شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
مقاطع من حدوتة مصرية اسمها عبد الرحيم منصور (2)

مقاطع من حدوتة مصرية اسمها عبد الرحيم منصور (2)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 22 يونيو 202307:24 ص

فاجأني الناقد والكاتب الكبير سيد خميس حين روى لي تفاصيل تجربة اعتقال قصيرة ومريرة تعرض لها عبد الرحيم منصور، في منتصف الستينيات، برغم أنه ظلّ حريصاً على عدم الانغماس في الحياة السياسية، لأن تركيبته الرقيقة والهشة لم تكن تحتمل التورط في السياسة، ومع ذلك فقد أدخلته يد الأمن في تجربة عجيبة، يروي تفاصيلها سيد خميس قائلاً: "كان عبد الرحيم خلّص أداء الخدمة العسكرية بعد سنة 1964، وقرّر يستقر بشكل كامل في القاهرة، أياً كانت الصعوبات اللي بتواجه نشر وانتشار شغله، وكان وقتها على علاقة صداقة قوية بيّ وبنجيب شهاب الدين وخليل كلفت، ومجموعة من الكتاب والفنانين المسجلين في قوائم أجهزة الأمن بوصفهم شيوعيين، وأنا فاكر إن زوجته الأولى نعيمة، واللي عارفة الوسط ده كويس من خلال شغلها في مسرح العرائس وعلاقتها بزوجها السابق عبد الرحمن الأبنودي، تحذّر عبد الرحيم دايماً من إنه يتورّط في أي تنظيمات سرية أو علاقات بشيوعيين، وكان ده عامل له ربكة على المستوى الإنساني، لأنه ما كانش بيتعامل مع أصدقائه على أساس تصنيفات سياسية ولكن لأنه بيحبهم وبيستجدعهم وشايفهم ناس طيبين، فمالوش دعوة بقى هل همّ شيوعيين ولا دياولو، وفي سنة 66 حصلت حملة اعتقالات اتقبض فيها على مجموعة كبيرة من الكتاب والفنانين، منهم الأبنودي وسيد حجاب وصلاح عيسى وجمال الغيطاني وأنا، وفاكر إنهم في التحقيقات سألوني عن عبد الرحيم منصور وعلاقته بالحركة الشيوعية والتنظيمات السرية، فمتّ من الضحك، لأني لا يمكن أتخيل عبد الرحيم يشتغل في العمل السري.

قلت لهم: والله العظيم انتو فاهمين غلط، ده راجل طيب وبتاع ربنا وكل همه الشعر والفن، وما يعرفش الفرق بين عمر مكرم والحسين، وكعادة الأجهزة الأمنية افتكروني ببالغ عشان أحميه، أتاريهم قبضوا عليه عشان كانوا مراقبين العمارة اللي ساكن فيها وشايفين إنه على علاقة صداقة ببعض الشيوعيين، فقال لك ده أكيد شيوعي زيهم، وقعد عبد الرحيم يا عيني مقبوض عليه ليلتين في قبو من أقبية المباحث العامة، يتحقق معاه، وكل ما يسألوه عن حد يقول لهم بحماس: فلان ده أخويا وحبيبي، بدل ما ينكر صلته بيه أو يشتمه، فطبعا افتكروا إن طريقته في الكلام دي تمويه اتعلمه في التنظيم السري، بس لحسن حظه ما خدوش وقت طويل عشان يدركوا إنه مالوش علاقة بأي تنظيمات سرية، وفشلوا ياخدوا منه أي معلومات، والظاهر إنهم زهقوا منه فقرروا يطلعوه".

ظلّ عبد الرحيم منصور حريصاً على عدم الانغماس في الحياة السياسية، لأن تركيبته الرقيقة والهشة لم تكن تحتمل التورط في السياسة، ومع ذلك فقد أدخلته يد الأمن في تجربة عجيبة

عن تأثير تجربة الاعتقال القصيرة على عبد الرحيم منصور يروي سيد خميس قائلاً: "خرج عبد الرحيم من تجربة السجن القصيرة دي متأثر جداً، لأنه ما فهمش سبب اللي حصل له، فاكر إنه دايماً كان يسألني لما تيجي سيرة السجن: ليه يا أخويا يا سيد عملوا فيا كده؟ وما كانش يحكي كتير عن أي تفاصيل للتجربة دي، طبعاً كان ممكن تجربة مريرة زي دي تخليه يشعر بغضب من ناس زينا عشان ورطناه في هذه التجربة المخيفة، لكن ده عمره ما حصل، ويا ما شفت ناس هزمتهم وغيرتهم تجارب زي دي وأظهرت أسوأ ما فيهم، لكن ما نجحش قهر التجربة إنه يبوظ جوهر عبد الرحيم منصور، اللي كان في رأيي لم يكن يقل يسارية في جوهره عن سيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي، ولكن بطريقته الخاصة، يعني مثلا كان في أمير سعودي اسمه عبد الله، ما هواش من الأمراء الكبار أو المشهورين، وكان غاوي شعر وفن، وكان يعشق شغل عبد الرحيم ويقدره جدا.. وفي الوقت ده أي كاتب أو فنان يساري ما ينفعش يكون ليه علاقة بأمير أو ثري عربي، لازم يقطع علاقته بيه فوراً. لكن عبد الرحيم كان بيقعد مع الراجل بكل محبة واحترام، ويرفض إنه يدخل البيت بأي حاجة، ويصر ينزّله يقعد معاه في التوفيقية، ويعزمه على حاجة ساقعة، ويصرّ إنه يدفع الحساب عشان يبقى عبد الله زيه زي أي حد يقعد معاه ع القهوة. هو ده بالنسبة له الموقف مش إنه يتعامل مع البشر ككتل صماء أو بيحكم عليهم بمواقف مسبقة.

كان ليه صديق سعودي برضه مش فاكر اسمه دلوقتي، لكن فاكر إن أبوه كان أول وزير مالية في السعودية، وفاكر إنه كان عنده شقة جنب جنينة الميريلاند. ولما عرض على عبد الرحيم إنه يسافر معاه أوروبا، أصرّ عبد الرحيم إنه يدفع لنفسه تكاليف السفر والإقامة، ويبقى ده جزء من تعاقد على عمل فني يكتبه، وكان عمل ساعتها تجربة كتابة حوار وأغاني مسلسل (مارد الجبل).

طول الوقت عنده اعتزاز شديد بذاته وبفنّه وفي الوقت نفسه تواضع مدهش مع الناس اللي أقل منه. كان برضه حريص على إنه يكون في مسافة بينه وبين الأنظمة السياسية، فما اتورطش في كتابة أغاني تمجّد أفراد أو حكام، يعني لما راح ليبيا مع وردة وبليغ غنى لليبيا ما غناش للقذافي، نفس الحكاية في سوريا، نجا من الفخ ده، وكان بالنسبة له ده أقوى موقف سياسي ممكن يلتزم بيه".

قد يبدو حديث سيد خميس عن تأثر عبد الرحيم منصور بتجربة الاعتقال القصيرة مبالغاً فيه حين تقرأ مجمل أغانيه التي لا يظهر فيها ذلك التأثير جلياً، لكنك ستتأكد من كلامه حين تقرأ مجموعة القصائد التي كان عبد الرحيم يكتبها لنفسه دون أن يخاطر بنشرها، والتي نشرتها ابنة شقيقه مي منصور لأول مرة في أعماله الشعرية الكاملة الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2015، وقد اختار أن يجمعها على أمل النشر يوماً ما تحت عنوان شديد الدلالة هو "ما تصالحوا مصر يا مؤمنين"، وفيها يبدو لنا وجه مختلف وجديد لعبد الرحيم منصور، أكثر غضباً ومباشرة وأقل هدوءاً وفنية.

في القصيدة الأولى التي اختار لها عنوان "لوحدِك" ولم يلحقها تاريخ نشر يكتب: "قولي احترس.. من كل ضربات العسس.. دولا قُطّاع الطرق.. دولا الظُلّام.. دولا الوجيعة من جوّا الحشا.. حاسبوا النهارده يا مخلصين.. من كل خطوات العسس"، وفي قصيدة بعنوان "التوهة والغربة" كتبها بتاريخ 19 مايو 1970 يكتب: "الدم نار العروق.. والملح لجَّم لساني.. والقهر قطّع قُليبي.. قيّالة تقلي الخليقة.. محروقة تايهة الحقيقة.. قطعوا علينا الطريق.. توّهني ليل الدروب.. عفّصت طين الحزانى.. وسرقوا مني الأمانة.. ومشيت لوحدي يا دنيا.. والمُرّ كاسي ونصيبي.. أضيق زنازن بلدنا.. دوامة لفّت خطاي.. وجاني جلّاب البلاوي.. كرباجه يرسم حكايتي.. وعلينا مُرّه الرواية"، وفي قصيدة بعنوان "ما تعاتبنيش" كتبها بتاريخ 6 أغسطس 1970 يكتب: "ما تعاتبنيش يا حبيبتي.. القهر فارد باعاته.. والسكة صحرا وخرابه.. دنيا مَلَتها الغرابه...دِبلت قلوب الجناين.. جوّانا ماتوا الحكاوي.. دبّلتي شجر الغناوي وقطعتي سِكّه علينا.. رجّعتي كل اللي ماشي.. ما رجعشي ليكي اللي غايب.. بحرك بيعلى يوماتي.. موجك بقهرك وزايد وغلبك مجاهد مكافح.. عاشق لمصر الصبية.. قهر العسس والزنازن"، وفي قصيدة "الحيرة" التي كتبها في عام 1970 يكتب بحزن ومرارة عن التعذيب داخل السجون وأثره على النفوس، وكأنه يفسّر لمن سيقرأ قصائده في المستقبل قراره بعدم نشرها: "ولما يعلى أي صوت.. حالاً يا بوي بيتسجن.. وكل كرابيج العدم بيعذبوه.. وينكّسوه ويعلّقوه.. لجل ما يشوف العِبَر.. بعد النزيف بينزلوه.. ومن الكلام بيحذروه.. وبيتكتم طول الحياة.. وآهين عليكي يا بلد".

لم يعتقل عبد الرحيم منصور في عهد أنور السادات، ولم يتعرّض لأي اضطهاد أو تضييق كالذي تعرّض له الكثير من الكتاب والفنانين المرتبطين باليسار، والذين عاد بعضهم إلى المعتقل في زيارات متفرّقة، أو اضطر إلى ترك مصر، أو تعرّض للاضطهاد الوظيفي بنقله من مقر عمله إلى وظائف أدنى، أو تحمّل آثار المحاصرة والحجب، لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة كتابة أشعاره المتأثرة بتجربة الاعتقال المريرة.

يروي سيد خميس عن تأثير تجربة الاعتقال القصيرة على عبد الرحيم منصور، قائلاً: "خرج عبد الرحيم من تجربة السجن القصيرة دي متأثر جداً، لأنه ما فهمش سبب اللي حصل له، فاكر إنه دايماً كان يسألني لما تيجي سيرة السجن: ليه يا أخويا يا سيد عملوا فيا كده؟

في عام 1972، وربما تأثراً بما أعلنه السادات عن هدم المعتقلات وحرق شرائط المراقبة، يكتب عبد الرحيم قصيدة بعنوان "الثورة والعسس"، ويبدأها بحماس متفائل قائلاً: "يا مصر قمتي بتدبحي ظلم السنين.. هادّه قلوب المستحيل"، ثم يستعيد تجربة الاعتقال: "ولما قلنا اللي نقص.. جونا العسس.. وكل أولاد الحرام.. دبحوا الصبي ويّا الصبية في الحجور"، ثم يختمها قائلاً: "يا كل قائد للعسس باستحلفك.. قفّل الزنازين الكُتار"، لكنه برغم ذلك التفاؤل والأمل في عهد خالٍ من العسس والزنازين، يختار ألا ينشر القصيدة، ربما لأنه لم يكن واثقاً بشكل كبير في نوايا قائد العسس الجديد الذي قام بعد قليل بسجن صديقه الشاعر أحمد فؤاد نجم، ليكتب عبد الرحمن منصور قصيدة في محبة نجم، يعبر فيها عن حزنه ومحبته لنجم قائلاً: "يا بحر جارف بالمشاعر.. على مصر غالي وأغلى شاعر.. ومصر تحرس خطوتك وفي كل فجر تشتاق إليك... مهما الزبانية يعذبوا.. ويكتّفوا أو يجلدوا.. همّا الضعاف.. والخونة أولاد الحرام".

وفي نفس العام، يكتب قصيدة بعنوان "سكة خطر" يعبر فيها عن هواجسه ومخاوفه من واقع قاتم قد يدفعه إلى الهجرة فيبدأ قصيدته قائلاً: "في السكة قُطاع الطريق.. مستنيين خطوة ولد.. بيدب من فوق الحصى.. وبيحرموه من أي رزق وأي قوت.. لجل ما يحرّم يفوت.. يهجر بلاده وينتهي"، ويختمها قائلاً: "ننسى الوطن علشان نعيش.. والغربة طولك يا زمن.. الظلم فارد ألف ناب.. سيفه مسلّط ع الرقاب.. الدنيا غابه يا غالي يا با.. من شرعها أكل الغلابة.. اهرب بجلدك سيب الوطن.. ونجّي نفسك م الديابة".

بعد حرب أكتوبر 1973 التي كان عبد الرحيم منصور أحد أبرز وجوهها الفنية التي غنت للعبور والانتصار والأمل القادم في مستقبل أفضل، لم يطل أمل عبد الرحيم كثيراً، حيث عادت تجربة الاعتقال وفقدان الحرية لتفرض نفسها عليه، فيكتب في عام 1974 قصيدة بعنوان "شكاوى النيل"، يبدأها قائلاً: "العسس جوايا غاصوا.. يستخبروا ع الغواصين.. هُمّا غاصوا بالصحيح.. ولا لعبة بيلعبوها"، ويختمها قائلاً: "يا بلدنا الكل راسم. ياخد لنفسه الحصتين.. لجل يموتوا الغلبانين.. لجل ما يزيدوا التعاسة المتعوسين.. وسط الخلايق منبوذين.. ومقهورين ومكسرين.. والعيشة مُرّة يا باح نضل.. ريقنا محنضل.. عايشة جواه السموم.. وزعق غراب.. وزعق لي بوم.. والعسس ما بيهمدوش.. فتشوا كل البيوت"، وبعدها بعامين يصل غضبه وحزنه إلى منتهاه، فيكتب قصيدة بعنوان "منهوبة يا مصر" قائلاً: "كل اللي يوصل للكراسي يا بلد.. كل مُناه يسرق دهب.. يبني القصور رصد السما.. يملك أراضي لهاش عدد.. يجري ويذكر في السيدة.. يصرخ مدد.. يجري يسلم ع الولي.. يبوس الإيدين.. يطلع يبيع الميتين.. حتى تماثيل الحجر.. ينهب في إنتاج المصانع.. واللي باقي في المخازن.. للحرايق والدمار.. والبردي باعوا وبالرخيص.. باعوا الخلايق.. لجل ما يكونوا عبيد.. عند الأجانب مذلولين.. قوتي وقوتك بيتاجروا فيه.. وبيكسبوا وبينهبوا.. ويصدّرونا للعِدى.. للذل ولآخر مدى.. وللتجارة ف ممنوعات.. ياخدوا التمن.. ويبيعوا أسرار البلد.. يرضى اللعين.. بالعيشة في وسط الخدم.. يا كل أولاد الحرام.. عايشين في وسط الرقاصات.. يسكر ليلاتي وينشكح.. وسط الحمير يجري ينام".

وفي آخر قصائده التي حجبها عن النشر، يفقد عبد الرحيم منصور تماماً الروح الحالمة بمستقبل أفضل، والتي تتبدّى في عنوان "ما تصالحوا مصر يا مؤمنين"، فيكتب في عام 1976 سطوراً مرتبكة غاضبة بعنوان "أولاد الحرام" يقول فيها: "اتلمّوا أولاد الحرام.. باعوا المخدة وباعوا الحِرام.. نهبوا الخزانة بيصرفوا.. لاجل الغرام.. باعوا البِنيّة النخّاسين.. باعوا السنين.. وميّة النيل العفي.. وعم الفقي.. باعوا الشباب متهربين.. لاجل الإقامة ولاجل الرغيف.. وباعوا أطفال البلد.. للي غَلَب.. وبعضهم فاجر.. صنع الكوكا والهيروين.. خطفوا غلابة شعبنا.. ياخدوا الكِلى ويّا الكبد.. يجروا يبيعوهم بالرخيص.. ويغسلوا المال اللي جاي.. ويبيعوا أملاك البلد.. وتوّهونا في الانفتاح.. والمناطق الحرة وعيون الخراب.. ع الشعب سايقين الحِراب.. نصبح بأزمة في كل يوم.. تزعق البوم ويرد الغراب.. وقلنا آه قلنا آهين.. ياجي العدل بس ومنين.. ميتى هنهدّ اللعين.. جوّا بطون الأمهات مات الجنين.. جوّا بطون الأرض بيموت النبات.. مصر بتمشي وحالها سيء.. ماشية لأسوأ.. ولكل سوء".

كان نشر أي من هذه القصائد أو الخواطر الغاضبة كفيلاً بسجن عبد الرحيم منصور أو التضييق عليه، لذلك قرّر أن يحتفظ بها لنفسه ولأصدقائه المقربين، متحملاً ومتجاهلاً الاتهامات والتشنيعات التي أطلقها الحاسدون والغاضبون من انتشاره الكبير في تلك الفترة التي انحسر فيها إنتاج بلدياته عبد الرحمن الأبنودي، بعد غضب نظام السادات عليه، وفي حين بدا أن أجهزة الأمن كانت قد اقتنعت بعدم وجد علاقة لعبد الرحيم باليسار تستدعي اضطهاده، كان البعض يرى أن علاقة عبد الرحيم الوثيقة ببليغ حمدي واستمراره في التعاون معه، بعكس الأبنودي، هي التي حمته من الاضطهاد الذي تعرّض له آخرون، دخلوا قوائم الأجهزة ولم يخرجوا منها أبداً حتى بعد أن ثبت تعرّضهم للظلم.

لم يعتقل عبد الرحيم منصور في عهد أنور السادات، ولم يتعرّض لأي اضطهاد أو تضييق كالذي تعرّض له الكثير من الكتاب والفنانين المرتبطين باليسار، لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة كتابة أشعاره المتأثرة بتجربة الاعتقال المريرة

كان معروفاً للجميع أن السادات شديد الإعجاب ببليغ الذي بدأت صداقته به قبل أن يصل إلى كرسي الرئاسة، وبالتالي امتدت مظلة الحماية التي أسبغها السادات على بليغ لتشمل عبد الرحيم، وهو ما سألت عنه الأستاذ سيد خميس الذي حدثني عن صداقة عبد الرحيم وبليغ والتجارب التي جمعته بهما في تلك الفترة، قائلاً: "بليغ اتربى وسط مجموعة مثقفين يساريين مهمين، زي صلاح حافظ وحسن فؤاد ويوسف إدريس ولويس عوض، كل دول كانت علاقة بليغ بيهم قوية، لكن في الوقت نفسه كانت علاقة بليغ قوية بأنور السادات المعروف بعدائه الشديد للشيوعيين واليساريين بشكل عام. في أواخر فترة عبد الناصر وبعد خروجي من المعتقل، بدأنا نعمل مسرحية غنائية بعنوان "موال على النيل"، كتبت نصّها المسرحي وعبد الرحيم كتب أغانيها ولحنها بليغ عشان تغنيها عفاف راضي اللي كان متبنّيها بليغ بقوة، وكان عبد الحليم حافظ مش حابب العمل ده لإنه شايف إنه هيخلي بليغ يركز في المسرح الغنائي ويستقل عنه تماماً، وهيأثر على مشروعه الغنائي مع بليغ.

 كان بليغ عنده بيت في شارع الترعة البولاقية في شبرا، قاعد فيه معاه أنا وعبد الرحيم عشان ننجز المشروع ده، وكان عبد الحليم ييجي لنا كل يوم بالليل، ويقعد لحد الصبح ويسمع ويتكلم ويفكر في مشاريع غنائية، وكان واضح إنه ناوي يعطل مشروع المسرحية دي، لكن بليغ كان مصمّم يعمل المشروع، وفي الوقت ده بليغ كان مقرب للسادات هو وتحية كاريوكا، لدرجة إن أول شريط بعد التسجيل من أي غنوة لحنها بليغ يبعثه للسادات عشان يعرف رأيه، فقدّم مشروع المسرحية للسادات عشان الدولة تتبنى تنفيذ المشروع اللي محتاج تكلفة ضخمة، وفضل المشروع متعطل لفترة، ولما جه السادات رئيس قعد لفترة يملك ولا يحكم، والقرار كله في إيد مراكز القوى، كان وزير الثقافة وقتها شخصية لطيفة جداً، اسمه الدكتور إسماعيل غانم، وبناء على توجيهات السادات إدّانا دار الأوبرا عشان نعمل بروفات عليها مع المخرج أحمد عبد الحليم، لكن بسبب الصراعات اللي كانت في أجهزة الدولة، تم التعامل مع المشروع ده إنه تبع السادات، فتمت عرقلته.

كان محمود أمين العالم ماسك هيئة المسرح وقتها، فدخلنا في معجنة قانونية، يعني تخيل إن السادات شخصياً ما قدرش يساند العمل فأجهضته البيروقراطية، لكن السادات قال لبليغ وهو بيواسيه: هيتنفذ المشروع لما أحكم وهاحكم قريب، أتاري بليغ كان من قبل أحداث 15 مايو اللي سماها السادات ثورة التصحيح بيسمع كلام من السادات عن اللي يحصل، لكن كان فاكره بيثرثر وواخد الموضوع هزار، والمهم إنه بعد ما السادات أحكم قبضته على السلطة، البلد دخلت في أجواء عام الضباب والحسم واللا حسم، وبعد كده في أجواء الحرب، والمشروع نفسه اتنسى وفي حاجات منه اتاخدت وبقت مجموعة أغنيات غنتها عفاف راضي، لكن بعدها ما نسيش بليغ فكرة المسرح الغنائي وظهرت مسرحية (تمر حنة) أول مسرحية غنائية ينتجها القطاع الخاص، من إخراج جلال الشرقاوي وبطولة وردة وعزت العلايلي وكتابة إسماعيل العادلي وكتابة أغاني لعبد الرحيم منصور وتلحين بليغ وسيد خميس المخرج المساعد ومدير الإنتاج، وحقق المشروع نجاح كبير لكن الخلافات قفلته بدري على عكس آمال الجميع فيه".

كان معروفاً للجميع أن السادات شديد الإعجاب ببليغ حمدي الذي بدأت صداقته به قبل أن يصل إلى كرسي الرئاسة، وبالتالي امتدت مظلة الحماية التي أسبغها السادات على بليغ لتشمل عبد الرحيم منصور

عن فترة أخرى من فترات تعاون عبد الرحيم منصور مع بليغ حمدي، يروي سيد خميس قائلاً: "بعد كده، عمل بليغ وعبد الرحيم تجربة مسرحية اسمها (ياسين ولدي) مع تحية كاريوكا وفايز حلاوة، ودي تجربة حققت نجاح كبير، وفاكر إن الدكتور لويس عوض، الناقد الكبير، احتفى بشغل عبد الرحيم جداً في المسرحية، لكن عبد الرحيم وبليغ دخلوا في خلاف مع فايز، وحصل تراشق في الصحف، وعملت جريدة الجمهورية حديث مع تحية كاريوكا قالت فيه كلام من نوعية: عبد الرحيم ده أنا اللي رحت جبته من محطة مصر وهو جاي من بلدهم في الصعيد يعدّ الفلنكات، وعبد الرحيم زعل جدا لإن الواقعة ما حصلتش، وكان بيقول بحرقة شديدة: أنا جاي من بلدنا وقاطع تذكرة عادي جداً، ليه تقول عليّ كده؟ ومصمّم يرد ويصحّح ده للكل.

كان غضبه ده دليل على إن حياة المدينة ما أزالتش منه البراءة اللي فضلت موجودة برغم كل الخبرات اللي اكتسبها، بعدها في سنة 1979 سافرت سوريا في منفى اختياري، لإن البقاء تحت وطأة حكم السادات ما كانش محتمل، وعدى علي هناك بليغ وكان معاه رجل أعمال اسمه فتحي سلام، لعب بعد كده دور مهم في حياة عبد الرحيم وهو اللي جوّزه، سمعت إنه فلِّس دلوقتي، عام 1998، وكان معاهم مسلسل بيشتغلوا فيه عشان يبيعوه لتلفزيون عربي، فقالوا يقعدوا معايا في سوريا شهر، وبعثوا يجيبوا عبد الرحيم منصور من مصر، فقعد معانا 3 شهور وقعدة بليغ في سوريا طوّلت ودخلت في حوالي سنة ونص، واكتشفت بعد فترة السبب وهو إن بليغ كان بدأ الضغط عليه عشان يعمل موسيقى تصويرية لفيلم تنتجه إسرائيل ومصر عن السلام بطلب من السادات، وكان أخوه، الدكتور مرسي سعد الدين، رئيس هيئة الاستعلامات، يعني الناطق الرسمي لنظام السادات، وقرّر بليغ بدلاً من المواجهة إنه يهرب بشكل غير مباشر، فكانت السفرية دي واللي شفت فيها إزاي بليغ بيعمل حالة إبداعية مبهرة.

أنا أشهد إن بليغ كان بيلحن وهو نايم، في قمة نومه تيجي له أفكار موسيقية تلاقيه صحي بيدندنها ويسجلها وينده عبد الرحيم عشان يكتب عليها، ومع الأسف ما اتحققش الحلم المشترك اللي جمع الاتنين، وهو تقديم المسرح الغنائي، وبعد ما كان بليغ شايف إن الأغنية الفردية انتهت والمستقبل للمسرح الغنائي، حصل إن وردة رجعت تاني مصر بعد ما اتطلقت من جوزها الجزائري، فصحيت قصة حب بليغ القديمة ليها، لإنه كان بيحبها أول ما جت مصر، وكان أيامها المشير عبد الحكيم عامر بيحبها واضطرت تسيب البلد وتتجوز، وحاول بليغ يعمل معاها تجربة المسرح الغنائي فما نجحتش التجربة، فرجع تاني للأغنية الفردية، وابتعد عن المسرح الغنائي وخسرنا فرصة لتحقيق حلم فني كبير ومهم".

*****

ولا زال للحدوتة بقية مع شهادات جديدة من الفنان صلاح السعدني والمخرجة عطيات الأبنودي أرويها لك في الأسبوع القادم بإذن الله.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard