شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
يبدو أنه ليس متاحاً أن تكون غزة مدينة

يبدو أنه ليس متاحاً أن تكون غزة مدينة "عادية"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

قبل عدة أشهر، تشاركَ عدد من موظفي وموظفات شركة ما في قطاع غزة، مقطعَ فيديو يُظهر طائرةَ سفر "عادية" تحلق في السماء، حيث يتجمّع موظفو الشركة في حالة من الدهشة حول النافذة التي تظهر منها الطائرة، فسكان غزة ليسوا معتادين إلا على رؤية طائرات الاحتلال الإسرائيلي الحربية، أما مشهد طائرة سفر فهو شيء يستحق التأمّل والذهول.

ويعيش قطاع غزة حالة "عزل جبري" منذ قيام الجيش الإسرائيلي بتدمير مطار غزة الدولي، عقب تعثّر محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي امتدت عبر فترات متقطعة، من السبعينيات حتى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، والتي شكّلت بداية الانتفاضة الثانية عام 2000 اعلاناً حقيقاً لنهايتها.

لقد مثّل مطار غزة حلماً بالسيادة الفلسطينية، ونقطةَ انطلاق نحو العالم دون وساطات، ولكنه ما لبث أن افتُتح حتى تمّ تدميره بالكامل بين عامي 2001 و2002 من قِبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولم يدم الأمر طويلاً حتى ازداد الإغلاق والعزل سوءاً.

حيث شهد القطاع سلسلة أحداث متسارعة كان أبرزها الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب عام 2005، وانتهت تلك الأحداث بانتكاسة فلسطينية داخلية عَقبَ فشل جهود السلطة الفلسطينية مع حركة حماس لتشكيل حكومة وحدة في الضفة الغربية وغزة، بعد فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية 2006.

نتج عن تلك الانتكاسة أن أصبح لدى الفلسطينيين حكومتان منفصلتان، واحدة في الضفة الغربية تترأسّها السلطة الفلسطينية، وأخرى في قطاع غزة تترأسّها حركة حماس، مع انقطاع شبه تام لأي مشاورات وقرارات مشتركة بين الحكومتين. وتبع ذلك فَرْض إسرائيل حصاراً شاملاً على قطاع غزة، ومنذ ذلك الحين وغزة تعيش أسوأ أعوامها في عزلة عن فلسطين والعالم.

لقد ساهمت عوامل عدة، داخلية وخارجية، في حدوث تلك الانعطافة "الغريبة"، من مدينة كانت تستعد لتجربتها الأولى مع مطارها الدولي قبل أعوام معدودة، إلى مركز رئيسي للاشتباك مع الاحتلال، وحياة مدنية خافتة يمارسها سكان القطاع على استحياء.

ولا يمكن تحميل مسؤولية تلك الانعطافة لطرف فلسطيني واحد دون الآخر، كما لا يمكن الجزم بأن صورة غزة الحالية قد تم إسقاطها على القطاع من الخارج عبر تحالفات إقليمية، ففي ذلك بعض التطرّف والعشوائية.

لا يمكن إنكار حقيقة أن بعض مركزيات المنطقة، كولاية الفقيه في ايران ومرجعيات الإسلام السياسي، عملت على حصر غزة في قالب "الثكنة العسكرية"، لتخدم بذلك أجنداتها وطموحاتها بالسيادة، وذلك ما كان على الحركات الفلسطينية الإسلامية عدم الانجرار خلفه

حتى وإن كان لا يمكن إنكار حقيقة أن بعض مركزيات المنطقة، كولاية الفقيه في ايران ومرجعيات الإسلام السياسي، عملت على حصر غزة في قالب "الثكنة العسكرية"، لتخدم بذلك أجنداتها وطموحاتها بالسيادة، وذلك ما كان على الحركات الفلسطينية الإسلامية عدم الانجرار خلفه.

وبالطبع هذا لا ينفي حقيقة النضال الفلسطيني الذي هو، بتشعّباته وتقاطعاته، حالة وطنية فلسطينية خالصة لا يمكن تجزئتها، حتى وإن شاب تلك الحالة بعض الانحراف عن الثوابت الفلسطينية بين حين وآخر.

لا نقول "غزة لا تريد أن تقاوم"، ما نقوله هو: "غزة تريد أن تعيش"

لقد عرَف العالم مفهومي الاحتلال والمقاومة منذ فجر التاريخ، مهما اختلفت الحالات، فكما تحدث غسان كنفاني في إحدى المقابلات: "ما أعرفه حقاً هو أن تاريخ العالم كان دائماً تاريخ الضعفاء الذين يقاتلون الأقوياء، الضعفاء الذين يملكون قضية عادلة، والأقوياء الذين يملكون القوة لاستغلال أولئك الضعفاء".

ولكن يحدث أن تتشتّت مقاصد أولئك الضعفاء المقاومين عندما تتقاطع أهدافهم مع أهداف دينية، أو تحالفات واسعة الغايات، تحوّل قضية الضعفاء إلى مجرد ملف آخر ضمن ملفات عدة يديرها ذلك التحالف، عندها تفقد تلك القضية استقلاليتها وخصوصيتها.

غزة ليست مدينة أسطورية لتصبح رمزاً لأمجاد خلفاء الإسلام القدامى، وليس ضمن اختصاصها "حماية شرف الأمة"

فما نعرفه أن المقاومة تنشأ لإنهاء الاحتلال وسطوة الغرباء، فهذا هو المقصد الأول والأخير للمقاومة، وفي الحالة الفلسطينية ربما أثرت الخصوصية الدينية والتاريخية لمدينة القدس، عند المسلمين في فلسطين والدول العربية، على منعطفات القضية الفلسطينية، فأضفت للقضية صبغة دينية إسلامية طغت على الجانب القومي العربي.

وعليه تحولت القضية الفلسطينية من قضية "ذاتية خاصة بالفلسطينيين" إلى قضية مشاعية خاصة بـ "كل من يهمّه الأمر"، فمن يرغب بتسوية بعض الحسابات، أو حلّ بعض من مشاكله الداخلية، أو الظهور كبطل خارق، كان يتوجّه بدعمه وثقله إلى منطقة النضال الفلسطيني.

على هذا الأساس تنوّعت أشكال النضال الفلسطيني وتفرّقت، وفقاً للجهات المتواجدة على الساحة الفلسطينية، ورغم ذلك وما رافقه من "استغلال للقضية الفلسطينية" إلا أن لا أحد يستطيع التشكيك بصدق اتجاهات الفلسطينيين المقاومين أنفسهم، أياً كانت توجهاتهم وتحالفاتهم.

فليس هناك فلسطينيان على وجه الأرض لا يتفقان، مهما تباينات توجّهاتهم، على حلم الدولة الفلسطينية والتحرّر من الاحتلال، ولكن يظل التساؤل: متى نقاوم ومتى نهدأ؟ فالانتصار الذي نموت من أجله ولا يشهد أطفالنا نتائجه، هو ببساطة هزيمة.

لذا يجب أن تكون إجابة هذا التساؤل فلسطينية خالصة، غير موجّهة من أطراف خارجية، فالتحالف الذي يدعم عدالة القضية الفلسطينية يدعمها لذاتها، وليس بناءً على مصالحه، هذا ما علينا أن نفترضه دوماً.

وعليه، لابدَ لغزةَ أن تعيش أولاً، وأن تتبع، كأي مدينة فلسطينية أخرى، لنظام حكم فلسطيني واحد، فما يعاصره القطاع من عزل وإقصاء من جميع المشاهد الفلسطينية هو مؤشر خطير، فما الذي يريده النظام الإسرائيلي أكثر من مدن فلسطينية متفرّقة ومتنازعة، من ضمنها مدينة واحدة فقط تترأس مشهد المقاومة؟

غزة ليست أسطورة يونانية، بل مدينة حقيقية من لحم ودم وأحلام

إن ما حاولت بعض الجهات "ذات التوجّه الأصولي" ترسيخه عبر سنوات، هو صورة "غزة الأسطورية" التي تُحرَق فتُبعث من رمادها، وربما يكون في ذلك بعض الصدق، ولكنه يبقى شأناً فلسطينياً داخلياً، لا يجب السماح باستخدامه لأغراض غير فلسطينية.

فكما لغزة عدو محتل واحد تعرفه جيداً، فلها أيضاً حلم واحد: تنفّسُ هواء غير ملوث بدخان الحرب، ورغبة واحدة: الانعتاق من المتاهات والتقاطعات التي أثقلتها منذ عقود.

ليس من حق أحد أن يشكّك في صدق من ينادي بالتعقّل، والتركيز على أهداف المواجهة مع الاحتلال، لا على تحقيق الانتصار، فالخلاف مع المقاومة بغزة ليس مرتبطاً بالثوابت الراسخة، كالتحرّر من الاحتلال مثلاً، بل الخلاف على الطريقة التي نرى فيها المشروع الفلسطيني

إنها ليست مدينة أسطورية لتصبح رمزاً لأمجاد خلفاء الإسلام القدامى، وليس ضمن اختصاصها "حماية شرف الأمة"، فهذا الصاروخ الذي ينطلق من غزة لا يحمل أي رسائل، هو فقط دفاعُ شعب محتل عن نفسه، وتصريحٌ واضح بأن ما دام هناك احتلال، إذن فالمقاومة هي أسلوب حياة الفلسطيني، وشأنه الخاص، ليس لأحد أن يملي عليه نمط المقاومة المقبولة والمقاومة التالفة.

فعدالة القضية الفلسطينية تكفي كسبب للتضامن مع الفلسطيني ومناصرته، فلا تحتاج مناصرته أي اشتراطات أو إسقاطات تُثقل كاهل سكان غزة وتشتّت أهدافهم ومقاصدهم ونظرهم المصوب دائماً نحو مجتمع مدني حر، يكون نموذجاً عن فلسطين التي امتزجت بحلمهم ودمهم وعظامهم مع كل صاروخ إسرائيلي كان يضرب غزة.

أما قرار السلم والحرب فيجب أن يظلَ في إطار الخصوصية الفلسطينية-الغزّية، وليس كما جاء في تصريح فردي لأحد قادة المقاومة في غزة: "أن قرار السلم والحرب لا يخضع لحسابات المدنيين".

نحن لسنا عبئاً على ليل المقاوم

إن امتلاك المقاوم المسلّح والفرد المدني بغزة، نفس القضية والإيمان، يجعل من كليهما مقاوماً، كلٌّ حسب طريقته وتوجهه الفكري، ويجعل التمييز بينهما أمراً غير منطقي، فمبدأ تعظيم المقاوم المسلح وتقزيم الفرد المدني لم يكن يوماً وارداً عند الفلسطينيين.

بيد أن حالة الاشتباك والاحتقان الدائمة التي يلعب الاحتلال دوراً رئيساً فيها، بدأت تحملُ المواجهة إلى شكل آخر، فبدلاً من أن يكون المشهد: "شعب محتل يناضل لانتزاع حريته"، أصبح المشهد: "معركة مفتوحة بين معسكرين"، ولكل معسكر داعموه ومؤيدوه محلياً ودولياً، ولكل مشجّع أسبابه الخاصة لدعم هذا المعسكر أو ذاك.

هذا ما يبرّر حالة التحامل والنقمة من مناصري المعسكر الفلسطيني على الأصوات الفلسطينية العقلانية التي تنادي بأن تكون المواجهة خياراً ما أمكن ذلك، وليس فرضاً دائماً، إذ إن أولئك المناصرين لا يمكنهم فهم التكلفة الهائلة التي يدفعها سكان غزة على جميع الأصعدة، خلال وبعد كل اشتباك مع الاحتلال.

فما نفع الانتصار، إن فقدنا "الإنسان الفلسطيني"، وهذا هو الملاحظ في آخر 10 سنوات أن المساعي الفلسطينية آخذةٌ بالتشتّت بين حشد التأييد والانتصار للحرب، مع غياب الهدف المفترض للمواجهة، وهو حرية الفلسطيني لا قتله.

فالاحتلال الإسرائيلي ليس دولة مجاورة لنعلن حرباً مفتوحة معها، بل هو "حالة واقعية مؤقتة طال الزمان أو قصر"، وفقاً للقانون الدولي الإنساني الذي يضمن حق جميع الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال.

في الحقيقة، لقد بلغ ذلك التحامل مرحلة مرتفعة من التطرّف، حيث هاجم بعض أنصار المقاومة المفتوحة من غزة وخارجها، كل من يطالب بإعلاء صوت المدنية، وفي السياق، كتب أحدهم عبر تويتر: "المقاومة تمارس قمة الديموقراطية لما تسمح لأشكالكم بالعيش!".

إن هذه النظرة المتطرّفة للمجتمع المدني الغزي على أنه عبء على المقاومة، تزيد من الأمور سوءاً، وتوجِدُ أسباباً جديدة للتفكك والانقسام في المجتمع الفلسطيني، عندما يتم تقسيم المجتمع إلى درجة أولى ودرجة ثانية وفقاً لدرجة الإسهام في "المقاومة"، مع أحكام إقصائية تضع المقاومة في رتبة لاهوتية يحرّم مخالفتها، وتنظر إلى المدني على أنه مجرّد خامل لا أهمية له.

ليس من حق أحد أن يشكّك في صدق من ينادي بالتعقّل، والتركيز على أهداف المواجهة مع الاحتلال، لا على تحقيق الانتصار، فالخلاف مع المقاومة بغزة ليس مرتبطاً بالثوابت الراسخة، كالتحرّر من الاحتلال مثلاً، بل الخلاف على الطريقة التي نرى فيها المشروع الفلسطيني.

إذن هو خلاف قائم على أساس المطالبة بالاتفاق على شكل موحّد للطموح الفلسطيني الحالم بصياغة قرار فلسطيني موحّد ومستقل، يسعى لتحقيق دولة ولا يتشعّب في معادلات إقليمية كبرى، قبل التحرّر من الاحتلال الإسرائيلي وبناء الدولة وانتخاب حكومتها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image