شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
مَن مِن النساء، الغزّيات بالتحديد، تملك رفاهية الاختيار؟

مَن مِن النساء، الغزّيات بالتحديد، تملك رفاهية الاختيار؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الأحد 16 يوليو 202311:08 ص

لم تكن فكرة المغادرة يوماً رفاهية نمتلكها نحن الفلسطينيين، في البداية عندما حفر فينا وطننا جروحاً كثيرة، تلوّث المجتمع في لحظة عجزنا عن إدراكها، وأصبح السباق والتنافس على النجاة هو مطلبنا الأول.

كان ذلك عام 2019، حين تلقيّتُ اتصالاً عند الساعة الرابعة فجراً لألتحقَ بالباص في قطاع غزة، حيث سيتم نقلي و45 طالباً آخر ممّن حصلوا أيضاً على منحة دراسية في تركيا، انتقلنا بعدها إلى معبر "ايرز" بيت حانون، وهي النقطة التي تفصل "إسرائيل" عن غزة بمسافة ساعة، ثم عبرنا بعدها إلى جسر الأردن قبل التوجه إلى تركيا.

الخروج من الجحيم

جاء هذا الخروج بعد أن فقدتُ كلّ سبل الأمل في النجاة بسبب إغلاق معبر رفح البرّي منذ مدة طويلة، وشهور وأنا أتقاسم ضغط الترقّب والانتظار، أحلامي حينها كانت لا تتجاوز بأن أركب الطائرة ولو لمرة واحدة في حياتي، الصعود من الطائرة والنزول منها، وما بينهما من النظر إلى الأسفل حيث هناك دائماً شيئاً نودعه قسراً.

بنيتُ كل مستقبلي على هذه المنحة، وتركتُ الدراسة في قسم آداب اللغة الانجليزية في غزة، والتي التحقت بها في جامعة الأزهر خلافا لرغبتي. كنتُ أحلم بالرحيل لصعوبة البقاء، وعدم قدرتي على الاستمرار، حيث أترك أجزاء مني حتى أُتيح المجال لأشياء جديدة إلى الداخل، وأخرج عن لحائي من أجل حياة أفضل، تمنيتها دوماً ولم أستطع الحصول عليها.

وفَّرت لي المنحة الدراسية في دراسة الصحافة والإعلام فرصة الخروج، ولا أنكر أن حصولي على هذه المنحة وضعني أمام أسئلة حقيقيّة، وأهمها هو ماذا أريد حقاً؟ ولأكون واضحة أكثر، لم يكن هدفي الأول الدراسة بقدر ما كانت وسيلتي الوحيدة كي أعبر بها الى الجانب الآخر من هذا العالم، وأشاهدني بطريقة أخرى.

أشعر أن هذه التجربة مهمة جداً، الخروج من مكانك يتيح لك فرصة النظر إلى تاريخك النفسي والاجتماعي، أمر لن تنتبهي إليه إلا بخروجك من المكان الذي تنشئين فيه ضمن منظومة تفرض عليك إهمال هذا التاريخ وعدم التعامل معه كخط متصل بين الماضي والحاضر واحتمالات انعكاسه على المستقبل.

لم تكن فكرة المغادرة يوماً رفاهية نمتلكها نحن الفلسطينيين، في البداية عندما حفر فينا وطننا جروحاً كثيرة، تلوّث المجتمع في لحظة عجزنا عن إدراكها، وأصبح السباق والتنافس على النجاة هو مطلبنا الأول

ولكن يقيناً، كنت أعلم أن هذه الخطوة المُغادِرة ستكون بلا عودة، فمن فينا، والنساء الغزّيات بالتحديد، تملك رفاهية الاختيار؟ اختيار خروجها دون أن تدفع ثمن وضريبة كل التابوهات والأصفاد المجتمعية والسياسية والسلطوية والأبوية على عاتقها، لتواجه عالماً أفضل؟ ضريبة أن تكون صانعة قرار في وجه كل القيود التي تعيش فيها والمفروضة عليها، ومع ذلك يعطيها المجتمع شعوراً بعدم المسؤولية حيال ما تفعله وتخطو باتجاهه؟ شعورها بأنها دائماً مهددةً بالخوف وعدم الأمان في مكان يفُترَض أن يمنحها الشعور المعاكس.

وفي هذا السياق، تذكرتُ جملة قالها أمير عيد في أغنيته "الغربة": "الغربة حال ماينتهيش، بنتولد وفيها نعيش، مابين غريب جوة بلادي، وبلاد كتير ماتخصنيش".

"ما يتمنّاه المرء يقوده"

ترددّت على مسامعي الجملة هذه كثيراً، وصدقّتها كثيراً في رحلة بحثي عن النجاة، وساعدني في ذلك الخيال.

لم يكن الخيال ينفصل عني في حياتي، يحمي الفرد روحه بالخيال، ويكتشف عوالم جديدة، دائماً كنتُ أتلهّى بحرية تأبى أن تأتي، أمارسها بكامل وعيي وأكون صانعة لقرارتي، وأتساءل من أين تأتي تلك الصور إلى ظلمات الدماغ البشري؟ صور وأحداث، ورغبات أتمنى أن أعيشها، الدروب تتفرّع والحياة تجري في مسالك أعرفها ولا أعرفها، فلا يمكننا معرفة كل شيء، ولكننا نملك الخيال لنفهم الأشياء.

هذا ما تمنيته حقاً، وكنت مستعدة لممارسته بالطريقة التي تشبهني، حتى لو ليوم واحد، كما قال ألبير كامو: "يكفي يوم واحد نعيشه ثم ندخل بقية حياتنا في السجن نعيش على ذلك اليوم، سيكفينا"، ألبير كامو راهن على ذلك.

غادرت مسرعة الى عالم جديد، حيث مضى على خروجي من غزة خمس سنوات، الأيام الّتي كنت أنتظرها، تحمل الآن أقداماً أقوى وأقدر على للركض، مشيتُ في كل الاتجاهات من خلفي ومن أمامي، وكل الطرق بدت قصيرة لفتاة بأحلام عالية جداً، أملك الآن الحياة التي لطالما حلمتُ بها وركضتُ إليها بيدين واسعتين وقدمين مرهقتين، ومثل أي شخص يغادر منزله كيلا يفوته موعد، غادرتُ لأتحرّر من نفسي و أكتشفها، منفصلةً عن الشخص الذي كنتُ عليه، ثم أُدين في حياتي كلها ورضاي عن نفسي لقراراتي، تلك التي اتخذتها في وقت حرج، وتحمّلت في سبيلها الكثير من اللّيالي الصعبة والبكاء المرير، وأتذكر أن هناك روحاً حية تريد أن تعيش، ثم أنظر على كل ما مضى في حياتي، وكل الأشياء التي تركتها خلفي، مشتّتة ومرهقة من التغيّرات المستمرة، ألقي نظرة على الشخص الذي كنتُ عليه والنسخة التي ودعتها من نفسي، وأكتشف أن الذي يغادر المنزل الذي اعتاد عليه، يتكيّف مع مرور الوقت، ولكنه يفقد الشعور بالألفة والأمان الى الأبد.

كيف يتحقق شعور الألفة في حالات الرفض الدائم؟

من تجربتي الشخصية كفلسطينية، عانيتُ من هذا الرفض مرات متتالية في حياتي، ليس من السهل أن تواجه الرفض الدائم الذي تسمعه في كل مكان: الشارع، المطعم، علاقة حب أو صداقة أو حتى في السفارات، حيث في هذا السياق تم رفضي في فرص سعيتُ لها كثيراً بسبب جواز سفري. خسرتُ فرصة الالتحاق بمؤتمر للصحفييّن الدوليين في ألمانيا بعد قبولي مرتين في سنتين متتاليتين، وفرصة مشاركتي في ورشة عمل أُقيمت في السويد ولم ألتحق بها، وفرصة أخرى في التدريب العملي في برنامج الجامعة لبعثة خارجية في أوروبا، هذا أيضاً كَبّل أقدامي للمشي للأمام، بالإضافة لصراعي بعدم قدرتي للعودة الى غزة.

كل ما أعرفه أن تجاربي وطرق الآلام والمعاناة اليومية التي خضتها لوحدي، مكّنتني من الشعور بالامتنان لهذه التجربة، امتنان بأنني ما زلت أحب الحياة، ومحاولاتي للنجاة هي طريقي الوحيد الذي لا أملك غيره، وبأنني ما زلتُ أملك روحاً حيّة مستقلة، وما زلتُ أشعر بنفسي كل يوم أكثر من السابق

كل هذه الكفاءات التي يستقبلونها من الخارج تتحطم عند أول موجة بيروقراطية سياسية ولا دخل لها بأحلامنا أبداً، لها علاقة بصراع قوى دائماً تكون أنت اللعبة فيها. في لحظة ما وجدت نفسي محاطة بأشياء حقاً أعجز عن تسميتها، خارج البلاد كل شيء يبدو مائعاً وطرياً يذوب في الرؤية، بينما أنا ينفتح داخلي شعور غريب يطلب مني الهروب من العالم، لا نحو البيت فقط، بل نحو مكان أبعد تفصيلاً وأدق من حميمية الوصول للمنازل.

شعور معقد ينغلق على ذاته وينفجر فجأة بداخلي ليقدم لي صوراً عن عالم هشّ، ينتشر في عيوننا وكلماتنا. كل شيء في الخارج غير ثابت، ودائماً تشعرين أنك في سباق، وركض مستمر، وكل الأماكن تصبح تشبه بعضها، حتى بتُّ عاجزة عن فهم هذا الواقع، وأظل أبحث فيها عن دوائر أمان مؤقتة للعالم بعيدة عن العالم هذا.

وربما مازال تساؤلي حول معنى النجاة قائماً حتى اليوم، حتى الأشخاص الذين خرجوا من ذات المكان الذي خرجت منه سابقاً، واستطاعوا الوصول الى أماكن أكثر استقراراً في الحياة بكل جوانبها، هل وجدوا النجاة في غربتهم؟

كل ما أعرفه أن تجاربي وطرق الآلام والمعاناة اليومية التي خضتها لوحدي، مكّنتني من الشعور بالامتنان لهذه التجربة، امتنان بأنني ما زلت أحب الحياة، وكل محاولاتي للنجاة هي طريقي الوحيد الذي لا أملك غيره، وبأنني ما زلتُ أملك روحاً حيّة مستقلة، وما زلتُ أشعر بنفسي كل يوم أكثر من السابق، وأن القصص دائما تعبر من خلالنا لكي نخرج أفضل نسخ عنا.

اليوم أنا أملك الحياة التي تمنحني على الاقل صناعة القرار والحرية في الاختيار، حتى لو كانت نسبية للبعض، وأحاول بالقدر الكافي ألا أنفصل عن المعاناة الأكبر التي تعيشها النساء في الوطن العربي بشكل عام، وفي تجربتي بشكل خاص، ولأنني، وبكل الأحوال، لا يمكن أن أنفصل عن مكاني، وعن كل الهموم الاجتماعية التي لا يمكن تجزئتها لأننا جميعاً جئنا منها.

كل شيء اليوم جعلني في داخلي ووحدي أحاول أن أتمكن من نجاتي، وأن رغم كل ما حدث وما يحدث لنا، ممتنة له، لأنه كان أول طريقي لاكتشاف الذات... ذاتي الأولى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image