بدأ الأمر بجولة غير متوقعة، أثناء مشاركتي في المعهد الصيفي الرابع لدراسات الأمن في المنطقة العربية في لبنان، في أيار/مايو من العام الماضي، والذي كان قد نظّمه المجلس العربي للعلوم الاجتماعية. حديث طويل استوقفني وجملة من المواقف التي جعلتني أعيد التفكير فيما تعنيه الحدود والمساحة الآمنة من كل شيء. وبالرغم من أن هذه الجولة القصيرة تستمد تحولاتها من أشكال التفاعل مع بيئة البرنامج والعمل إلا أنها تعتبر نماذج مصغّرة للعالم الكبير من حولنا.
كانت الحدود حاضرة بقوة، انطلاقاً من جملة من التعليمات الصادرة عن إدارة البرنامج لضمان بيئة بحث وعمل آمنة للمشاركين، وانتهاء بالتفاصيل الصغيرة الغائرة والخفية. تغمز الحدود في طرف منها إليك، فتستفزّ شغفاً ما؛ لذا فالحدود هي حاله متماهية أحياناً، تخضع لكيمياء إنسانية خاصّة تستدعي معها رد فعل يختلف من حال لآخر.
ففي جلسة مع الزملاء، يقف صديق لي، هو أسير سابق في سجون الاحتلال، على الحافة من الذاكرة المشوّهة والراهنية القائمة، ويبدأ الحديث بجرّه إلى خانة الاعتراف، دون وعي منه، ليستدعي تجربة الأسر المريرة التي يواريها لتجنّب تبعاتها، لكنه يقف على الحد ويمتنع برغبة مناقضة عن تجاوزه ويمارس الصمت؛ خوفاً من تجدّد الألم أو مرارة الذكرى.
هنا الحدود حاجز نفسي، انجراف نحو اللاوعي، خط عودة زمني، مدخل إلى الذاكرة، انفراج لخصوصية اللحظة، كسر الهوة بين السرد في الخاص للعام، وقد تصبح لاحقاً انطلاق نحو حالة من التعافي، وذلك بكسر حاجز الخوض في التجربة والغوص في الذاكرة من جديد.
بالمقابل، كنت أنا مع الشغف أحاول التحايل على هذا الحد، مدفوعة بالفضول للتجربة الشخصية خاصته، والتحايل هنا محاولة اللعب على الخط الرفيع الفاصل بين الأنا والآخر، بين الخاص وما تمنحه المساحة الحالية للتجاوز، مع الحفاظ على هذه المساحة الآمنة التي أتحاشى فيها تجاوز الحد. تطرح هذا التفاصيل فلسفة أخرى للحد؛ فالحد أيضاً مساحة مشتركة بين طرفين، هذه المساحة المشتركة هي مساحة الأمن واليقين المؤكد لكليهما.
على صعيد آخر ذو نطاق أوسع، صديقة أخرى تنخرط في مفهوم الحد الاجتماعي وسبل مدّه لتبني دائرة واسعة من العلاقات، لتتمكن خلال فترة قصيرة من الوقت من السير الخفيف على كل الحدود الفاصلة بينها وبين الآخر، بحب وذكاء اجتماعي، لتصبح هذه الحدود رفيعة، مطاطية ومرنة جداً بشكل ملفت، وقد تشعر بتلاشيها اللطيف أحياناً.
هذه الجولة غير المتوقعة أعطت عمقاً أكبر للطريقة التي يمكن بها التعامل مع الحدود، وتطرح الحدود كمفهوم مطاطي يسمح بهذه المساحة من التحايل والتلاعب والتجاوز. من هنا، كيف يمكن استقطاب هذه الفلسفة والانخراط أكثر في تجاوز السلبي والإشكالي المتعلق بالحد على صعيد ظاهرة الحدود في قطاع غزة، إذا ما خضنا أكثر في المفهوم المادي المكاني والجغرافي للهياكل الحدودية؟
في بقعة كقطاع غزة، مقرّها أرض محتلة ومجزأة ومقطوعة بحدود لا نهاية لها، من الأهمية بمكان ما التحقيق في تصوّر الحدود والممارسات المتعلقة بالمناظر الحدودية وجعلها أكثر وضوحاً.
الحدود باعتبارها بنية سياسية ومعمارية، تتعلق بفلسفة التقسيم والتوصيل، والممارسات عبر الحدود، والمناظر الحدودية، والتكوينات المكانية، والسرد، والذاكرة، ومساحة السفر للحواجز، ومعاني الأمن، والمنزل، والاغتراب
كفلسطينية، ومن خلال التجربة الفردية، يمكن القول إن مفهوم الحدود في فلسطين هو معضلة أساسية في الصراع السياسي الذي تعيشه فلسطين بشكل عام وقطاع غزة بشكل خاص. في هذا المقال أنظر إلى الحدود باعتبارها بنية سياسية ومعمارية، وكممارسة مفاهيمية، مفاهيم تتعلق بفلسفة التقسيم والتوصيل، والممارسات عبر الحدود، والمناظر الحدودية، والتكوينات المكانية، وأنماط الحدود، والسرد، والذاكرة، ومساحة السفر للحواجز، ومعاني الأمن، والمنزل، والاغتراب. أعطي تركيزاً خاصاً للحدود الجنوبية لقطاع غزة، وتحديداً معبر رفح البري.
الحدود الفلسطينية المصرية
تشكّلت منطقة الحدود بين غزة ومصر في ظل صراع جغرافي طويل امتد لأكثر من 80 عاماً، تعود بداياتها إلى العهد العثماني في عام 1841، خلال الحرب العالمية الأولى، والحرب الإسرائيلية المصرية في عام 1948، حتى الشكل النهائي للحدود والذي تم الاتفاق عليه رسمياً في عام 1979 ،باتفاقية السلام الموقعة بين إسرائيل ومصر.
في عام 1982، تم الإعلان رسمياً عن افتتاح المعبر وأطلق عليه اسم معبر "رفح البري"، ويعتبر المعبر الرئيسي للحركة بين مصر وغزة. كان المعبر يديره في عهد السلطة الفلسطينية المصريون والفلسطينيون، وتحت إشراف الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك، بعد تولي حماس السلطة في غزة، وكجزء من سياسة الحصار، تم إغلاق المعبر وعاد للعمل لاحقاً في 2012-2013 بعد تولي محمد مرسي السلطة في مصر. وشهدت أزمة المعبر الحقيقية لاحقاً في العام 2013-2018، عندما كان المعبر مغلقاً بشكل شبه كامل، لكنه عاد للعمل بشكل منتظم لاحقاً (يعمل بمعدل 5 أيام في الأسبوع) بعد ضغوط من قبل الفلسطينيين على الشريط الحدودي لقطاع غزة يطالبون برفع الحصار.
بعد أن كانت الحدود مجرد نقطة وصول إنسانية لسكان الحدود بين غزة وسيناء، أصبحت اليوم أيضاً حدوداً تجارية، حيث تم فتح معبر آخر عرف باسم "بوابة صلاح الدين الأيوبي"، لتصبح بذلك المعبر التجاري بين مصر وغزة، وافتتحته مصر في شباط/فبراير 2018، بهدف تخفيف الأزمة الإنسانية في قطاع غزة نتيجة الحصار وتحت ضغط مسيرات العودة.
اشتق اسم البوابة من شارع صلاح الدين، وهو طريق سريع رئيسي يمتد على طول الجانب الشرقي من قطاع غزة من الشمال إلى الجنوب. تعمل البوابة بمعدل 15 يوماً تقريباً في الشهر، يتم خلالها إدخال البضائع ومواد البناء والوقود والسجائر والأدوية وغيرها من المواد تحت إشراف حكومة حماس والجانب المصري. ومع ذلك، ساهمت بوابة المعبر الجديدة في إنعاش التجارة بين مصر وغزة، وبحسب معطيات نشرها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، بلغت قيمة التجارة القائمة بين مصر وغزة نحو 45 مليون دولار شهرياً، وهو مصدر مهم لإيرادات حكومة حماس في ظل الضرائب المفروضة على عبور البضائع.
بالإضافة للإغلاقات المتكرّرة؛ يعاني الفلسطينيون المسافرون عبر معبر رفح البري من صعوبة السفر وقسوة الطريق وذل الإجراءات. تستمر رحلة السفر من وإلى غزة أياماً في بعض الأوقات، ويضطر المسافرون غالباً لقضاء الليالي بالقرب من نقاط التفتيش الأمنية الموزعة على طول الطريق بين القاهرة ورفح.
الحدود ومضاربات تخيلية للتحايل والهرب
ينظر للحدود هنا كهياكل قوة وهياكل سياسية تحمل معاني الفصل، التقسيم، التشويه، التفتيت، التشرذم، الإضعاف، الطمس والتمييز، من ناحية أخرى، قد تصبح هذه الهياكل عاطفية أكثر إذا ما تناولها السياق كهياكل للإذلال، الإرهاق، تشويه الذاكرة، الاغتراب، الحنين وغيرها.
مع ذلك، ما أحاول في هذا المقال فعله هو اللعب في مساحة الحد كونها مساحة اليقين الأكبر بكل شيء، ومساحة الأمان المضمون على الأقل. يهدف هذا اللعب والتحايل إلى البحث عن سبل لتجاهل السلبي في الحدود، التعافي من تبعاتها، وربما التمرّد على حالتها، من خلال ضرب تخيلي أو تلاعب فلسفي في المعنى.
تصبح فكرة الجنون عظيمة بما يكفي لنتخطى بها فكرة الحدود والبروتوكولات الإقصائية والمذلة؛ هذا ما حدث عندما ادعت سيدة الجنون أثناء وجودها في حافلة الركاب التي كانت تقلني من مصر إلى غزة عبر معبر رفح الحدودي
هذه المضاربات التخيلية قد تتخذ صوراً مختلفة تاريخياً، من الجدير بالذكر هنا التطرق لتلك المضاربة التي قدمها الكاتب محمد الماغوط حين كتب فيلم "الحدود"؛ فيلم من إنتاج عام 1984 ويتناول موضوع الحدود بطريقة كوميدية ساخرة.
في الفيلم؛ جسّد الممثل السوري دريد لحام شخصية المسافر الذي جاب الوطن وعبر حدوده الداخلية. يرسم "عبد الودود" (اسم الشخصية التي يؤديها الفنان دريد لحام) خريطة الحدود على الهيكل الخارجي لسيارته، لتظل علامة تذكّره بموقعه من الحد الذي لا يجسده أكثر من خط وربما نقطة لا تعدها المسافة شيء.
أثناه تجوله يفقد وثائقه الثبوتية على الحد الفاصل بين منطقتي شرقستان وغربستان، ويسقط في فخ الخريطة، ويظل عالقاً على الحد الذي لا تتجاوز مساحته ظل سن القلم على رقعة بيضاء. لتبدأ هنا لعنة الحدود في مطاردته، وتفشل محاولاته الحثيثة للعبور إلى غربستان أو العودة إلى شرقستان، وتركه وحده عالقاً على الحدود دون هوية أو مأوى.
أسفر الوقوع في هذه البقعة عن تعقيدات واضحة، دفعته إلى خلق مساحة من الحياد وجعلته شخصاً يعيش في ظروف غريبة معقدة. علاوة على ذلك، دفعه ذلك إلى التفكير في بناء مقهى لراحة المسافرين ومنزل له على خط الحدود، يقع نصف المقهى في غربستان والنصف الآخر في شرقستان. كان هذا الحد هو مساحة التلاعب التي سمحت له بالتحايل على السياسة وتحصيل حقوقه في الحياة والمأوى والشعور بالأمان.
هذا التجربة الحدودية التي عاشتها شخصية عبد الودود سمحت له باكتشاف جملة من الحقائق التي غيّرت رأيه في كثير من الأمور المتعلقة بالأجندات السياسية، الحدود، الوطن والهوية. بل ودفعته هذه التجربة المكانية القاسية إلى التفكير بشكل مختلف، تجاهل الخريطة الحالية، ومحاولة إنشاء مساحته الخاصة داخل الحدود التي تم تمثيلها على الخريطة كخط رفيع جداً مرسوم بقلم.
في سياق آخر، قد تصبح تمثيلات الجنون شكل من أشكال التعافي في قطاع غزة، والجنون هنا كنهج توعوي وطرح تفكير مختلف، خارج السياق ومتحرّر من الواقع اللاإنساني، وهو بذاته يحتمل الكثير من التصورات كما يرى فوكو؛ كالحكمة، السخط، الخيال، العناية الإلهية وغيرها.
وهنا نعود أيضاً بالتعريج على ما أقرّ به إدوارد سعيد، حيث قال إن المخرج الوحيد هو في الخيال، وما بين طرح فوكو وطرح إدوارد سعيد، وحتى طرح إدوارد سوجا، ضمن علوم الجغرافيا القائمة على الخيال وتوسيع مفهوم الخريطة، تكون هناك رواية تنسج خيوطها من هذه النظريات جميعاً.
حيث تصبح فكرة الجنون عظيمة بما يكفي لنتخطى بها فكرة الحدود والسياسة والبروتوكولات الإقصائية والمذلة؛ هذا ما حدث عندما ادعت سيدة الجنون أثناء وجودها في حافلة الركاب التي كانت تقلني من مصر إلى غزة عبر معبر رفح الحدودي. وفقاً لإجراءات السفر، فإن الجيش المصري لا يسمح بدخول أي فلسطيني الى قطاع غزة بدون تقديم ما يثبت هويته كفلسطيني، أو يمنحه حق الزيارة والإقامة في فلسطين.
ولأن هذه السيدة الفلسطينية، التي تم تفريقها لسنين عن أولادها وأحفادها، لا تملك سوى جواز سفر أردني، ولا تحمل أي هوية فلسطينية، استعانت بالخيال على أزمتها التي هي في الحقيقة أزمة وطن بأكمله، اضطرت إلى ممارسة طقوس غامضة تركت لدينا انطباع أنها شخص مجنون، يعيش عالمه الخاص ولا يدرك شيئاً عن الجغرافيا والحدود وعقدها التي عجنت بالسياسة.
قيامها بذلك سهّل مهمة دخولها لقطاع غزة، ولأنها تعيش حالة اللاعقل، فحالتها هذه لم تعد تنطبق عليها كل البروتوكولات القائمة. تمكنت من المرور تجاوزاً دون مساءلة. نحن رفقاء الطريق أدركنا لعبتها جيداً، لكن ضابط الأمن والشرطي لم يدركا الأمر، بل وتغاضى عنه ليعبر من زحمة الفوضى ويمرر الوقت إلى سبيله؛ فهناك ركاب عاقلون ينتظرون على الحد.
فهل علينا ربما أن نكون جميعاً مجانين لنتجاوز فكرة الحدود والسياسة إذن؟! هذا يؤكد أهمية هذه المضاربات التخيلية، وكيف أن الحدود لا بد أن تكون مرنة بمكان ما لتسمح بهذا الشكل من التدخّل المضاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين