تُعدّ متعة بسيطة كمشاهدة فيلم كوميدي وَسْط جو أسري دافىء تحدياً لسناء رمضان، ربة المنزل السكندرية البالغة من العمر 58 عاماً، إذ يبقى الحوار الذي تقوم عليه الدراما والسينما المصرية بشكل يفوق الصورة في كثير من الاحيان، عائقاً أمام فهم ومتابعة الأحداث لمثلها من الصُم وضعاف السمع، مما دفعها لاتخاذ قرار إغلاق التلفزيون.
الأم السكندرية هي واحدة من بين نحو 4 ملايين مواطن مصري - بحسب تقديرات المجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة- ممن يعانون إعاقة سمعية. إذ قدرهم المجلس في 2021 عند 4% من تعداد المواطنين في مصر البالغ إجمالي عددهم في 2023، 1.4 مليون شخص.
انتظرت رمضان حتى كبُر أولادها وسألتهم عن أحداث الأفلام والمسلسلات التي كانت تحبها لكنها لم تصلها معانيها في وقتها. لهذا تمثل مبادرة "سينما الصُم" التي أطلقها مشروع "سينما في كل مكان وفن في كل مكان" للمنتج وجيه اللقاني فرصة لتجديد علاقة الأم السكندرية بالسينما التي أحبتها طويلاً ولم تتمكن من الاستمتاع بها.
تمثل مبادرة "سينما الصُم" التي أطلقها مشروع "سينما في كل مكان وفن في كل مكان" للمنتج وجيه اللقاني فرصة لتجديد علاقة الأم السكندرية بالسينما التي أحبتها طويلاً ولم تتمكن من الاستمتاع بها
محاولات لم تفض إلى النجاح
في دراسته المعنونة "استخدامات الصم والبكم للبرامج التليفزيونية المترجمة بلغة الإشارة والاشباعات المتحققة منها" المنشورة ضمن أوراق المؤتمر العلمي لكلية الإعلام في جامعة القاهرة 2001، يرصد الباحث الدكتور محمد رضا سليمان أن القنوات المصرية بدأت توفير مترجم إشارة كخدمة للمواطنين من أصحاب الإعاقات السمعية في العام 1989 من خلال برنامج "التحدى" الذي عرض على شاشاة القناة الإقليمية الأولى (القناة الثالثة)، لتتبعه برامج أخرى برنامج "حديث الأصابع" الذي بدأ بثه في العام 1990 على القناة الإقليمية الثالثة (القناة الخامسة)، مشيراً إلي أهمية تلك البرامج التي تعد مصادر أساسية للمعرفة لدى جمهور الصم وضعاف السمع.
وبين الحين والآخر، تظهر بعض البرامج التي تتبنى تضمين مترجم إشارة للمحتوى المرئي مخصصة للصم إلا ان معظمها لم يكتب له الاستمرار؛ وَسْط انتقادات من قبل متلقي الخدمة متعلقة بصغر الكادر الذي يظهر فيه مترجم الإشارة، وتشوُّش الرسائل التي تصلهم في أوقات أخرى.
من خلال ترجمة ابنتها آلاء سامي - مترجمة الإشارة المحترفة- تقول سناء رمضان لرصيف22، إنه حتى في حالات تقديم القنوات المصرية لبرامج مدعومة بلغة إشارة، ظلت تلك البرامج "غير مجدية" بالنسبة لها ولمن يعانون مثلها من ضعف أو فقدان السمع، بسبب صغر الكادر الذي يظهر فيه مترجم الإشارة:"ممكن لو عملوه كبير، نُص (نصف) الشاشة… [ممكن] الصم يبدأوا يتابعوا ويتفرجوا".
توضح لنا آلاء أن لأمها مذاقاً خاصة لحكي الأعمال الدرامية المختلفة بلغة الإشارة التي تعلمتها الابنة قبل تعلمها النطق، ولهذا المذاق الخاص تشرح آلاف لأمها كل كادر وتوصل لها مشاعر كل مشهد بكل دِقَّة، مما يشعرهما بسعادة كبيرة عندما تتشاركان مشاهدة نفس المحتوى والاستمتاع به.
عدم الاهتمام بقضايا الصم وغياب لغة إشارة يصل إلي عدم توافر تلك الخدمة المهمة في المستشفيات، حيث يصعب على ضعاف السمع أو فاقديه التواصل مع الأطباء وتلقي خدمات علاجية متكاملة تتوفر بسهولة لصحيحي السمع
شرخ داخلي
تعي آلاء أن عملها كمترجمة ومدربة محترفة للغة الإشارة وفر لأمها خدمة لا تتاح لكثير من الصُم وضعاف السمع: "كثير من الصم لا تتوافر لديهم تلك الفرصة، حيث يتم التواصل مع الأصم في الاحتياجات الأساسية فقط مثل الأكل والشرب والعلاج؛ مما يسبب لهم شرخ داخلي من العزلة لا ينتهي".
وهو ما يؤكده المهندس المعماري محمد طارق البالغ من العمر 31 عاماً لرصيف22 عبر ترجمة المدربة قمر عادل، إذ يؤكد أن غياب المحتوى المدعوم بلغة الإشارة بات "شيئاً طبيعياً"، يدفعه إلى الرضا بالأمر الواقع -على حد وصفه - نظراً لعدم وجود إجراءات لتعميم الترجمة بلغة الإشارة؛ ما يجعله يشغل وقت فراغه بالتجمع مع أقرانه على المقهى وممارسة رياضتي كرة القدم واليد.
المترجمة ومدربة لغة الإشارة قمر عادل التي تعمل في ذلك المجال منذ عام 2014، تقول إن عدم الاهتمام بقضايا الصم وغياب لغة إشارة لا تقف عند تواضع خدمات الترفيه المقدمة لمن يعانون من الإعاقة السمعية فقط، بل يصل إلي عدم توافر تلك الخدمة المهمة في المستشفيات، حيث يصعب على ضعاف السمع أو فاقديه التواصل مع الأطباء والتعبير عن أعراضهم وفهم أمراضهم وتلقي خدمات علاجية متكاملة تتوفر بسهولة لصحيحي السمع، "مما يشعرهم بالتهميش".
تواصل عادل: "عندما أتحدث معهم عن أحلامهم يقولون لي، أننا صم لا يمكننا تحقيق ما نريد".
أول سينما للصم
في فبراير/ شباط الماضي، انطلقت مبادرة "سينما للصم"، لتدشن أول منصة إلكترونية عربية تُتيح لجمهور السينما من فاقدي السمع "الكلي/ الجزئي" مشاهدة أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية مدعومة بلغة الإشارة ـ حسب الطلب وبالمجان ـ بأسلوب احترافي يناسب احتياجاتهم في المشاهدة.
توفر منصة "سينما للصم" لجمهورها عشرة أفلام روائية قصيرة، أغلبها حاصل على جوائز أو شارك في مهرجانات عالمية، وافق صناعها على عرضها عبر المنصة مجاناً أو مقابل مبالغ رمزية على حد وصفه
المنصة الإلكترونية التي انطلقت من مصر وتستهدف جمهور الصم بالمنطقة العربية كلها، هي نتاج مشروع "سينما في كل مكان وفن في كل مكان"، الذي أطلقه المنتج والموزع السينمائي وجيه اللقاني في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، بهدف نشر ثقافة الأفلام المستقلة لفئات متنوعة من الجمهور.
أجريت عروض "سينما في كل مكان" في المقاهي والأمسيات الثقافية ودور العرض المتخصصة وأيضاً التجمعات المعنية بقضايا الصم وضعاف السمع، وتوسع أثرها إلى تدريب شباب الصم على فنون صناعة السينما، من خلال مبادرة "ديف فيلم لاب" Deaf film lab؛ لتمكينهم من دخول ذلك المجال كمحترفين.
يقول اللقاني لرصيف، إن أول عرض أفلام موجه لجمهور السينما من الصم، سبق إطلاق المبادرة رسمياً بعدة سنوات، إذ قدم العرض الأول في يناير/ كانون الثاني 2014، وهو فيلم "بعيداً عن الحرارة" للمخرج مينا نبيل.
بحسب اللقاني، لقي الفيلم قبولاً وترحيباً من قبل الجمهور الحاضرين بجمعية الرابطة الأخوية للصم في المنشية -إحدى أقدم جمعيات الصم بالمحافظة الإسكندرية- وقوبل بمناقشات حول الفيلم وَسْط مطالبات بتوفير مزيد من الأفلام.
ظلت الفكرة تختمر في عقل اللقاني حتى وجد فرصة إطلاق منصة "سينما للصم" بدعم من الاتحاد الأوروبي في مصر، واتحاد المعاهد الثقافية الأوروبية بمصر "يونيك"، ويوضح مؤسس المنصة إن سبب إطلاقها جاء بناءاً على رغبة الصم الذين يحضرون فعاليات "سينما في كل مكان"، في مشاهدة الأفلام مع دوائر أوسع من الأهل والمعارف، وفي الوقت المُحبب إليهم، خاصة بعد تعذر على كثير منهم حضور فاعليات العرض؛ بسبب البعد الجغرافي.
بلغ عدد الزيارات لمنصة "سينما للصم" منذ انطلاقها في فبراير/ شباط الفائت، 22 ألفاً و500 زيارة من مصر والدول العربية، وسط اهتمام متزايد من قبل الصم بالأفلام المتعلقة بالقضايا الإجتماعية والإنسانية
توفر المنصة لجمهور المشاهدين من الصم عشرة أفلام روائية قصيرة - قابلين للزيادة خلال المراحل المقبلة -، أغلبها حاصل على جوائز أو شارك في مهرجانات عالمية، وافق صناعها على عرضها عبر المنصة مجاناً أو مقابل مبالغ رمزية على حد وصفه.
بحسب مؤسس المبادرة، بلغ عدد الزيارات للمنصة منذ انطلاقها في فبراير/ شباط الفائت، 22 ألفاً و500 زيارة من مصر والدول العربية، وسط اهتمام متزايد من قبل الصم بالأفلام المتعلقة بالقضايا الإجتماعية والإنسانية.
ويعاون اللقاني في المنصة فريق مكون من 7 أفراد، 4 منهم من الصم و3 مترجمين من أبناء الصم، الذين يتولون مهمة اختيار الأفلام وترجمتها ومتابعة ردود أفعال الجمهور، بالإضافة إلي عقد اللقاءات تعريفية بالمنصة في مراكز وجمعيات تقديم الخدمات للصم.
عمل جاد
شروق محمد، المترجمة الرئيسة في منصة سينما للصم، تقول إن عملية الترجمة تتم بمراحلة عدّة، بداية من اختيار الأفلام مع مراعاة تصنيف النضج لكل فئة عمرية، وكتابة سكربتات الأفلام وترجمة وتسجيل المحتوى للغة إشارة، ومقارنتها بالمحتوى الأصلي؛ لضمان دَقَّة الترجمة.
تتابع شروق- التي تولت مهمة ترجمة حوارنا مع أعضاء فريق سينما للصم- لرصيف22، قائلة:"ينظر الصم إلى عروض الأفلام خلال المنصة بأنهم جزء منها وليست مفروضة عليهم (تقصد تجربة تفاعلية)، ويشاركون في شكل العرض، فقد تم استبدال حجم الكادر الذي يظهر فيه المترجم على الشاشة بآخر كبير بدلاً من الصغير غير الواضح بالنسبة لهم".
يشارك إسلام الجلاد، وهو مصور من الصم ومنسق عروض بفريق منصة سينما للصم، في المنصة بسبب رغبته في أن ينقل لأقرانه بعض من الأفلام التي لا يتمكنون من الوصول لمعانيها. ويوضح لرصيف22 قائلاً: "مترجم الإشارة لا ينقل كلام فقط، بل إنه يعطي إحساس الفيلم ومعناه"، متمنياً ترجمة أفلام طويله ومشهورة وأن تتاح الفرص أمام الصم للمشاركة في مجال التمثيل.
لدى محمد هشام، الشاب الذي يعاني من ضعف السمع ويسعى لاحتراف صناعة الأفلام، شغفٌ كبير بتعلم فنون السينما. ولكنه يواجه مشكلة تجاهل تناغم الحوار مع الحركة مع المؤثرات الصوتية عند مشاهدة المحتوى الدرامي
فاطمة بلال، صانعة أفلام من الصم وعضوة في فريق منصة "سينما للصم"، مكنتها مبادرة ديف فيلم لاب من إخراج فيلمها الأول "اللعبة"، تقول: "في السابق، كلّما رغبت في مشاهدة فيلم، كنت بطلب من اللي حواليا الترجمة، الشيء اللي ممكن يكون ممل بالنسبة لهم، أو عدم تمكنهم من ترجمة كل المشاهد، وقتها كانت لا تصلني مشاعر ومعاني الفيلم، الآن - عبر هذه المبادرة- يظهر المترجم كأنه جزء من الفيلم".
ترى بلال أن أهمية المنصة تكمن أيضاً في تعريف القادرين على السمع على مجتمع الصم، ومشاهدة لغتهم؛ لتكون فرصة لتداول لغة الإشارة وفهمها عند التحدث بها في الأحداث اليومية.
لدى محمد هشام، الشاب الذي يعاني من ضعف السمع ويسعى لاحتراف صناعة الأفلام، وأحد أعضاء فريق سينما للصم، شغفٌ كبير بتعلم فنون السينما. يقول هشام لرصيف22 إنه كان يواجه مشكلة تجاهل تناغم الحوار مع الحركة مع المؤثرات الصوتية عند مشاهدة المحتوى الدرامي ما كان له تأثير ووقع سلبي على نفسه: "وقتها كنت أشعر بالظلمة".
ويستكمل لـرصيف22، قائلاً: "الآن أشعر بالتغيير، الأفلام المعروضة أصبحت تخاطب دواخلنا، المنصة ستحدث الكثير في مجتمع الصم، فهي بالنسبة لنا بداية الطريق".
يرى اللقاني أن مشاهدة الأفلام السينمائية حق لمجتمع الصُم، ويتمنى أن تكون منصة سينما للصُم مكاناً ترفيهياً وتثقيفياً لهم، موضحاً لنا أنه يطمح إلى التوسع في زيادة الأفلام بالمنصة لتشمل الأفلام الأوروبية والأمريكية بجانب الأفلام العربية.مختتماً حديثه قائلاً: "مجتمع الصم محب للفنون وقادر على الإبداع هو فقط يتكلم لغة أخري، علينا تعلمها أو تسهيل سبل التواصل لهم بفضل المترجمين الذين يعملوا كهمزة وصل قوية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 37 دقيقة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 20 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون