في لقاء لقناة تلفزيون عربية مع محلّل سياسي فلسطيني، قال الأخير جملة يمكن أن تكون موضوعاً للدراسة والنقاش بين محلّلين أكثر كفاءة ومعرفة، أو على الأقل، بين محلّلين حقيقيين، وليس من طراز ما تُطلق عليهم القناة هذا الوصف، لمجرّد أنهم يتوافقون مع رؤيتها.
الجملة كانت في معرض الكلام عن اقتحام الجيش الإسرائيلي لمخيم جنين، ليلة أول من أمس، وبدء حلقة جديدة ومتواصلة من قتل الفلسطينيين وتخفيض سقف مطالبهم، وهي أن "إسرائيل لم تتعلّم من دروسها السابقة"، ولأن الجملة قيلت في معرض الكلام عن تكبيد الخسائر من كل طرف للطرف الآخر، فهي بلا شك تحتاج لورشة عمل تحليلية من المحللين وعلماء النفس السياسي.
مع سيطرة إعلام النفط والغاز، وتغلغله في كل مفاصل حياتنا، فقد تحوّلت المفاهيم وتم تغيير المصطلحات والتعريفات، لدرجة أن شنّ غارة من طائرة مقاتلة على مدنيين في مخيم، أو حتى على سيارة يستقلّها مقاومون بسلاح فردي، صار خبراً عادياً
لكن لماذا يتردّد المراسل في وصف ما يحدث في المخيم بالمأساة أو الكارثة الإنسانية؟ فهو في النهاية يعرف بحدسه البسيط أن تهجير السكان من بيوتهم، منتصف الليل، أو حتى في عزّ الظهيرة، يعدّ مأساة إنسانية. وهو يعرف أن منع طواقم الإسعاف من الوصول إلى الجرحى، يعدّ كارثة تلحق بالضحايا، ويندرج تحت المخالفات الجسيمة لحقوق الإنسان، وللقوانين والأعراف الدولية. ويعرف أن قتل الأطفال، أو ترويعهم من أساسيات تعريف الكارثة الإنسانية.
إنه يتردّد بالوصف لذات الأسباب التي تدفع المحلل السياسي للقول إن المعتدي لم يتعلّم من دروسه السابقة. وهذه الأسباب تتمحور حول فكرة صناعة البطل والبطولة، وإهمال أو تنحية ما يعلق في أطراف هذه الفكرة من شوائب إنسانية، فالشعب الفلسطيني، بطبعه، بطل في رأي المراسل والقناة والمستمع، وهو يستمدّ هذه البطولة أولاً من الأحقية التاريخية، وثانياً من الامتياز الديني، وثالثاً من قدرته على استقبال الموت بصدر رحب. ولأنه بطل فلا يحق له الصراخ ولا الاستنجاد ولا الألم، وإلا فعزيمة الأمة سيتم تثبيطها.
في المسرح اليوناني القديم، كان يتمّ تصوير البطل بنهاية تراجيدية دوماً، فلا يحق للبطل الإغريقي أن ينتصر، خوفاً من أن يقلّده المشاهد فيما بعد، بل عليه أن يحوز على التعاطف بأكبر قدر ممكن، بسبب النهاية المأساوية التي تقدّم لنا العبرة لا أكثر، وتقدم لنا الوقود الكافي لمديحه والكتابة عنه، أما لو انتصر فما الذي سنقوله كمشاهدين؟ لا شيء.
لكننا في المقابل، سنتعرّف على الأدوات والظروف التي قادت إلى هذا الانتصار، وربما سنستخدمها في مجريات حياتنا، وهذا هو غير المسموح تحديداً. هل يتعامل الإعلام العربي المساند لقضيتنا بهذا المبدأ؟ هل هو تطوّر طبيعي للمسرحية الإغريقية، لكن الممثلين بلا أجر ويموتون فعلاً، ويتم تصوير موتهم اليومي لاستنهاض عزيمة الأمة في المديح المجاني والشعر الركيك؟
في متابعة بسيطة لإعلام العدو الإسرائيلي، بإمكاننا، ودون جهد خارق، أن نلاحظ عدم تركيزه على أخبار الجيش وانتهاكاته الجسيمة بحق الفلسطينيين، ولا على أخبار المستوطنين وما يعيثونه من فساد ويقومون به من جرائم بحق البشر والشجر في بلادنا، بقدر تركيزه على الضحايا من طرفه، حتى لو كانوا ضحايا للخوف والهروب إلى الملاجئ. وهو يستطيع (واستطاع)، أن يقنع العالم بهذا الخطاب الإعلامي، ما جعل هذا العالم يقف موقف المتفرّج، على الأقل في الحرب الأخيرة على مخيم جنين.
إسرائيل، وتحديداً حكومة نتنياهو، تسحق الفلسطينيين يومياً، ليس لأهداف أمنية فقط، بل لأهداف سياسية تتمثّل بإنهاء أي تمثيل سياسي لهم وأي تواصل جغرافي يقرّبهم من تحقيق حقوقهم التاريخية، وأي أمل في وقوف العالم الحرّ معهم ومع قضيتهم
ومع تكرار هذا الإعلام لخطاب النصر، أو لخطاب الندية بين طرفين متساويين، ومع قدرته الكبيرة على تلقين المشاهد مفاهيم مغلوطة بلغة مخاتلة شعبوية، استطاع أن يعمّم فكرة البطل والبطولة وينحي المأساة الإنسانية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني على مدار قرن كامل. واستطاع بسبب ذلك أن يخلق جيلاً ينظر إلى السماء ولا ينتبه للأرض التي يتم قضمها يومياً من تحت أقدامه، واستطاع أن يقنع المشاهد أن الكتابة عن البطل الشهيد هي الغاية النهائية، والهدف الأسمى لتعريف النفس، أو على الأقل لحشرها في قائمة الأبطال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...