شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هنا

هنا "نصف الدنيا"… أصفهان التي سحرت الرحالة من أبي دلف إلى ريتشاردز

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الخميس 16 مارس 202305:54 م

"تتمتع أصفهان بطقس نقي وخال من الحشرات ولا تتعفن جثث الأموات تحت ترابها، كما أن اللحوم لا تفسد في هوائها، وإن بقي الوعاء دون نظافة حتى شهر بعد الطهي فلم يتغير فيه شيء... تربة أصفهان، أفضل تربة على وجه الأرض، وفي المدينة تبقى فاكهة التفاح سالمة وطازجة لسبع سنوات... في هذه المدينة هناك عدد من المعالم الأثرية". هذا شرح لأول رحالة عربي ومسلم زار إيران، وهو أبو دلف مسعر بن مهلهل الخزرجي٬ سنة 952 م.

لم تحظ مدينة إيرانية باهتمام وانبهار السياح الأجانب كما حظيت أصفهان التي زارها أعداد كبيرة منهم، فيمكن للسياح أن يتجولوا في أزقتها القديمة ويستغربوا كما استغرب الفرنسي جان شوبفر: "أها… هذه هي أصفهان".

في وسط الهضبة الإيرانية تقع أصفهان على ضفاف نهر "زاينده رود"، ويعود تاريخها إلى العصور القديمة، إذ تحظى بوجاهة في تاريخ إيران ما قبل دخول الإسلام، كما حفظت مكانتها في ما بعد دخول الإسلام إليها، وذلك بسبب موقعها الجغرافي المميز وطقسها المعتدل.

رغم الدمار الذي استمر لعقود في أصفهان، إلا أن اسمها ارتبط بالمجد والحضارة، فحين اختارها الصفويون عاصمة لهم، عادت إلى ازدهارها السابق

كان ذروة مجد المدينة في حقبة الدولة الصفوية، خاصة عند عهد شاه عباس الصفوي (1588-1629)، الذي نالت حكومته شهرة عالمية حيث جمع الفنون والعمارة الإيرانية الإسلامية في أصفهان، حتى حوّلها إلى معرض مفتوح. ورغم مرور مئات السنين إلا أن مجد أصفهان مازال مشرقاً وسط التنمية الحضرية غير الملائمة.

في "صورة الأرض"

سجل المؤرخ والجغرافي ابن حوقل في كتابه صورة الأرض أن "أصفهان تقع على ناحيتين، الأولى تعرف باليهودية والثانية تعرف بالمدينة (شهرستان)، وبينهما مسافة تمتد لميلين على غرار قرطبة والزهراء في الأندلس. ناحيتان متباينتان ولكل واحدة إدارة خاصة بشؤونها، واليهودية أكبر من المدينة بضعف تقريباً، وإنها شيّدت من طين. ويقال إن إسكندر المقدوني قد بنا سوراً حول المدينة مع 365 برجاً، لتكون ملاذاً للسكان في وقت حصار الأشرار ... يتم تقسيم المياه إلى فروع وينابيع حسب الحق في شرب الماء، وبهذه الطريقة لا يهدر الماء فيها".

اختار السلطان ملكشاه، في حقبة الدولة السلجوقية خلال القرن العاشر الميلادي المدينةَ عاصمة له، ومنذ ذلك الحين شهدت المدينة نمواً كبيراً في معمارها.

يصفها الرحالة الإيراني ناصر خسرو في سنة 1045م، "للمدينة سور كبير وأبراج وبوابات، وهي تتمتع بطقس جيد جداً، وأين ما حفرو بئراً، خرج ماء بارد لطيف، وفي أزقتها تتدفق مجاري المياه الصافية وتتمتع بمبانٍ عاليه وجيدة، وفي وسطها جامع كبير، والعدد من الأسواق، وقيل إن سورها يمتد إلى 3 أميال ونصف، وفي داخلها إعمار بكل مكان دون أن أجد فيها حطاماً".

خلاف السنة والشيعة

حينما باشر المغول بغزو إيران في 56-1219م، تحملت أصفهان الكثير من الدمار. يقول عنها ابن بطوطة في سنة 1325 إن أصفهان، مدينة كبيرة وجميلة ضمن مدن عراق العجم، ولكن وقعت في دمار بسبب الخلافات بين أهل السنة والشيعة، وما زالت مستمرة وسكانها في حال نزاع وقتال دائم.

ورغم الدمار الذي استمر لعقود في أصفهان، إلا أنها ارتبط اسمها بالمجد والحضارة، فحين اختارها الصفويون عاصمة لهم، عادت إلى إزدهارها السابق، وانقسمت إلى الجهة الشمالية والجنوبية في عهد شاه عباس الصفوي، وكانت الجهة الجنوبية مخصصة للجالية الأرمنية التي جلبهم الملك من مدينة جُلفا شمال البلاد.

رغم الجفاف الذي حل في نهر زاينده رود، وأثر كثيراً على مظهر المدينة دون الماء في بعض فصول السنة، إلا أن أصفهان مازالت ملكة المدن الإيرانية.

زار الرحالة الإيطالي بيترو ديلا فاليه، والفرنسي جان تافرنييه، وابن وطنه نيكولاس سانسون، والألماني آدم أولياريوس، أصفهان. مشاهير ضمن عشرات الرحالة الذين حلوا ضيوفاً على هذه المدينة الإيرانية وذكروها في مذكراتهم التي تعتبر وثائق تاريخية.

قال فيها الفرنسي جان شاردان في كتاب ذكرياته سنة 1664، "أصفهان مع ضواحيها من أوسع مدن العالم. الإيرانيون ولكي يظهروا عظمة عاصمتهم، يقولون إن أصفهان نصف الدنيا... أكثر ما يميز رؤية أصفهان الأخاذة، هي القصور الرائعة والبيوت المبهجة والخانات الواسعة والأسواق المذهلة. مجاري المياه تتدفق على جانبي الشوارع الرئيسية والأشجار الباسقة التي تناطح السحاب، ولكن أزقة المدينة معظمها ضيقة ومتعرجة وغير مستوية، وبالتالي لا يستطيع المارة رؤية انتهاءها من مسافة 200 قدم".


أكلنا لحوم الكلاب في زمن الحصار

حوصرت أصفهان لفترة 6 أشهر في سنة 1722، حتى سقطت المدينة على يد قبائل البشتون الأفغانية، وشكلت البداية على نهاية حكم السلالة الصفوية.

القس البولندي كروسينسكي، الذي قطن في أصفهان لسنوات عدة، يشرح لحظة سقوطها، "بعد 3 أشهر من الحصار، كان الخبز واللحوم والمواد الغذائية توجد بكمية قليلة، وبعد ذلك باشرت الأسواق ببيع لحوم الحمار والإبل، وبعد ذلك لم يحصل شيئاً حتى قرر الأهالي تناول لحوم القطط والكلاب".

بعد ذلك عندما تولت السلالة القاجارية الحكم، اختارت طهران عاصمة لها، وساهم هذا القرار في إهمال موقع أصفهان، وفي سنة 1839، يصف الفرنسي الدوسارسي، في كتاب سفره عن بقايا الدولة الصفوية وساحة نقش جهان، ثاني أكبر ساحات العالم التي تضم القصور وبلاط الحكم والجامع والسوق معاً: "كنا نمر بسرعة من الأزقة المدمرة، ولم يظهر لنا بعد جمال العاصمة القديمة، وحين مررنا من البازار الكبير، ودخلنا ساحة نقش جهان، شعرنا بما كان يمكن أن تكون عليه هذه المدينة الكبيرة في الأيام الماضية ... قد دخلنا في شارع جميل تصطف على جانبيه أشجار الدلب القديمة والباسقة... مررنا الجسر الجميل المبني على نهر زاينده رود، وفيه ممرات مقوسة حيث من أجمل المباني في المدينة وفي رأي يدل على لياقة شعب متحضر ومتحدث".

تؤكد ذلك ماري شييل، زوجة السفير البريطاني لدى طهران في منتصف القرن التاسع عشر: "موقع أصفهان على ضفاف النهر، جعلها تتمتع بجغرافيا كادت أن تندر في بلاد إيران... عليه أن أقرّ أن في مشاهدة القصور التي بناها هذا الملك (شاه عباس الصفوي الأول)، يوجد الكثير من المتعة".

يذكر الکاتب والمصور البريطاني أرنولد هنري لاندور، في مذكراته: "سقف منازل أصفهان من طين، ولكن بساتينها وضواحيها رائعة وعظيمة... وحوالي المدينة هناك الكثير من بروج الحمام".

أنقاض الأحياء المزدهرة

زار الصحافي الفرنسي ولاعب التنس جان شويفير، أصفهان في بداية القرن العشرين، وبعد وصفه لجمال المدينة يقول: "علینا التفکیر في أننا نقف الآن بين الأنقاض التي كانت ذات يوم حياً مزدهراً. أنقاض تركت بعد أن كانت في الماضي قصراً أو مبنى كبيراً".

وفي نفس الأعوام، تفقد الروائي الإيراني الشهير صادق هدايت، أصفهان وكتب عنها: "تشييد المدينة كان من فضل نهر زاينده رود، والفروع التي فصلت من النهر فإنها تروي جميع الأحياء السكنية، هذا النهر من أول دخوله في أصفهان حتى خروجه منها، تلتف حوله الأشجار والحدائق والمنازل".

مع نهاية الدولة القاجارية وبداية الدولة البهلوية، بقيت طهران عاصمة الإيرانيين، وبرغم ذلك "نصف الدنيا" لها ما لها من المعالم

يعتقد الكثير من الباحثين أن حاكم أصفهان في نهاية حقبة القاجاريين، سلطان مسعود ميرزا المشهور بـ"ظل السلطان"، والذي حكم المدينة 34 سنة حتى وفاته 1918، دمر الكثير من المعالم التاريخية في المدينة. "هدم ظل السلطان مباني الحقبة الصفوية بأكملها، ولم يبقى سوى القليل منها"، هكذا يذكر المؤرخ عبد الحسين خان سبِهر الذي زار المدينة وقتذاك.

هل تعود أصفهان عاصمة؟

مع نهاية الدولة القاجارية وبداية الدولة البهلوية، بقيت طهران عاصمة الإيرانيين، ومازالت أصفهان تخضع للتهميش، ولكن رغم كل ذلك في نصف الدنيا لها ما لها من المعالم والمباني والآثار والحدائق والبساتين والقصور، التي تجعلها صامدة وجذابة رغم الدمار والنسيان.

"على عكس المدن الإيرانية، فإن أصفهان لازالت تحتفظ بجلالها ومجدها كي تعرضه لسياحها... واليوم وبالرغم من أن ملكة المدن الإيرانية تذهب نحو الدمار ولم تحظ بالانتباه، إلا أنها قادرة على أن تعكس ما لديها كوثائق لإثبات عظمتها."، هذا ما سجله الكاتب البريطاني فريد ريتشاردز في سنة 1930 في كتاب "رحلة إيران".

يمكن اعتبار وصف ريتشاردز سارياً حتى اليوم، فبرغم الجفاف الذي حل في نهر "زاينده رود"، وأثر كثيراً على مظهر المدينة دون الماء في بعض فصول السنة، إلا أن أصفهان ما زالت أميرة المدن الإيرانية. ولربما ذلك هو السبب وراء الأحاديث التي تشاع عن نقل العاصمة من طهران إلى أصفهان خلال حقبة نظام الجمهورية الإسلامية، تسريبات لم تؤكد حتى اللحظة ولكن لا يستبعد أيضاً أن تعود أصفهان مرة أخرى عاصمة للإيرانيين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image