شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
مقاطع من حدوتة مصرية اسمها عبد الرحيم منصور (1)

مقاطع من حدوتة مصرية اسمها عبد الرحيم منصور (1)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 8 يونيو 202311:46 ص

سألت السيدة وفاء، زوجة الشاعر الكبير عبد الرحيم منصور رحمه الله: "كيف تقضين أيامك الآن؟"، فأجابتني بصوت حزين: "بعيّط طول النهار.. تعبت والله العظيم". سنوات طويلة مرّت عليها بعد رحيل عبد الرحيم وهي تربي ابنتها علياء بمفردها ودون عون من أحد، لم تحصل من الدولة إلا على معاش، من فرط حقارته لم أعد أتذكره على وجه الدقة، حوالي 100 جنيه تخضع سنوياً لعلاوة هزيلة.

ألحّ عليها في السؤال عن أحوالها فتقول بعد تردّد: "كل أصحاب عبد الرحيم واللي كانوا حواليه في حياته ما بيسألوش علينا ولا حتى بالتليفون. ما فيش غير يحيى خليل اللي بيتصل بينا كل مناسبة. ده حتى حقوقنا أكلوها". ناشدتها أن تقول لي تفاصيل أكثر، فقالت وهي تغالب رغبتها في البكاء: "مش هاتكلم عشان ما يقولوش إنى بطلب حاجة من حد... الحمد لله أنا ربيت بنتي أحسن تربية ودخلتها مدارس لغات ودلوقتي هي في رابعة كلية آداب، ما حبيتش أحرمها من حاجة والحمد لله، لكن أنا عِييت من كتر المسؤوليات".

سألتها عن حقوق الأداء العلني التي تتقاضاها الأسرة عن أعماله فقالت: "هي بتوصلنا.. بس أنت عارف عبد الرحيم ما كانش له شغل كتير، لكن الحمد لله على كل حال. أنا بس بيصعب على ناس أقل منه بشوفها بتتكرّم على طول. عاملوه على الأقل بنفس الشكل... ده كل اللي أتمناه".

سنوات طويلة مرّت على السيدة وفاء، حرم الشاعر عبد الرحيم منصور، بعد رحيله، وهي تربي ابنتها علياء بمفردها ودون عون من أحد، لم تحصل من الدولة إلا على معاش، من فرط حقارته لم أعد أتذكره على وجه الدقة

نشرت هذه المحادثة القصيرة مع زوجة الشاعر الكبير في مطلع عام 1999 في مجلة "الكواكب" التي كنت أكتب فيها باباً أسبوعياً بعنوان "الموهوبون في الأرض"، حين استنكرت في إحدى المقالات عدم تكريم عبد الرحيم منصور وبليغ حمدي في الذكرى الخامسة والعشرين لحرب أكتوبر، مع أنهما شاركا فيها بمجموعة من أجمل الأغنيات التي لا زالت باقية في الوجدان، وتحدثت عن التجاهل الإعلامي لذكراه، حيث لم يحتف به طيلة السنوات التي أعقبت رحيله سوى برنامج تلفزيوني يتيم.

وعن التجاهل النقدي المؤلم الذي تعرض له برغم أثره الكبير في الأغنية المصرية، وعن دواوينه التي لم تجد من يفكر في إعادة طبعها، وأغانيه وقصائده المتفرّقة في الصحف والمجلات التي لم تجد من يتحمّس لجمعها في كتاب، حتى قامت بذلك الجهد، مشكورة، ابنة شقيقه، الشاعرة مي حمدي منصور، التي أصدرت قبل أعوام قليلة أعماله الكاملة عن الهيئة العامة للكتاب، وعن "الزمار"، الفيلم الوحيد الذي شارك في كتابته مع المخرج عاطف الطيب، والذي لم يجد من يتحمّس له بعد إنتاجه فطواه النسيان حتى أعاد الإنترنت إنصافه.

وبالطبع لم أكن أتوقع أن يؤدي ما كتبته يومها إلى أي تغيير في طريقة التعامل الحكومي مع عبد الرحيم منصور أو إلى تحسين أوضاع عائلته مادياً، لكنه لحسن الحظ شجّع بعضاً من أصدقائه من الكتاب والفنانين على حكاية ذكرياتهم معه، لتكون جزءاً من كتاب كنت أتمنى أن أصدره عنه، وربما يكون نشر هذه الحكايات الآن خطوة في رسم ملامح حدوتة مصرية جميلة اسمها عبد الرحيم منصور.

كان القاسم المشترك الأعظم في الحكايات التي سمعتها عن عبد الرحيم منصور، حبّه الشديد لمساعدة المطربين والملحنين والشعراء الشباب وحماسه لهم بدون شروط أو حسابات، لذلك لم يكن من الغريب أن تكون آخر السطور التي كتبها قبل ساعات من رحيله المفاجئ عن الدنيا، رسالة كتبها إلى صديقه وشريك نجاحه الملحن أحمد منيب، يوصيه فيها على مطرب جديد قائلاً: "عزيزي وأخي الحاج أحمد منيب، مساء الخير، آسف ما قدرتش آجي لك لأن عندي خراج في ضرس سوف أخلعه اليوم، حامل هذه الرسالة صديقي الأخ عادل وهو المطرب الذي حدثتك عنه ومعه الأغنية، أرجوك يا حاج أن تهتم بهذه الغنوة، نفسنا في أغنية بسيطة جداً بينه وبين الكورال، وسوف أحضر إليك الثلاثاء، مع حبي. أخوك عبد الرحيم منصور 27/7/1984".

ويبدو أن وفاة عبد الرحيم منصور تسببت في اختفاء المطرب الجديد (عادل) الذي لم يكن لديه نفس حظ كثير من أبناء جيله الذين دعمهم عبد الرحيم منصور، وكان يقوم بتقديمهم للمنتجين والملحنين، بل وللشعراء من أبناء جيله والأجيال التالية له، وبرغم تلك الروح المعطاءة الخيّرة، لم يسلم عبد الرحيم من الأذى المجاني والشرور الموجهة التي حكى لي أصدقاؤه عنها وعن أثرها الفتاك عليه.  

قبل أيام قرأت سطوراً مفعمة بالأحقاد كتبها شاعر ممرور من مجايلي عبد الرحيم منصور، ومن بين ما حفلت به سطوره من أكاذيب أتفه من أن تُناقش، توقفت عند فرية، طويلة العمر قصيرة التأثير، حاول كارهو عبد الرحيم وحساده إلصاقها به دون جدوى عبر العقود الماضية، وهي أن صديقه وشريك نجاحاته الفنية بليغ حمدي كان يقوم بتعديل كلمات أغانيه التي يلحنها لأنها كانت ضعيفة المستوى الفني، وهي التهمة التي كانت تُوجّه لكثير ممن كتبوا أغاني بليغ، برغم أنهم نجحوا مع غيره كما نجحوا معه، وبرغم أن بليغ كان لديه من الشرف الأدبي والنزاهة الفنية ما يجعله يحترم جهد العاملين معه، فيحرص على الإشادة بهم في كل مناسبة، وحتى حين يتحدث عن كتابته لمطلع أغنية أكملوه من بعده، لم يكن يقلّل من أهمية جهدهم وإبداعهم الذي لولاه لما تمكن مطلع الأغنية من النجاح، ولذلك رأيناه يحرص في مرحلة لاحقة على أن يوقع الأغنيات التي أصبح يكتبها منفرداً باسم فني هو (ابن النيل)، قبل أن يشجّعه نجاحها على أن يكتب اسمه بشكل واضح كشاعر لعدد من الأغاني التي لحّنها، خصوصاً خلال غربته المريرة الطويلة.

من يقرأ قصائد عبد الرحيم منصور الأولى يجد فيها ملامح عالمه الغنائي منذ البداية، وهي ملامح تطوّرت بشكل ملحوظ بعد كتابته للمسرح، خلال عمله في مسرح العرائس ثم مع المخرج جلال الشرقاوي في مسرحية "ولا العفاريت الزرق"

ولأن حقد العاجزين عن التحقق يُعمي ويُصمّ، فقد فات على الشاعر الممرور ومن روّجوا لأكاذيبه، أن أهم وأجمل أغاني عبد الرحيم منصور التي كانت سبباً في شهرة محمد منير وصنعت مشواره الفني متوهج التأثير حتى الآن لم تكن من ألحان بليغ حمدي، بل كان أغلبها من ألحان الكبار أحمد منيب وهاني شنودة ومحمد الشيخ، وقد صنع عبد الرحيم منصور مع ملحنين، مثل كمال الطويل، هاني شنودة، منير مراد، محمود الشريف، أحمد منيب، محمد الموجي، محمد سلطان، محمد الشيخ، عبد العظيم عبد الحق، عبد العظيم محمد، عمار الشريعي، محمد علي سليمان، جمال سلامة، سيد إسماعيل، حسن نشأتن عبد العظيم عويضة، حلمي بكر، إبراهيم رأفت، حسين جاسر، حميد الشاعري وعبد العزيز سرور، ألحاناً جميلة حققت نجاحات فنية كبيرة، مع وردة، شادية، صباح، محمد رشدي، وعلي الحجار، مدحت صالح، عماد عبد الحليم، أنغام، أحمد منيب، وليد توفيق، عمرو دياب، عمر فتحي، شريفة فاضل، عايدة الشاعر، محمد قنديل، ليلى نظمي، الثلاثي المرح، لبلبة، ماهر العطار، محمد ثروت، محمد حمام، كتكوت الأمير، سوزان عطية ومحمد نوح، وقد قام الشاعر أشرف الشافعي بتوثيق هذه الأغنيات، خلال مشروعه الطموح والرائع لتوثيق تاريخ الأغنية المصرية.

وحتى لا تتوه الأغاني وسط زحام الأسماء، دعني أذكرك أننا نتحدث عن أغنيات رائعة، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: "حدوتة مصرية، بكره يا حبيبي، افتح قلبك، أكلم القمر، الحياة للحياة، الرزق على الله، بريء، بنتولد، عروسة النيل، حبيبي يا متغرب، ربك هو العالم، شجر الليمون، يا وعدي ع الأيام، يا ليلة عودي تاني، يا عيني ع الصدف، إن كنت ليّا وأنا ليك، طاير زهر العشاق، اندهي من قلبك، يا حبيبي يا قمر، أكيد، مقدمة ونهاية مسلسل مارد الجبل، اتكلمي، الحقيقة والميلاد، طال بينا الطريق، الكون كله بيدور، أمانة يا بحر، أنا بعشق البحر، أنا أحبك، أنا مش عابر سبيل، ناس قبلينا راحوا، مكتوب لنا، مواعيد مواعيد، وعملنا إيه يابا، يا طريق يا طريق، دوّر ع الناس، حاضر يا زهر، دنيا رايحة، ع المدينة، عطشان، علموني عينيكي، تسلم لي عيونه الحلوين، عينيكي تحت القمر، البحر اسكندراني، عطشان، خليك يا ليل ستار، في عينيكي غربة وغرابة، فين الحقيقة، قمر رحيلي، قل للغريب، يا صبية يا حنينة، ييجي زمان، يا امّاي، يا عذاب نفسي، مزامير، يا عشرة تهوني ليه، هوّن يا ليل، عيونك الرحيل، انزل يا جميل عالساحة، باحلم معاك"، وكلها أغنيات لم يلحنها بليغ حمدي، وكانت وحدها كافية لكي تمنح عبد الرحيم منصور مكانه المتميّز واللائق وسط مبدعي الأغنية المصرية عبر تاريخها الطويل.

قبل أن يتعرّف عبد الرحيم منصور على بليغ حمدي ويبدأ العمل معه في أواخر الستينيات، كان قد عرف طريقه إلى الساحة الغنائية في عام 1964، بعد أن استضافته المذيعة آمال فهمي، في برنامجها الشهير "على الناصية" ليتلو مقاطع من قصيدة جميلة عن عمال التراحيل، وساعده النجاح المدوّي الذي حققه في ذلك الظهور على إيجاد فرص أوسع للنشر في العديد من الصحف والمجلات، ومن يقرأ قصائده الأولى يجد فيها ملامح عالمه الغنائي واضحة منذ البداية، وهي ملامح تطوّرت بشكل ملحوظ بعد كتابته للمسرح التي بدأها في سن الثانية والعشرين، خلال عمله في مسرح العرائس ثم مع المخرج جلال الشرقاوي في مسرحية "ولا العفاريت الزرق"، ثم في أوبريت عن ثورة يوليو مع الموسيقار سليمان جميل، لتكون تجاربه في المسرح والدراما الإذاعية سبباً في التقارب الفني الكبير الذي حدث بينه وبين بليغ حمدي، المهووس بتجربة سيد درويش والأخوين رحباني، والذي قدم مع عبد الرحيم منصور محاولات مسرحية لم يكتب لها الاكتمال والنجاح الذي حققته تجربتهما الغنائية الجميلة.

الكاتب سيد خميس: تزوّج عبد الرحيم منصور سيدة كانت تعمل لاعبة عرائس في المسرح، وكان الأبنودي قد طلقها فتزوجها عبد الرحيم لفترة بسيطة، ما جعل العلاقة متوترة بينهما على طول، لأنه لدى الصعايدة كانت هذه المسألة لا تغتفر 

حين عدت إلى أوراق الحكايات التي جمعتها من أصدقاء عبد الرحيم، وجدت كلاماً في غاية الأهمية قاله لي صديقه الناقد والكاتب الكبير سيد خميس، صاحب الأيادي البيضاء على جيل شعراء الستينيات قبل أن تتفرق بهم السبل، حيث كان من أوائل من قدّموا ودعموا عبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، وأحمد فؤاد نجم، وعبد الرحيم منصور وغيرهم، وقد أسعدني الزمان بصداقته حين كان يكتب معنا في صحيفة "الدستور"، وقد لفت انتباهي احترام الأبنودي وحجاب ونجم له واعترافهم بفضله، في الوقت الذي كانت علاقة كل منهم بالآخر في غاية السوء.

وحين سألت العم سيد خميس عن شهادته على عبد الرحيم منصور، بدأ بالحديث عن بداياته الشعرية قائلاً: "بدايات عبد الرحيم جاءت على يد الكاتب الكبير لويس جريس الذى سافر إلى قنا في أوائل الستينيات، الفترة التي شهدت قمة ازدهار مجلة (صباح الخير) ليكتب عدة مقالات عنوانها (المضروبون بالفن)، كتب فيها عن مواهب كثيرة، منها عبد الرحمن الأبنودي، ويحيى الطاهر عبد الله، وأمل دنقل، وعبد الرحيم منصور، بعدها أمل وعبد الرحمن سبقا بالسفر إلى القاهرة وكانا أبناء لعائلات متوسطة، بينما كان عبد الرحيم ابناً لعائلة شديدة الفقر، والده نقاش وأمه من عائلة مهمّة في البلد وخالته مديرة مكتب التربية والتعليم.

لا تعرف كيف تزوّج والده ووالدته، لكن بالتأكيد كل هذه التمايزات الطبقية كان لها تأثير في إبداعه الشعري. عندما جاء عبد الرحيم إلى القاهرة ودخل الجيش تعرّفت عليه هناك، كان ضئيل الحجم شديد البساطة والتلقائية، وكان له كاريزما الغلابة، وعندما بدأ مشواره الشعري بدا للبعض أنه يسير وراء الأبنودي وعلى خطاه، خصوصاً حين تزوّج سيدة كانت تعمل لاعبة عرائس في المسرح، وكان الأبنودي قد طلقها فتزوجها عبد الرحيم لفترة بسيطة، هذا هو ما جعل العلاقة متوترة بينهما على طول، لأنه لدى الصعايدة كانت هذه المسألة لا تغتفر لأن هناك غيرة بأثر رجعي.

الكاتب سيد خميس: ميزة عبد الرحيم منصور أنه لم يكن يرى فارقاً بين الغناء والشعر، كل قصيدة ممكن تبقى غنوة والعكس، المهم ما يعملش حاجة إلا لما يكون حاسس بيها

وبالمناسبة عبد الرحيم لم يكن يحزن على تأخر النجومية أو تضاؤلها مقارنة بآخرين من أبناء جيله، كان كل ما يهمه التعرف على مغن جديد أو ملحن جديد، ولم يكن يسعى حتى للتعرّف على النجوم، الوحيد الذي جذبه في الوسط الفني بشكل إنساني كان صلاح السعدني، لأنه لقط شخصيته في جوهرها".

يضيف سيد خميس قائلاً: "من أهم محطات مشوار عبد الرحيم لقاؤه ببليغ حمدي، لأن ذلك وفر له أماناً مادياً ومعنوياً. بليغ كان يحبه لأن صفات مشتركة كثيرة كانت تجمعهما في الشكل والنفسية، القصر والبساطة والهم الفني والإنساني، كان حلم بليغ هو عمل مزيكة شعبية مختلفة وناجحة، ولذلك كانا يعيشان في شبه ورشة فنية مستمرة. كان عبد الرحيم على وشك أن يغنى له عبد الحليم حافظ، لكن حصل خلاف بين حليم وبليغ، فتم وأد هذا الحلم، في ذلك الوقت كان لدى بليغ أحلام في أن الأغنية الفردية انتهت وأن المستقبل للمسرح الغنائي، وكان عبد الحليم حافظ ضد هذا الاتجاه.

وأحس بليغ أن من يستطيع تحقيق حلمه هو عبد الرحيم منصور صاحب الموهبة الفطرية البكر. كان عبد الرحيم تقريباً كل ما يسمعه يتحوّل داخله إلى شعر، من الصعب وأنت تعرف عبد الرحيم منصور أن تفهم كيف جاءه الشعر، في شعره تلقائية قد تظن أنها تصل أحياناً إلى حدود السذاجة، لكنك تجد عندما تمعن النظر معانى عميقة في الشعر الذى تقرأه، ما كانش في دماغه شيء غير الشعر، وكان يسعد سعادة حقيقية عندما يلتقط موهبة من جيله أو من جيل يليه، وكان في طبيعته شيء يجعل الناس كل الناس تحبه وتشعر معه بألفة عجيبة، لا أحد يتحرّج أمامه أن يقول شيئاً، تحس دائماً أنه أخوك الصغير حتى لو كنت أصغر منه في السن".

يواصل سيد خميس شهادته قائلاً: "ميزة عبد الرحيم منصور أنه لم يكن يرى فارقاً بين الغناء والشعر، كل قصيدة ممكن تبقى غنوة والعكس، المهم ما يعملش حاجة إلا لما يكون حاسس بيها. كان عبد الرحيم يحب الحياة ويندفع في حبها بإيمان الصعيدي، وكان هذا هو السبب في وفاته المبكرة. أذكر في بداية مجيئه إلى القاهرة أنه سكن معنا في شقة مشهورة في العجوزة ،كنت أسكن فيها أنا ومجموعة من الفنانين التشكيليين، هم محيى الدين اللباد ونبيل تاج وعدلي رزق الله، وكان هو أحدث عضو منضم إلينا، كان مثل النسمة تماماً، كان عدلي رزق الله هو صاحب أكبر دخل فينا، وكان لما يقلع البنطلون نلاقيه دايماً مليان بالفلوس اللي تقع من البنطلون، وكان عبد الرحيم يطلع يلف على الجرايد والتليفزيون عشان يفتح لنفسه سكك، وكل يوم الصبح كان عبد الرحيم ياخد من على الترابيزة 50 قرش من بواقى فلوس عدلي رزق الله اللي بتقع من البنطلون، يستخدم 25 قرشاً في المواصلات وبالباقي يجيب حاجة للناس اللي في الشقة، ولما كنا نسأله بيجبب الفلوس منين كان يقول لنا: ربنا بيحدف لي كل ليلة 50 قرشاً عند البنزينة، وعندما انكشفت الحكاية متنا جميعاً من الضحك.

الكاتب سيد خميس عن الشاعر عبد الرحيم منصور: كانت عيوبه خاصة به لا تضرّ الآخرين، لا ينضبط في مواعيده، يكذب ككل الشعراء، لكن كذبه غير ضار ودمه خفيف ولم يحمل شراً لأحد

عندما سكنت أنا وهو مع بليغ حمدي في شقته بشارع الترعة البولاقية، كان بليغ يستخدمنا في توزيع من يتصلون به ويجعلنا نقول لهم: بليغ في الحمام. اثنان فقط لم نكن نستطيع إنكار بليغ عندما يتصلان: الست أم كلثوم ومكتب الرئيس السادات، إلا عبد الرحيم منصور، اتصلت مرة أم كلثوم فقال لها: الأستاذ في الحمام، ووزعها. لم تكن ترهبه الأسماء الضخمة، علاقته بهؤلاء إما إنهم يبقوا ناس ظرفاء أو ليس له دعوى بهم، كان يسارياً لكنه كان يعفي نفسه من التحليل السياسي والتنظير.

وكان يرى أن اليسارية سلوك، وكان يأخذ المثقفين على قدر عقولهم ويخاف من تعقيداتهم، وكان له أكثر من عالم خاص به. بعد الساعة الثالثة بالليل كان يحب الجلوس على قهوة الخُرس بالتوفيقية، وكان يرتاح فيها بشكل خاص ويكتب فيها كثيراً. بلدياته أمل دنقل كان له أظافر حادة أحياناً في علاقاته الاجتماعية، وكان أمل يبدأ بالعدوان خوفاً من أن يقع عليه، الوحيد المستأنس دائماً والآمن دائماً إلى جوار أمل كان عبد الرحيم، وكان لابد من أن يلتقى به كل يوم تقريباً، وكان يقف بجوار عبد الرحيم في مواجهة الأبنودي، وكان يعرف الجراح العميقة داخل عبد الرحيم، خاصة حكاية والده وفقره، وكان يقول له: يا عبد الرحيم ضفر أبوك برقبتهم.

كان كل من يأتي إلى المدينة تزول براءته، وأشهد أن براءة عبد الرحيم لم تتأثر أبداً برغم اكتسابه خبرات وذكاء، لم يتعرّض عبد الرحيم للأمراض النفسية والعصبية، ولم يكن عنده اكتئاب كما نشر البعض عنه، أقصى زعل يقعد معاه ساعة، كل العالم لديه باطل ما عدا الغناء والشعر والفن".

يختم الأستاذ سيد خميس شهادته قائلا: "أغنية (حدوته مصرية) هي جوهر عالم عبد الرحيم منصور الفني والإنساني، كانت عيوبه خاصة به لا تضر الآخرين، لا ينضبط في مواعيده، يكذب ككل الشعراء، لكن كذبه غير ضار ودمه خفيف ولم يحمل شراً لأحد، لم أر شاعراً يصادق شاعراً بشكل حقيقي غير عبد الرحيم، لأن الشعراء عندهم درجة عالية من النرجسية، الوحيد الذى كان يحب كل زملائه وكل الناجحين كان عبد الرحيم.

أذكر أن صديقنا الشاعر شوقي خميس كان يقول إنه لا علم الجمال ولا فلسفة الفن يقدروا يفسروا لنا موهبة عبد الرحيم، وأنا رأيي ولا يوجد تفسير أيضاً لطيبته الشديدة ومحبته للحياة وللناس برغم ما يقع عليه من أذى، وكان يأتيني كثيراً وهو يبكى لأنه مش فاهم ظلم الحياة وشرّ الناس، وأقول لنفسي أكيد بعد كل هذا الأذى الذي يقع عليه سيتغير وسيبدأ حتى على الأقل في الدفاع عن نفسه ضد ظلم الآخرين له، كما حدث مع أناس كثيرين جاؤوا إلى المدينة وغيّرتهم، لكن عبد الرحيم لم يحدث له هذا أبداً، تنتهي لحظات الحزن وعدم الفهم لأذى الناس، فيعود كما هو، صافي ورايق، يفكر فقط في الفن وفي الشعر وفي المزيكة، ويطارد المعاني والأفكار والأحلام، ويعرفك بحماس شديد على شاعر جديد أو فنان جديد"...

ولا زال للحدوتة بقية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image