شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
وأنا أفكّ أربطة كل الصفعات التي تلقيتها

وأنا أفكّ أربطة كل الصفعات التي تلقيتها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 24 يونيو 202312:59 م

الخبز المرّ

 

لم تكن طفولتي سهلة، وجدت كلّ شيء أردت الحصول عليه يتمطى بدلال في حضن رفاقي، يبادلني الابتسام بشيء من التشفّي أحياناً، وفي أحيان أخرى كانت الشفقة طريقتنا في تحسّس شوكة غاصت في عيوننا ولم تصل إلى القاع. أردت يوماً دمية مثل جارتنا حين كنت أزورهم مع أمي، ولم أجد إلا صفعة أعادتني إلى صوابي مؤقتاً. لم تكن السرقة خياراً متاحاً للتملّك، ربما، كانت الاستعارة مؤقتاً حيلتي التي كُشفت أثناء خروجي من الباب.

مخاوف العصافير

الفقر كان يناسبني، لمسة خدرة في بشرتي، وجمال رائق، ارتفاع ضئيل لفقرات ظهري، وعنق يحمل حكايات الليل في حارتنا، ويتركني أترنّح كفزاعة مثقلة الكتفين بمخاوف العصافير. لا شك أنني أحتفظ بالعديد من مُثل القناعة، الرضا بأي شيء، إلى أن أتمكن من الوقوف وحدي دون مساعدته، إلى أن أمتلك لحظتي الخاصة، وعرشي المنتزع من أنياب الهزائم والخسارات. ضعني على باب ذاكرتك؛ سترى وقتها كل الأشياء التي طالما حلمت بها تهرب بجناحين، وصفعات الريح تتناوب عليك في ورديات صامتة.

الأخ الكبير

الفقر كان يناسبني. ابنة كبرى لأبوين أميين، بجانب طموح كبير في أن نأخذ نصيبنا من التعليم، قدر ما دعت الحاجة إلى تزيين الجدران بشهادة لائقة. نحن كثر على أن نقتسم رغيف الخبز والزي المدرسي بعدالة؛ كنا نتفاوض في جلسات مطولة: الاستحقاق الأول للكبير في الزي المدرسي، والاستحقاق الدائم للصغير في لقمة الخبز والتدليل، والصفعات كانت نصيب المخطئ، الذى ترك أخاه وحده ومساحة هادئة ليخطط وينفذ، الأخ الكبير من المفترض أن يراقب ويتحمل وحده، ودائماً العقاب.

الفقر كان يناسبني، لمسة خدرة في بشرتي، وجمال رائق، ارتفاع ضئيل لفقرات ظهري، وعنق يحمل حكايات الليل في حارتنا، ويتركني أترنّح كفزاعة مثقلة الكتفين بمخاوف العصافير... مجاز

كل شيء بمقابل

الفقر كان يناسبني، هيكل عظمي مرن وشفيف تسلل إلى حياتي رغماً عني، وتوغل في لحمي كحبيب أليف، بمراسم هادئة تقبلني، كنت دميته بصفة رسمية، وبتراض عقدنا نوعاً من الاتفاق الأبدي. علق في خطواتي، وفي ضيق وقفتي تمدّد إلى أن سرق ملامح وجهي وابتساماتي، والطريق محض خرقة، يجمعها خلفي في جوال أحمله على ظهري. ظلّان نحن، يقبرني وأرثه، كنت في وداعة قطة تتجوّل أمام الدكاكين، العالم ملكها، على بعد خطوة، مسافة تمتد إلى سنوات ضوئية. لم تتلوث ذاكرتي بالأشياء الثمينة إلا على الرفوف العالية، البعيدة، وأمامي رجل، بوجه قاس يدقق في نظراتي، ويكتب جملته الحاسمة، فوق جبهتي: "كل شيء بمقابل وإلا تجدين الصفعة".

حيوات مهجورة

الفقر كان يناسبني، دكتاتور استعراضي يرتدي ملصقات الأسعار، ويسير بي إلى الهامش. يودع بيضته الذهبية تحت إبطي، ويقرأ بيأس قصة عائلتي، منذ ترك جدي حقله يتحول إلى ضريح، والمريدون يبتلعون أمانيهم على بابه مع الدموع. الكثير من الحيوات المهدورة تلتصق بعينيك، لمجرّد أن طرقت عتبته، أن رفعت يديك إلى رغباتك، وحطمت حلقة الصمت التي تعانق حياتك، وتستعبدك.

منذ أن طبخ ابنه قلبه لنسوة القرية والجوع قادم، والسيدة التي حطت فوق كتفه، تسرق نذوره، وتعده بالأولاد، الكثير منهم، منذ أن ترك أبناؤه ديارهم للخراب، ذهبوا ليحاربوا فقاعات الصابون الذي لا يعرفونه على الجبهة، ولا يعودون. منذ أن اقتسمت قلمي مع حلم، وجرؤت على الصراخ باسمي، منفرداً، في وجه أبي، وأيامي تهرب حذرة من أن تأخذ الصفعة عني.

الإمبراطور الشقي

في بيتنا، كان الفقر إمبراطوراً يدير أملاكه، كان مثلاً الحصول على كتاب نوعاً من الرفاهية، لم أتذوقها إلا في المدرسة. لم يعجبني هذا الطعم في كثير من الأحيان، كالمجلوب من الجحيم. في العراء أركض بشعلتي، كالخائف وفوقه عصا المدرس، أقرأ، كالضائع في الأخطاء الإملائية، أكتب، كالهارب من الفشل والدوائر الحمراء في شهادة نهاية العام، أحفظ، حتى امتلأت ذاكرتي بكدمات، وشهادتي بزهرة حمراء حول اللغة العربية. في البداية اختطف عيني اللون الأحمر، امتلكني، لكني تذكرت، كم يبدو سيئاً في المرايا كصفعات على وجهي!

إثبات الملكية

أتذكر قريبنا وهو ينهرني لأستمر في الكتابة خلفه، على الخطوط المتقطعة للحروف الأبجدية. كنت أحب خطوطي الخاصة، أترك لها المساحة بكاملها في كراس الواجب، وهو كان مزهواً بالانضباط، إلى حد أنه صفعني مرة حين انحرفت خطوطي إلى خارج الصفحة. رسمت على كفه حروف اسمي بجوار زهرة، كنوع من إثبات الملكية؛ فالكراسات بالأقلام كانت بكاملها تحت سيطرته، حضرتني صفعته، هو أيضاً تسلل إلى حياتي، مثل ظل يلازمني كلما أمسكت القلم.

في بيتنا، كان الفقر إمبراطوراً يدير أملاكه، كان مثلاً الحصول على كتاب نوعاً من الرفاهية، لم أتذوقها إلا في المدرسة. لم يعجبني هذا الطعم في كثير من الأحيان، كالمجلوب من الجحيم... مجاز

بداية حصتي في الفشل

 تمضية الوقت مع الفشل في اللغة العربية، أثناء الذهاب والعودة إلى المدرسة في الصف الأول الابتدائي، كان يأسرني، يلتهمني، ولم يترك لي الكثير لأعالجه إلا بالبكاء بصمت. أتذكر صفعة أبي يوم نتيجة نهاية العام الدراسي، وإعلانه رفض الذهاب معي إلى المدرسة، مرة أخرى مطلقاً. أتذكر آلامي كلها، وقفتي مع ثلاثة آخرين تحت الشمس أمام لجنة المدرسة، في امتحان الدور الثاني، وخوفي من تكرار السقوط في الدائرة الحمراء، التي تتربص بيّ في الشهادة، حتى تبتلعني بالكامل.

وعد أمي

لم يشعلوا المصابيح في اللجنة، اعتمدوا على ضوء الشمس المتسلّل من النوافذ، ظلام خفيف كان يفترسني، حتى إنه لم يترك لي مجالاً لأخاف أو أتذكّر فشلي. تحت هذا الظلام اخترعت ظلاً ليكون رفيقي، ليعبر بي هذه الساعة الفاصلة في حكايتي، هذا الظل كان وعد أمي، أنني لن أضرب مجدداً من قريبنا لأنه لن يُدرّس لي مجدداً، ليس لأنني أتألم من صفعاته وفقدت سناً، أخبرتني بهذا، لكن لأنه فقط مدرس فاشل.

كعك اللحظات القاسية

الدائرة الحمراء حول اللغة العربية، الكعكة الكبيرة التي قدّموها باسمي، مازال بريقها يومض كلما كتبت قصيدة

كلما فتحت كتاباً

كلما صفعني الفشل واستحوذ على الكلمات في حلقي، قبل أن تهرب وتعترض طريقي، كلما خذلتني ثقتي في نفسي، كلما أخطأت رغما عني في مراقبة إخوتي، كلما تنبهت إلى الندوب في ورقة إجابتي على أسئلة طرحها آخرون نيابة عني، تلك الطمأنينة من جانبهم لم تكترث لي في طفولتي، ولم تصنع مستقبلاً آمناً لخطواتي، لكنها تركتني للشعر، وأعتقد أنه كان ملاذي الأنيق الذي صنعته في خيالي.

تاجي الأبدي

على هامش الفقر، كرهت الدوائر الحمراء التي صنعها لي الآخرين، كرهت اللون الأحمر نفسه، وإرغامي على تقبل القليل من الأشياء التي زهدها غيري، حصتي الضئيلة من الأمان لم تنفعني، وأنا أخفي التمزّق في حذائي بين زملاء الفصل، وأنا أريد الحصول على المال لأشتري وقت مدرّس يشرح لي المواد الدراسية بلطف، وأنا أتقدّم إلى اللغة العربية ببضع كلمات في قصائد ستهبني الخلود، وأنا أفك أربطة كل الصفعات التي تلقيتها، وأجعلها تطوف فوق رأسي، مثل حلقة نارية تحميني من تطفل الآخرين ومن خوفي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image