كل يومين أو ثلاثة على مدار الأشهر الستة الفائتة، اعتاد المزارع أبو ماجد الشيخ بكري أن يشقّ طريقه من مدينة دوما أكبر مدن غوطة دمشق الشرقية حيث يقيم، إلى أرضه في بلدة شبعا على أطراف الغوطة، ليتفقد محصول القمح ويؤمّن له "أفضل خدمة" حسب تعبيره من مياه وسماد وعناية، على أمل أن يحصل على مردود جيد. "زرعت قرابة ثلاثين دونماً هذا العام، وأنتظر بأملٍ كبير ما سأجنيه في نهاية الموسم"، يقول بابتسامة خافتة وهو يعمل دون توقف داخل الأرض.
ومع قرب انتهاء عمليات حصاد القمح في ريف دمشق وعموم سوريا، لا يخفي المزارعون وملاك الأراضي فرحتهم بقطاف نتيجة تعبهم خلال فترة تزيد عن ستة أشهر، وفي الوقت ذاته قلقهم من أن بعض الحقول "لم ترمِ" الكميات المتوقعة لأسباب تتعلق بظروف العمل وإمكانيات الرّي وكذلك المناخ. وقُدّرت المساحات المزروعة بالقمح هذا العام في سوريا بنحو مليون هكتار، وهي أقل من العام الفائت بعشرين في المئة.
زرعت قرابة ثلاثين دونماً هذا العام، وأنتظر بأملٍ كبير ما سأجنيه في نهاية الموسم.
ويشرح الشيخ بكري (52 عاماً) لرصيف22: "أصبحت زراعة القمح في السنوات الثلاثة الأخيرة على وجه الخصوص مكلفة جداً، إذ تحتاج الأرض للحراثة والبذار والمياه، إلى جانب الأسمدة والمبيدات الضرورية لمكافحة بعض الآفات مثل حشرة السونا وغيرها، وتكمن المشكلة الأساسية في غلاء أسعار المحروقات والأسمدة، إذ نضطر لشرائها من السوق السوداء بسعر يراوح بين ستة وتسعة آلاف ليرة (0.75-1 دولار) لليتر الواحد، لعدم كفاية كميات الوقود المدعوم حكومياً، وكل ‘شربة’ أو ‘سقية’ لكامل الأرض تحتاج إلى قرابة ستين ليتراً".
وبلغت تكاليف زراعة الدنم هذا العام أكثر من نصف مليون ليرة (قرابة 65 دولاراً) والبعض قدّرها بضعف هذا الرقم، عدا أجور وتكاليف عمليات الحصاد، ويدفع ذلك بعدد من المزارعين للتخّلي عن أراضيهم أو التوقف عن الزراعات التي تتطلب جهداً كبيراً على المدى الطويل، ومنها القمح، والتحوّل نحو المحاصيل الأسهل والأقل تكلفة.
لكن ذلك ليس حال أبو ماجد، الذي كان يعمل جاهداً خلال الأيام الأخيرة من الشهر الفائت مع فريق من العمال لإنهاء حصاد السنابل الذهبية وتجميعها ومن ثم نقل حصيلة القمح نحو المطاحن الحكومية في بلدة الغزلانية القريبة، حيث يبيعها المزارعون بسعر 2800 ليرة سورية للكيلوغرام الواحد.
"في نهاية المطاف لا أملك إلا أن أزرع. هي المهنة الوحيدة التي أتقنها كما كان أبي وجدي من قبلي، وحتى لو كانت غير كافية لأعيش منها بشكل جيد، أو وصلت إلى حد الخسارة أو الاضطرار للاستدانة كي أكمل الموسم، لا يمكنني التخلي عن أرضي"، يقول.
أصبحت زراعة القمح في السنوات الثلاثة الأخيرة على وجه الخصوص مكلفة جداً، إذ تحتاج الأرض للحراثة والبذار والمياه، إلى جانب الأسمدة والمبيدات الضرورية لمكافحة بعض الآفات مثل حشرة السونا وغيرها، وتكمن المشكلة الأساسية في غلاء أسعار المحروقات والأسمدة
وقد أثارت تسعيرة شراء القمح لهذا الموسم والتي أعلنتها الحكومة السورية في نيسان/ أبريل الفائت ردود فعل لدى كثير من المزارعين إذ اعتبروها "متدنية ومخيبة للآمال ولا تقارب التكاليف الحقيقية التي تكبدوها هذا العام للزراعة". ووسطياً، يمكن أن يعطي الدونم ما بين 300-700 كيلوغرام من القمح، قد تصل إلى طن في أفضل الأحوال، وفق تقديرات المزارعين الذين تحدثنا إليهم.
وقبل عام 2011، وصل إنتاج سوريا السنوي من القمح إلى قرابة 4 ملايين طن كانت تغطي الاحتياج الوطني، لكن في الأعوام الأخيرة باتت الحكومة مضطرة للاستيراد مع تراجع المساحات المزروعة وتراجع الكميات بشكل كبير، وقد أشار وزير الزراعة السوري في تصريحات صحافية أواخر حزيران/ يونيو الفائت إلى أن "الإنتاج هذا العام سيؤمن نسبة جيدة من الاحتياج"، دون تحديد للكميات المتوقعة تماماً.
أمطار غير كافية
من جهة أخرى، تقلّبت أمزجة مزارعي القمح في سوريا مع تقلّبات موسم الأمطار الذي شهد تذبذبات كبيرة هذا العام، إذ انحبست عن الهطول بشكل مقلق خلال شهري شباط/ فبراير وآذار/ مارس، ثم هطلت بشكل وفير بعد ذلك. وفي حين قد يكون لذلك تأثير كبير على المحاصيل البعلية بشكل خاص، إلا أن القمح المروي الذي تبلغ نسبته من إجمالي الإنتاج في سوريا 75 في المئة، أيضاً له نصيبه من التأثر بتغيرات تساقطات الأمطار التي يمكن أن تؤدي إلى تأخر النمو بشكل ملحوظ.
تقلّبت أمزجة مزارعي القمح في سوريا مع تقلّبات موسم الأمطار الذي شهد تذبذبات كبيرة هذا العام.
"عادة نحتاج لري الأراضي ما بين 8 و 10 مرات كل موسم، وتحتاج السنابل لأن تأخذ حقها من المياه كي تنتج بأفضل شكل ممكن، وفي حال توافر موسم جيد من الأمطار يمكنني الاستغناء عن اثنتين أو ثلاث من الريّات وذلك يوفر مبالغ جيدة"، يشرح أبو ماجد.
هذا "التفاؤل" النسبي بالأمطار التي هطلت خلال الشهرين الفائتين وقبيل بدء عمليات الحصاد لم يكن مشتركاً مع محمد، وهو مزارع في بلدة كفربطنا وسط الغوطة الشرقية. يقول لرصيف22 مفضّلاً استخدام اسمه الأول فقط: "موسم المطر هذا العام أفضل بكثير من العامين السابقين، ووفّر علينا أكثر من عملية سقي، لكن الأرض لا تزال عطشى بشكل ملحوظ، ومهما سقيناها نشعر أنها بحاجة لمياه أكثر، وهذا نتيجة تراكم لسنوات متتالية من الجفاف، فالأمطار منذ زمن لم تعد تهطل بكميات كافية".
ومع اعتماد محمد على الآبار الموجودة في المنطقة للسقاية، والتكلفة الكبيرة التي يتطلبها سحب المياه إلى أرضه، يشير إلى أن القمح المروي يحتاج بدوره إلى المطر، وليس فقط البعلي: "ما بين أمطار وسقاية كافيين، يمكن أن نحصل على حبة قمح كبيرة مشبعة بالمياه وتالياً بنوعية ممتازة، عدا ذلك تبقى لدينا خشية بأن يكون الموسم أقل من المتوقع رغم التعب والجهد الكبير الذي بذلناه. لكن ما باليد حيلة".
وعموماً، لم تصل سوى نصف مناطق البلاد تقريباً لمعدلاتها السنوية من هطول الأمطار لهذا الموسم وفق إحصائيات المديرية العامة للأرصاد الجوية، في حين أن النصف الآخر بقي دون المعدل.
ثلاثية السماد والري والعناية
في منطقة خرابو وسط الغوطة، يعمل مهندسون وخبراء من شركة "رعايتي" للاستثمار والتطوير الزراعي، وبالتعاون مع كلية الزراعة في جامعة دمشق، على تطوير الممارسات الزراعية المتعلقة بالقمح ومحاصيل أخرى، بهدف الحصول على نوعية جيدة من المنتجات القادرة على التكيف مع كافة الظروف سواء المناخية أو الخدمية.
داخل حقل شاسع يتجول الدكتور والباحث الاقتصادي ياسين العلي وهو يتفقد سنابل القمح الطويلة والمليئة بالحبوب، ويشعر بالرضا عن نتيجة التجارب التي وصل إليها كادر الشركة خلال الأشهر الأخيرة، ويقول لرصيف22: "ركّزنا على ممارسات جديدة تتعلق بنوعية الأسمدة ومواعيد الزراعة والري وكذلك طرق العناية بالقمح، ووصلنا إلى نتائج ممتازة نأمل بتعميمها على الفلاحين وفي مناطق أخرى".
تتضمن هذه الممارسات كما يشرح العلي وإلى جانبه عماد البزال وهو المشرف العام على المشروع، تأخير موعد زراعة القمح والتي تبدأ عادة في أواخر العام، لشهرين تقريباً، واستخدام الأسمدة العضوية، والعناية اليومية ومكافحة الآفات فور ظهورها.
نحتاج لأن نتكيف مع التغيرات المناخية لا أن نستسلم، فانزياح مواعيد هطول الأمطار على سبيل الأمثال لا يعني أننا ما عدنا قادرين على إنتاج القمح، بل علينا أن نعدّل مواعيد الزراعة وطرق العناية بالمحصول بما يتناسب مع هذه التغيرات
ويرى المتحدثان بأنه بات من الضروري على المزارعين تطوير ممارساتهم الزراعية، مثل التوقف عن استخدام الأسمدة الكيماوية والتوجه نحو العضوية، وهي أقل تكلفة وأكثر فائدة، وهنا يلفتان إلى اعتقادات خاطئة حول فائدة الأسمدة الكيماوية مثل اليوريا وضرورة الإكثار منها، في حين أنها مع الاستخدام المستمر عاماً تلو آخر تزيد نسبة الملوحة في الأرض وتؤدي إلى خروجها عن الخدمة الزراعية، وهو أمر حصل فعلاً ضمن مئات الهكتارات في سوريا.
كما ينصح العلي وهو رئيس مجلس إدارة "رعايتي" بالتوجه نحو طرق الري الحديثة مثل الرشاشات، فهي تحافظ على المياه بشكل ملحوظ، ويقول: "يمكننا بمتر مكعب من المياه أن نروي دونماً واحداً أو عشرة دونمات، فأيها نختار؟". وهنا لا يغفل دور الإرشاد الزراعي في التوعية بهذه الأمور، وهو مع كل أسف شبه غائب في سوريا اليوم، وموجود بالاسم وليس بالفعل وفق تعبيره.
وينوّه بأن التغيرات المناخية، على خطورتها، ليست المؤثر الأكبر على الزراعة اليوم، ويشرح: "نحتاج لأن نتكيف مع هذه التغيرات لا أن نستسلم، فانزياح مواعيد هطول الأمطار على سبيل الأمثال لا يعني أننا ما عدنا قادرين على إنتاج القمح، بل علينا أن نعدّل مواعيد الزراعة وطرق العناية بالمحصول بما يتناسب مع المتغيرات المناخية، والجفاف ليس بالأمر الجديد في سوريا، فكثيراً ما كنا نمر بسنوات جافة وأخرى خيّرة، والأهم هو أن نعرف كيفية إدارة مصادر المياه الموجودة لدينا بالطرق الأمثل".
ويختم: "الاحتياجات في سوريا بما يخص تطوير إنتاج القمح كبيرة، وما نقوم به قد يكون مجرد نقطة في بحر هذه الاحتياجات، لكننا نسعى لتعظيم الفائدة في مناطق عملنا في دمشق وحلب وحمص، ونسعد بالعدوى الإيجابية التي ننشرها مع اهتمام كثير من الفلاحين بزيارة مشروعنا والتعّرف لما نقوم به والسعي إلى تطبيقه في أراضيهم".
تصوير: زينة شهلا
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.