل"، هذا هو نجيب بالنسبة لي بعد أن قرأت رسالتك، رسالة "فيض التسامح"، ومن تلك السيّدة التي ستكون على هذا القدر من "التسامح"؟

إنها سميرة محسن، التي أهانها نجيب، وأهنتها على مدى سنين من عمري، حتى أظن أنني استثمرتها في علاقات حملت تماماً كل أمراض نجيب: الشكّ، الغيرة المرضية، رغبة في السيطرة على من لا يُسَطَر عليه، ومن ثم اختراع نهايات لحكايات لم تقع، تنتهي على الدوام بـ "الخيانة"، و"الخيانة" كانت محصورة عندي بالخيانة الجسدية، فقط الجسدية، أما باقي الخيانات، من مثل أن "تكذب"، فلا بأس، "يمكن تمريقها".

لقد أغلقت بوابة الحياة على سجين واحد هو "الجسد"، وها أنذا ابتدأت أصحو من نجيب، وأشفى منه، ورسالتك أضافت أسباباً للشفاء، فها أنذا أقرأ مجدداً، وأتخيّل مجدداً، وأنقلب على نفسي فأطيح بانقلابي هذا قناعات الأمس وأمراض الأمس، وبشاعة أن تنظّم إلى موكب يقتل فيه الإنسان انساناً حتى  ولو بدوافع عشق لا يرحم.

نجيب كان قاتلك (نعم أميّاته قتل معنوي بلا رحمة)، ورسالتك لنجيب حملت كل ما للأمومة من رحمة. للعاشقة من رحمة. للزاهدة من رحمة.

ولكون يتسع إلى الكثير من الرحمة حتى يتوقف عبث الإنسان بالإنسان، فأيّة امرأة فيك، هي تلك المرأة التي تلصّصت عليها قبل أن أعرف نجيب وعن نجيب: بنت ضحوكة، مقبلة على الحياة، حتى لتظن أنها ستكون ذات يوم امبراطورة فارسية.

نعم فارسية، فالتراث الجنسي الإيراني رسم للمرأة لوحات ربما ورثتها الصوفية: عينان ذكيتان، وأسنان لامعة بيضاء، هي المقدمة الضرورية للتعرف على سرّ المرأة.

أيّ عيب أكبر من أن تطعن امرأة بشرفها؟ شرفها ليس الجسدي فحسب، فالشرف ربما له علاقة وطيدة بـ "الوعد"، فمن ليس لديه وعد ما للآخر، أيّاً كان الآخر، فلابد وأن ينقصه "الشرف"... مجاز

أيّ كلام مضحك هذا الذي أقوله؟

ربما لا يستدعي الأمر ضحكاً، فذات يوم عرفت صبيّة حين  تضحك تلقي براحة يدها لتغطي فمها. في طفولتها انكسر سنّاها الأماميان، ومع الزمن اعتادت أن تقوم بهذه الحركة، ما يجعل منها بنتاً "خجولة"، "مترددة"، "طفولية"، لا ينقصها سوى حضن "أم".

لم يكن الأمر على هذا النحو: لقد كانت صبيّة مشتعلة، حادّة الذكاء، وقادرة على رسم بصمات يد من تعرفهم، أكثر من ذلك: كانت شغوفة، قاتلة، ومتسامحة في لحظة تستدعي التسامح.

أي امرأة رائعة أنت، مذهلة، قديسة، وبوسعك استعارة كل الأسماء النسوية الحسنى إن شئت ومعها الأسماء الذكورية كذلك

لعنة نجيب، بل ربما مأثرته، أنه لم ير من الحياة سوى "الدراما"، بما يجعل من طبق الحساء اليومي "دراما". "رجل يبحث عن قاتله"، كان هذا هو نجيب، ولأنه بالغ الفردانية والفرادة، لم يكن يرتضي أن "يُقتَل" عبر معركة وجنازات جماعية، لا، كان يبحث عن معركة يُقتَل فيها وحيداً، وهي معركة كان خاضها مع الاستخبارات بأجهزتهم التي لا تُستثنى منها الأجهزة الثقافية، فرشاد رشدي، رجل السادات، بوجهه الكالح، لم يكن قادراً ولا أجهزته على قتله، ولا جلال الشرقاوي التي وصفته أنت بـ "القوّاد" كان قادراً على قتله، والأنتخانة (مشفى الأمراض العقيلة)، لم تزد به سوى تداعيات الحكمة، إذن لابد من قاتل.

في لحظة المنعطف هذه انتقاكِ قاتلاً، وأنت حتماً تعجزين عن رفع سكين مطبخ.

كنت قاتلة من "اختراعه"، ولم نكن نعلم، لأننا أكثر كسلاً من أن نحاكم، نتقصّى، نشكّ، أو نُعمِل عقلنا، فالكشف (أيّاً كان إنسانياً / تكنولوجياً... الخ) يتطلب جهداً، ومتى اجتهدنا بما يكفي لنكون بشراً؟

لا، الاكثر كسلاً وأقل جهداً هوأكثر ربحاً في بلداننا (مصر/سوريا مثالاً)، هم الكسولون، جماعة الخفّة والترويج، ليس من بين هؤلاء سوى قلّة يشتغلون، ولهذا عبثنا بالكتاب الورقي ولم نتفهّم بعد قيمة الكتاب الرقمي. هؤلاء الكسالى يحفظون قصيدة "أميّات" لنجيب سرور كما لو منهاج مدرسي لولد (أبو مخطة)، وهؤلاء لا يعرفون ما الذي تعنيه "منين أجيب ناس"، ولا حواراته البديعة مع سيّد الحكمة أبو العلاء المعري. هؤلاء لم يقرأوا نجيب واكتفوا ببذاءة نجيب، وهي البذاءة العذبة (لو لم تقتلك ياسيّدة سميرة).

هذا كل ماقرأوه من نجيب، وثمة واحد وحده، من حقه اليوم أن يكتب عن نجيب هي: د. سميرة محسن.

تكتب بكل ما أوتيت من تسامح وغفران. لا، بل تكتب بلغة البنت سلالة الخيل التي تكشف ضحكتها عن أسنان بيضاء بيضاء بيضاء، ضاحكة.

مساء الخير يا سيّدة سميرة، يا بدع الورد، ياجمال الورد.

لا تُلقي راحة يدك على فمك حين تضحكين، تاريخك لا يُخجِل.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image