شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
مقاطع من حدوتة مصرية اسمها عبد الرحيم منصور (الرابعة والأخيرة)

مقاطع من حدوتة مصرية اسمها عبد الرحيم منصور (الرابعة والأخيرة)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 13 يوليو 202311:38 ص

آخر شهادة جمعتها من المقرّبين لعبد الرحيم منصور، كان صاحبها الشاعر ماجد يوسف، أحد أبرز أسماء جيل السبعينيات في شعر العامية، والذي ارتبط بصداقة قوية مع عبد الرحيم استمرّت حتى نهاية حياته.

وقد تحدث في شهادته عن علاقة عبد الرحيم بشعراء جيله والأجيال التالية له، قائلاً: "عرفت عبد الرحيم سنة 1970 تقريباً، كان ذلك بالصدفة، وربما لو لم تحصل خناقة بين المخرج الإذاعي الكبير فتح الله الصفتي والشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي لما كنا اتعرفنا على بعض. كان الصفتي بيقدم برنامج إذاعي شهير محوره الشعر بعنوان (حروف الكلام)، وكان الأبنودي بيكتب حلقاته، وفي مرة حصلت خناقة بينهم بسبب مزحة قالها الأبنودي واعتبرها الصفتي تجديفاً، لإنه كان متدين وابن شيخ أزهري، وقرّر الصفتي ينهي علاقته بالأبنودي، وحكى لصديقته الفنانة نعيمة وصفي اللي كانت، بالإضافة لكونها ممثلة قديرة، كاتبة ومثقفة وبتتذوق الشعر وبتتابع الكتاب الشباب كويس في المجلات والأمسيات الشعرية، فرشحتني له.

كان الصفتي عمل للبرنامج كونسلتو من شعراء من الجيل التالي لجيل الأبنودي وسيد حجاب، ومنهم عبد الرحيم منصور ومجدي نجيب وإبراهيم عبد الباري وأنا، كنت أصغرهم سناً ولسه في الكلية بدرس الفنون، وتعرفت على عبد الرحيم ضمن هذه المجموعة، وانطباعي الأول عنه كان رائع وهو نفس انطباعي الذي لا زلت أحتفظ بيه حتى الآن، في ناس بتقابلهم تحسّ من أول لحظة إنك تعرفهم من زمان، حاجة مالهاش تفسير، عبد الرحيم كان الأكثر ودّاً من بين كل الوجوه المبتسمة، عنده نظرة تعاطف وتفاهم حقيقية تخليك ترتكن عليه وتسند عليه، انطباع لم تخيبه الأيام.

كان عبد الرحيم يفرح لأي قصيدة جديدة بكتبها ويقول لي بالضبط إيه مواطن الجمال فيها وإيه اللي عجبه وإيه اللي ما عجبوش، وكنت بصدقه وعمري ما حسيت إنه بيكسّر مقاديفي زي آخرين. كنت دايما أحسّه أمين وصادق، وأمارس معه نفس الدور رغم فرق السن، وكان يستمع إلى ما أقوله باهتمام ويتفاعل معه دون استعلاء."

يضيف ماجد يوسف قائلاً: "لا أفهم الفنان الكبير في فنه القليل في إنسانيته. عبد الرحيم كان كبير في فنه وإنسانيته بعكس آخرين من أبناء جيله. كنت أصفه بإنه الإنسان النٍّسمة: حضوره خفيف وكلامه رقيق لا يخدشك ولا يجرحك ويمضي في خطواته هادئاً ومتأملاً، يمكن ده اللي موّته بدري. رقته الشديدة وذوقه المفرط مع الناس. طبعاً طول الوقت كان في مقارنات بتعقد بينه وبين الأبنودي بوصف الاتنين جايين من نفس البلد، وعبد الرحيم مشي في نفس سكة الأبنودي لكنه ركز على الأغاني أكتر.

المقارنات دي فكرتني مع الفارق باللي اتقال في المقارنة بين جرير والفرزدق، لما قال أحدهم جرير كأنه يغرف من بحر والفرزدق كأنه ينحت من صخر. أنا كنت بشوف الأبنودي كأنه يغرف من بحر وعبد الرحيم ينحت في صخر. ربما يتصور البعض إن ده تقليل من شأن الأبنودي أو عبد الرحيم، يعني من يغرف من بحر موهبته ليست أقل ومن ينحت في صخر ويعاني ليست موهبته أقل. الاتنين متميزين كل بطريقته، الأبنودي تلاقي الأغاني والأفكار طالعة منه بسلاسة شديدة، لكن عبد الرحيم، أنا فاكر لما كنت أزوره في بيته في المهندسين، ألاحظ إنه بيعاني معاناة شديدة في الكتابة، وكنت أستغرب ده بعد كل النجاحات اللي حققها.

الشاعر ماجد يوسف، أحد أبرز أسماء جيل السبعينيات في شعر العامية، عن عبد الرحيم منصور: "عبد الرحيم كان الأكثر ودّاً من بين كل الوجوه المبتسمة، كنت أصفه بإنه الإنسان النٍّسمة: حضوره خفيف وكلامه رقيق لا يخدشك ولا يجرحك ويمضي في خطواته هادئاً ومتأملاً، يمكن ده اللي موّته بدري"

يقول لي إن مشكلته دايماً في إنك توصل لفكرة جديدة وزاوية ما اتقالتش، لإن الأغنية فكرة في الأساس، وعشان كده لما تتأمّل أغاني عبد الرحيم هتلاقي وراء كل أغنية فكرة غير مسبوقة. مع الأسف عندنا قصور في نقد الشعر الغنائي لتبيان أهمية ده، وإن إبداع عبد الرحيم مهم زي إبداع مرسي جميل عزيز وفتحي قورة والأبنودي. عايزين عمار شريعي مخصوص للكلام يحلّل للناس جماليات الشعر الغنائي.

يعني مثلا تأمل أغنية عبد الرحيم لنجاة (أنا أعشق البحر) في رأيي إن فيها تناول متفرّد وهو أنسنة مظاهر الوجود وإسباغ المعنى الإنساني على ما نراه حولنا وتعودنا على وجوده، لما يقول: "وضاع فيه الصديق... أنا باعشق الطريق". الفكرة دي لوحدها ممكن نشرحها في كلام كتير جداً، إزاي يقدر يكثفها بالجمال ده؟ هو ده النحت في الصخر اللي كنت أقصده. أغاني كتيرة بتتكلم عن مواقف الوداع التقليدية، ييجي عبد الرحيم يقول: (كله في المواني يابه)، تحس إن الدنيا كلها ميناء كبير. كل يوم بتلاقي فيها ناس بتفارق وناس بتوصل وناس بتحط وناس بتشيل. لما جه يغني لمصر قال لها: (يا أم الصابرين)، تعبير يلخّص قيمة الصبر اللي هي جوهرية ولصيقة بحياة المصريين وتكاد تلخص حياتهم.

لما كتب بعد حرب أكتوبر (بسم الله... الله أكبر) قدر يلتقط التعبير الشعبي في الشارع ويقول: (وأنا على الربابة بغني)، شوف الأغاني الوطنية اللي عملها عبد الرحيم وقارنها بشغل غيره، هتلاقيه عمل انقلاب في مفهوم الأغنية الوطنية وربطها بمفردات الوجدان القومي العادية، وده كان متسق مع طبيعته، لإنه ما كانش يحب الصوت العالي لا في كلامه العادي ولا في الشعر.

أنا بعد ما خلصت الجامعة دخلت الجيش، وكنت بكتب وأنا على الجبهة برنامج شعري إذاعي، ولما كنت أقابل عبد الرحيم كان بيسألني بالتفصيل عن الأوضاع على الجبهة وحياتنا هناك واللي بنعمله، وطلع مع بليغ حمدي جولات على الجبهة، وكان متشبع جداً بروح التحفز لتخطي الهزيمة وتحقيق الانتصار، عشان كده تلاقي هذا الشاعر الذي ينحت في صخر لما تيجي الساعة المناسبة بعد العبور، يقعد في الإذاعة ويكتب كل يوم أغنية واتنين، ويحوله النصر من ناحت في الصخر إلى غارف من البحر".

يواصل ماجد يوسف استرساله محاولاً رسم ملامح شخصية عبد الرحيم منصور قائلاً: "لما عرفت عبد الرحيم ما كانش مرتبط. كان من فترة للتانية يبقى في علاقات عاطفية في حياته، ويقدم لنا فلانة أو علانة بوصفها مطربة محتملة. بعضها كانت علاقات ناجحة والبعض غير ذلك، لكنها كانت علاقات قصيرة، وفجأة لقيته بيقول لي أنا اتجوزت وخدت شقة جنبك. رحت له كتير البيت وارتحت جداً لزوجته اللي عملت فرق كبير جداً في حياته. كانت سيدة بسيطة وتقدس عمله وتعتز جداً بشغله من غير ما تكون مدركة لطبيعة اللي بيعمله بالتفصيل، وعندها حياء وخجل مناسب لطبيعته، لإن عبد الرحيم كان من أكثر الناس نأياً عن الدعاية لنفسه، لو امتدحته في حضوره تلاقيه حييّ وشديد الخجل، وأعتقد أنه كان من عيوبه التواضع الزائد، بالإضافة إلى عدم اهتمامه بصحته وما عندوش قدرة على ضبط إيقاع صحي لحياته، ويبدو إن ده كان على كبد منهك فما استحملش حالة الفوضى الشاملة اللي كان فيها، خصوصاً إنه عايش أغلب الوقت مع فوضوي كبير زي بليغ حمدي.

عبد الرحيم ما كانش مرح، كان حزين بشكل ملحوظ. حزن أكبر من المشاكل الدنيوية. قطعاً كان عبد الرحيم بيعاني من اكتئاب، يعني الاكتئاب ده سمة ملازمة لأغلب الشعراء. دي لعنة الشعر وكونه عين تخترق السائد والمألوف. ترى الدودة في قلب التفاحة. الشاعر ما عندوش ترف تجاهل الأسئلة الكبرى طول الوقت، وعشان كده بقول: الشاعر مقتول مقتول، الشاعر مقتول بالعرض، الشاعر مقتول بالطول، الشاعر مقتول على طول.

ويمكن عبد الرحيم كان بسبب هدوئه وقلة كلامه عن نفسه يدي انطباع إنه مش مهموم زي الآخرين اللي بيعبروا طول الوقت عن مشاعرهم ويعملوا حوارات كتير وحضورهم طاغي، عشان كده عبد الرحيم ما خدش حقه الذي تؤهله له موهبته. الأبنودي وسيد حجاب خدوا حقهم أكتر منه، برغم أنه كان أكثر فنية في كتابة الأغنية منهما، في الوقت نفسه كان غناؤه أقوى من شعره بعكسهم.

طبعاً صلاح جاهين كان المجدّد الأول في الشعر الغنائي بعد جيل الأساتذة، وتبعه الأبنودي اللي بعتبره الرائد الثاني واللي استكمل الأغنية ذات الطعم المديني وسبق أستاذه في بعض الأحيان، وكان غناء كل من الاثنين للثورة مختلف. بعدها جه عبد الرحيم ووضع لنفسه حجر كبير في هذا الغناء، وقدر يكون ليه صوت هايل لم يكشف عنه النقاب حتى الآن.

مع الأسف كنت أتمنى إنه يتم الاهتمام بيه وبتجربته، لكن احنا بلد لا تهتم بمبدعيها وسيادة قيم الوساطة والرشاوى والفساد بتطرد قيمة الأدب والفن، وتلاقي المثقف والفنان في عصور الانحطاط، إما يتحول إلى تابع للسلطة، أو يكون عنده وعي فيعتصم بنفسه وبيته ويستغني، ويدرك الحقيقة المؤسفة إن المثقف عقل بلا سلطة في مواجهة سلطة بلا عقل، لكن متأكد إنه يوماً ما هيترد الاعتبار لعبد الرحيم منصور، ودوره المهم في الوجدان المصري".

يا ليل ينوبك ثواب وصّلني للعتبه
مشيت كأني غريق الأرض للرقبه

تأكدت صورة عبد الرحيم منصور الخجول الحيّي المبتعد عن الأضواء التي رسمها من حاورتهم عنه، حين بحثت في أرشيف الصحافة المصرية طيلة سنوات السبعينيات وأوائل الثمانينيات، التي لمع فيها عبد الرحيم منصور وقدم أبرز إنتاجه، فلم أجد إلا عدداً قليلاً جداً من الحوارات الصحفية التي أجريت معه، كما كان ينبغي وكما كان يحدث مع شعراء أقل منه نجاحاً وتأثيراً، أبرز هذه الحوارات النادرة نشرته مجلة "صباح الخير" التي كان لها الفضل في اكتشافه، خلال رحلة لويس جريس إلى الصعيد في أوائل الستينيات، والتي كتب فيها سلسلة بعنوان "المضروبون بالفن"، وحين جاء عبد الرحيم إلى القاهرة كانت "صباح الخير" أول مكان يزوره، ليضع أمام محرّريها كراساته المليئة بالقصائد والأغاني ويطلب رأيهم فيها، وحين قرأت حواراته في "صباح الخير"، وجدته يفضل فيها الحديث عن قضايا عامة تخص الشعر والفنون أكثر من حديثه عن تجربته وحياته الشخصية.

خذ عندك مثلاً هذا الحوار الذي أجراه معه الشاعر والصحفي جمال بخيت، ونشرته المجلة في يناير 1983 بعنوان "عبد الرحيم منصور بين الأغنية والقصيدة"، قائلاً في مقدمته إنه ذهب ليتحدث مع عبد الرحيم عن أشعاره، "فبدأ عبد الرحيم حديثه، كعادته، بأشعار الآخرين"، لنرى في ذلك الحديث تفضيلات عبد الرحيم ومشاعره وعلاقته بشعراء عصره حين يقول: "بيرم التونسي، كما قال الدكتور مصطفى مشرفة، لا يقل شاعرية عن الخالدين جوته وشكسبير. فؤاد حداد هو متنبي العامية، يمتلك فروسية متفردة في الكلمة، إنه الفارس الكلاسيكي صاحب الرؤى الجديدة جداً التي تتجاوز في حداثتها إبداعات الشباب مع جزالة الكلمة والصورة، وفي رأيي أنه لم يأخذ حقه من التكريم.

عبد الرحيم منصور في حوار مع جمال بخيت: "بيرم التونسي لا يقل شاعرية عن الخالدين جوته وشكسبير. فؤاد حداد هو متنبي العامية. صلاح جاهين خرج من معطفه معظم الشعراء الكبار. فؤاد قاعود ما زال حقه مهضوماً وهو عظيم منذ البداية، وفي رأيي أنه الامتداد الحقيقي لبيرم التونسي"

يجب أن يقوم شعراء العامية بتكريمه، وكذلك يجب أن تفعل الدولة، فقد أعطى الكثير للشعر وترك بصماته على الكثير من الشعراء. يكتب العامية والفصحى بنفس المقدرة المذهلة، يكتب بلا ضجيج ولا إعلان. صلاح جاهين خرج من معطفه معظم الشعراء الكبار، فقد اهتم بتقديمهم في الستينيات وأعطاهم من وقته وجهده حتى أصبح هناك وجود أقوى للشعر العامي. فؤاد قاعود ما زال حقه مهضوماً وهو عظيم منذ البداية، وفي رأيي أنه الامتداد الحقيقي لبيرم التونسي، مع الوضع في الاعتبار عصرية صوته والخصوصية الشديدة لهذا الصوت، ثم إن ما يكتبه في "صباح الفل"، عنوان الباب الشعري الأسبوعي الذي كان يحرره قاعود في مجلة صباح الخير، شيء خطير جداً، وللأسف الشديد لا أحد ينتبه لهذا، كما لم ينتبه أحد إلى القيمة الحقيقية للحضرة الزكية الإبداع الخطير لفؤاد حداد.

سيد حجاب القادر الوحيد على مسرح شعري عامي، لأنه أنضج الشعراء درامياً ويملك عملقة الشعر المسرحي من خلال ثقافته والمعمار المتماسك في كلماته. مجدي نجيب يذكرني بلوركا، فهو بجانب الشعر فنان تشكيلي، ولهذا تستطيع أن تقول عنه إنه يكتب لوحات. عبد الرحمن الأبنودي استطاع أن يضم أشعاره في دواوين ترصد من خلالها حركته الشعرية المفردة، فما زالت أقدامه تغوص في الواقع المصري بكامل أحلامه وهمومه، وبكل أحزانه الخضراء والسوداء، واستطاع كباحث أن يقدم لنا تراثاً عظيماً ويشرحه في (سيرة أبو زيد الهلالي) وغيرها".

حين يسأله جمال بخيت: "ماذا استفدت من الأغنية؟"، يهرب عبد الرحيم من الحديث عن نفسه، قائلاً: "لقد استفادت الأغنية من شعراء العامية فقد حدث لها ثراء غير عادي وانتقالة كبيرة جداً بعدما دخل ميدانها فؤاد حداد وصلاح جاهين والأبنودي وغيرهم، بدأت تدخل فيها من حيث الشكل الصورة الشعرية المكثفة ومن حيث المضمون ابتعدت عن الموضوعات التقليدية، ناقشت الطبيعة والعلاقات الاجتماعية والسياسية الجديدة وأيضا موضوعات إنسانية لم تكن تطرح في الأغنية من قبل، لكننا خسرنا من أجل الأغنية مجالات أخرى مهمة، كالقصيدة والديوان والمسرح الغنائي، وكان اتجاهنا إلى الأغنية بالذات دون غيرها من هذه الفنون العظيمة لعدة أسباب، لعل أهمها انحسار فرص النشر بشكل يدعو للأسف، وكذلك انعدام الحركة النقدية التي تنير الطريق للشاعر ليعرف ما الذي يكتبه، ما وجه الإبداع فيه، ما هو موقفه من شعراء جيله ومن الشعراء الذين سبقوه والشعراء اللاحقين له وما هو موقفه على خريطة الشعر بوجه عام".

يا بنت عم النور
تعالي لما نزور
عبد الرحيم منصور
الشاعر الشعبي
هو اللي مدّ وقال
في ميتم الموّال
هوّن عليك يا خال
ورد البلد صاحبي

وبرغم حديثه باعتزاز عن تجاربه مع شادية وفايزة أحمد ومحمد منير وعفاف راضي ومحمد رشدي وغيرهم، لكنه يؤكد في ختام حواره القصير أن القصيدة ما زالت هي الملاذ والهدف والحنين، ولذلك قرّر أن يتفرّغ لاستكمال دواوينه التي لم تنشر بعد، وكتابة الجزء الأول من ملحمة "المغنواتي" والتي كان يراهن على أنها ستكون خطوة في طريق تحقيق المعادلة الصعبة بين القصيدة والأغنية، والذي بدأه منذ ديوانه الأول "الرقص ع الحصى" والذي أهداه إلى معلمه الأول، أمه، قائلاً: "إلى أمي بنت الشيخ إسماعيل الخلاوي من دندرة نجع الرو بندر قنا، تعلمتُ على يديها الشعر، فحينما كنت صغيراً، كنت أجلس بجوارها أمام الفرن، وهي تخبز أرغفة الخبز على نيران شجر السنط، وأشعر أن الإنشادات التي تقولها أمام النار كأنها نقش الفراعنة على المعابد القديمة وأن هذه الإنشادات هي التي تطيّب الخبز وليس شجر السنط".

بعدها بعام، وفي 5 يناير 1984 نشرت مجلة "صباح الخير" آخر حوار صحفي كبير أجري مع عبد الرحيم، حيث سأله الصحفي محمود سعد عن تجربة فيلم "الزمار" التي اشترك فيها مع المخرج عاطف الطيب والنجم نور الشريف، فتحدث عبد الرحيم عنها بسعادة وحماس، قائلاً إنه ضاق بما يجري في شارع الأغنية الذي لم يعد يجذبه، فقرّر البحث عن قناة أخرى للتعبير عن مشاعره وأحزانه، ووجد ضالته في الدراما التي كان قد بدأ العمل فيها عام 1978، حين كتب حوار مسلسل "مارد الجبل" فأعجب نور الشريف بكتابته ودعاه عام 1983 لجلسات عمل مع عاطف الطيب والدكتور رفيق الصبان، أنتجت تجربة "الزمار" التي حققت لعبد الرحيم ما قاله لجمال بخيت قبل عام، عن أهمية ألا يعيش الشاعر محبوساً في إطار الأغنية وأن تكون جزءاً من تجربته، ويضيف عبد الرحيم قائلاً: "ليس معنى ذلك أنني لن أكتب الأغاني، لكني أرفض الأغنيات التي لا تحمل سوى كلمات حب، شكلها العام جميل ونتيجتها مزيد من الكسل لعقول الناس. الأغنية يجب أن تتكلم في كل شيء، ففي أغنية (حدوتة مصرية) تكلمت عن الحب والبشر والإنسانية والغضب والحيرة، وأنا أرفض التبعية في الغناء ومعظم ما يُكتب من أغنيات اليوم كُتب من قبل والفرق فقط في ترتيب الجمل، لكن الفكرة واحدة ومنقولة من تراث الإذاعة، لذلك احترامي يتزايد دائماً للفنان متقال، لأنه يعلن أنه ينقل التراث الصعيدي ولا يدعي التأليف والعظمة، وهذا ما دفعني للبعد عن شارع نجوم الغناء، حيث يضعون اشتراطات خاصة للأغنية لا تناسبني ولا أعرفها، وأجد سعادتي الحقيقية مع بعض الشبان الجدد الذين يتذوقون الكلمة".

ورداً على سؤال عن المشاريع التي تشغله وقت إجراء الحوار قال عبد الرحيم منصور: "هذه الأيام أعيش فترة خصبة وسعيدة لنفسي مع الملحن أحمد منيب والصوت النوبي محمد منير، ومعنا هاني شنودة ويحيى خليل"، ثم تحدّث عن مراحله الغنائية السابقة قائلاً: "في فترة من الفترات قدمت بعض الأغنيات لم أكن راضياً عنها، لكنها والحمد لله قليلة، ولقد مررت في حياتي بأكثر من مرحلة، في كل مرحلة ارتبطت بملحن ومطرب، أذكر فترة بليغ حمدي وعفاف راضي كانت فترة مفيدة في حياتي، ثم كانت تجربتي مع وردة في مسرحية (تمر حنة) وبعض الأغنيات أيام حرب أكتوبر، وفترة صدق عشتها مع محمد حمام والملحن محمد الشيخ"، قائلاً إنه يرفض تعبير "أزمة الأغنية"، لأن عناصر الأغنية التي تمثل الكلمة واللحن والصوت موجودة والأزمة مصطنعة: "لأن أجهزة الإعلام تروّج الأغنية الموجودة أمامها وهذا الموجود ردئ ولا أحد يبحث عن الجيد الموجود، فكيف يكون هناك أزمة في الكلمة ويعيش بيننا أعظم شاعر في تاريخ الشعر الشعبي المعاصر وهو فؤاد حداد، الذي يملك صرحاً ضخماً من القصائد الرائعة، ولا أحد يسأل عنه وهو لا يعرف طرق الأبواب، وهناك مجموعة من الشبان الشعراء والملحنين والمطربين الذين يعبرون بكل صدق عن جيل هذه الأيام، منهم حمدي منصور وجمال بخيت ومحمد السيد، والمطربين محمد منير وعلي الحجار، وغيرهم كثيرون يجب البحث عنهم ومساندتهم بدلاً من ترويج أغنيات الفرح الأهبل والحزن العبيط، أغنيات لا علاقة لها بالإنسان وجذوره ومعاناته اليومية، ورغم وجود عشرات وعشرات من أصحاب أغنيات النكد والهبل العظيم ووجود قلّة تكتب أغنيات لها معنى وقيمة، فهذه القلّة لو أتيحت لها الفرصة تستطيع أن تجعل الأغنية المصرية تعيش عصراً ذهبياً".

عن الأغاني الوطنية الموجودة في وقت إجراء الحوار، قال عبد الرحيم منصور: "أشعر بالحزن حين أسمع أغنيات هذه الأيام، خاصة تلك التي تقال في المناسبات ولا أدري لأي مصر يغنون! وأعتقد أن السبب في ذلك يعود إلى المسؤولين عن الإذاعة والتلفزيون الذين يكلفون كتاباً معينين ليكتبوا أغنيات المناسبات، والتكليف هو مثل الكتابة على سطح من الجليد"، متحدثاً عن حزنه لأن بعض التجارب المختلفة التي حاول تقديمها للتعبير عن الوطن وأحداثه لم تجد طريقها إلى الظهور في أجهزة الإعلام، مشيراً إلى أغنية "هيلا" التي كتبها منفعلاً بترميم القلعة، وأعجب بها أحمد منيب الذي وصفه بالملحن الأصيل، وغناها محمد منير في فيلم تسجيلي عن القلعة، "وحين انتهينا من احتفالات افتتاح القلعة تجاهل الجميع الأغنية رغم أنها قصيدة عامة، وبصفة عامة، القوانين التي تحكم الإذاعة تقتل روح الإبداع في الفنان".

 وفي نهاية الحوار سمح لمحمود سعد بنشر مقطع من آخر قصيدة كتبها متأثراً بأحداث الحرب الأهلية في لبنان، والتي قال فيها: "دارت بينا ريح الطريق.. وشقيق بإيده سالت دما أخوه ع الطريق"، والتي لحنها بعد ذلك حميد الشاعري، لتكون من أجمل أغنيات محمد منير الصالحة لكل الأزمنة العربية المليئة بالمذابح والمخازي.

عبد الرحيم منصور: "أجهزة الإعلام تروّج الأغنية الموجودة أمامها وهذا الموجود ردئ، ولا أحد يبحث عن الجيد الموجود، فكيف يكون هناك أزمة في الكلمة ويعيش بيننا أعظم شاعر في تاريخ الشعر الشعبي المعاصر وهو فؤاد حداد"

لم تمهل الأقدار عبد الرحيم منصور لكي يحضر نشر ديوانه "رباعيات الموت والميلاد" الذي رسم لوحاته الفنان إبراهيم عبد الملاك، ولم تستمر فترته الخصبة والسعيدة مع محمد منير وأحمد منيب التي كانت حافلة بعشرات المشاريع، ولم ير فيلمه "الزمار" الذي رحل قبل استكمال تصويره، وقبل أن يبدأ في كتابة الجزء الثاني منه، والذي كان يفترض أن يحمل عنوان "الوعد"، ولم تكتمل سعادته بشفاء أمه المريضة ولا بتخلصه من مشكلة ضعف السمع في أذنه اليسرى التي لم يعد يحتاج إلى ارتداء سماعة فيها، ولم يتمكن من إكمال أغنيات شريط كان يفترض أن يلحنه أحمد منيب ليغنيه بصوته، والتي كتب منها أغنيتن هما "ربك هو العالم"، "ماليش طريق يحس بيا"، ولم ير النور مشروعه الغنائي الضخم الذي كان يرتب له مع شركة سونار التي اتفقت معه على أن يكون مستشارها الفني ويعد خطة إنتاج شاملة لها.

بعد رحيله الفاجع في نهاية يوليو 1984 تحدث عنه الحاج أحمد منيب، رفيق نجاحات الفترة الأخيرة في حياته، في حوار قصير مع الصحفي محمد عبد النور في مجلة "صباح الخير"، التي نعت رحيل "شاعر الوطن والنخيل والنيل"، قائلاً: "بدأت صلتي بعبد الرحيم منذ 12 سنة عن طريق محمد منير وأخيه رؤوف، كانا قد حدثاه عني وأراد رؤيتي، كنت وقتئذ ألحن الأغاني النوبية، وقرأت كلماته ووجدت أن اللغة العربية أسهل، خاصة مع اندثار اللغة النوبية وصعوبتها، وانفعلت بكلمات عبد الرحيم، وكانت التجربة مع محمد منير في شريطه الأول الذي كان تجربة جريئة، فقد كان منير غير معروف وكنت كذلك، ووقف وراءنا عبد الرحيم منصور، ولحّنت له بعدها حوالي أربعين أغنية، وكتب ست أغنيات في آخر شريط لمحمد منير (اتكلمي).

 كنت أقرأ كلام عبد الرحيم وأجده لا يحتاج إلى لحن فهو كلام ملحّن، وسريعاً ما كان يأتي انفعالي فتخرج الأنغام، ولعل أبسط مثال أغنية (حدوتة مصرية) وهي من أصعب الكلمات، لكني قمت بتلحينها في ليلة واحدة، ولم يكن رحمه الله يتدخل في اللحن بأي شكل من الأشكال، كما كان أيضاً يرفض أن يغير كلمة واحدة في الأغنية، وكان رحمه الله مهتماً بالأصوات الجديدة، وقد أرسل لي قبل وفاته بساعات خطاباً ومعه أغنية بعنوان (سقفه)، وأوصاني بأن تكون الأغنية بسيطة، لأن مغني جديد اسمه عادل سيغنيها مع المجموعة، وفي اليوم التالي علمت بوفاته، فلم أصدق في بادئ الأمر لأنني كنت قد تحدثت معه تليفونياً قبل ذهابه إلى الإسكندرية مع عائلته بعد أن تحسنت حالة أذنه، وظننت أن الخبر نوع من الهزار وأنها لا بد وأن تكون كذبة، ولكني فوجئت بأنها الحقيقة المؤلمة".

كانت تغطية "صباح الخير" للرحيل الفاجع لعبد الرحيم منصور قبل أن يكمل عامه الثالث والأربعين هي الأفضل، على قصرها، بين الصحف والمجلات المصرية التي اكتفى أغلبها بأخبار قصيرة وإشارات مقتضبة إلى أشهر أغانيه الوطنية والعاطفية، وطالب بعضها بضرورة صرف معاش استثنائي لأسرته المكونة من زوجته وطفلته علياء، ليستجيب وزير الثقافة محمد عبد الحميد رضوان لتلك المناشدات، ويصدر قراراً بصرف معاش للأسرة، لكن ذلك المعاش الهزيل ظل على حاله طيلة السنوات التي تلت رحيل عبد الرحيم منصور، وحين كتبت عن عبد الرحيم في مجلة "الكواكب" عام 1999 وحاورت زوجته السيدة وفاء، شكت لي من تدهور أوضاع الأسرة المادية، ومن نكران النجوم الذين صنعهم عبد الرحيم، والأصدقاء الذين تخلوا عن أسرته وتوقفوا عن السؤال على ابنته علياء التي فشلت محاولتي في اللقاء معها للحديث عن أبيها، وبعد مرور 17 سنة على ما نشرته عن أبيها، تذكرت حواري مع والدتها والشهادات التي جمعتها عن أبيها في حلقة من برنامج "الموهوبون في الأرض"، متمنياً أن تكون سعيدة بصدور الأعمال الكاملة لأبيها بعد طول انتظار، ففاجأني عدد من أفراد الأسرة، ومن بينهم الشاعرة مي منصور ابنة حمدي منصور، شقيق عبد الرحيم، بأن علياء توفاها الله في عام 2013 بعد أن عانت لفترة طويلة من اكتئاب حاد.

عبد الرحيم ما راحش من بالي
الليل عِتِر في الشمس قايمة لي
على حيلها لا بتقعد ولا بتمشي
والدمع ما بيسقطش من وشّي

كنت أتمنى أن تتيح لي الظروف فرصة استكمال جمع شهادات أكثر عن تجربة ومشوار عبد الرحيم منصور، لكنني قرّرت أن أنشر ما جمعته من شهادات، لعله يكون نواة لمشروع يكمله يوماً ما محب آخر من جيل آخر من الأجيال التي تأثرت بأغاني عبد الرحيم الجميلة والباقية في الوجدان، لنواصل محاولة الإجابة على السؤال الحزين الذي اختاره الشاعر الكبير فؤاد حداد عنواناً لمرثيته الجميلة "ألاقي فين عبد الرحيم منصور؟"، مردّداً معه ومعك ومع الآتين من بعدنا:

"ورد البلد صاحبي

على ريحته ميّه وشوك

أعيش وأموت وأحبي

ما يبصّليش من فوق

ويلفّ زي الطوق

ويتنقل جنبي

ويخُشّ للتنّين

بالسيف وبالتهنين

ويقول يا مصريين

إمشوا على دربي

ويا كلمتين تانيين

يا الاستغمّاية

يا مفضفضة معايَ

يا سطر من واجبي

يا بنت عم النور

تعالي لما نزور

عبد الرحيم منصور

الشاعر الشعبي

هو اللي مدّ وقال

في ميتم الموّال

هوّن عليك يا خال

ورد البلد صاحبي

أفضل أموت واحبي

يا ليل ينوبك ثواب وصّلني للعتبه

مشيت كأني غريق الأرض للرقبه

أتلقّف الترُمايات

وأسقّط التكنولوجيا في امتحان النايات

لو تقبلوني صبي يا عرضحالجيه

أكتب لكم مغربي حجاب وتزكيّه

وأرقي الغلابه عشان ما يبطلوش غَلَبَه

حفّظني دور الأوّله بتحلم

والتانيه تترحّم

والتالته جايه تقول لي مين ألأم

الضيّ والّا الظلام

على الربابه والكلام توأم

أبو زيد والادهم يا نعيمه حسن

للتاجر الشاطر يبيع العسل

ويشتري العلقم

عبد الرحيم ما راحش من بالي

الليل عِتِر في الشمس قايمة لي

على حيلها لا بتقعد ولا بتمشي

والدمع ما بيسقطش من وشّي

ولا خد ميزان الخير على غشّي

ولا خداعي

ولا عاتبني وقال ما فيش داعي

والليل عِتِر في الشمس بالصدفه

القاهره في ديل المِعزيين

يوم ما الحبايب يشبهوا المعازيم

وعساكر البلديه والتنظيم

يشيلوا بالقفه

عيوني وعيونك يا عبد الرحيم

حفّظني دور الأوّله بتحلم".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image