شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
مخيم جنين... ضحية لاحتلالهم وإعلامنا

مخيم جنين... ضحية لاحتلالهم وإعلامنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتطرف

الأربعاء 5 يوليو 202312:28 م

في لقاء لقناة تلفزيون عربية مع محلّل سياسي فلسطيني، قال الأخير جملة يمكن أن تكون موضوعاً للدراسة والنقاش بين محلّلين أكثر كفاءة ومعرفة، أو على الأقل، بين محلّلين حقيقيين، وليس من طراز ما تُطلق عليهم القناة هذا الوصف، لمجرّد أنهم يتوافقون مع رؤيتها.

الجملة كانت في معرض الكلام عن اقتحام الجيش الإسرائيلي لمخيم جنين، ليلة أول من أمس، وبدء حلقة جديدة ومتواصلة من قتل الفلسطينيين وتخفيض سقف مطالبهم، وهي أن "إسرائيل لم تتعلّم من دروسها السابقة"، ولأن الجملة قيلت في معرض الكلام عن تكبيد الخسائر من كل طرف للطرف الآخر، فهي بلا شك تحتاج لورشة عمل تحليلية من المحللين وعلماء النفس السياسي.

وفي تقرير مباشر من الموقع، أي من مخيم جنين المنكوب بكل المعاني، يقدّم مراسل القناة مرافعته المطولة عن تطوّر الأحداث، ثم يزلّ لسانه بجملة "في داخل المخيم هناك كارثة إنسانية"، لكنه يشعر أن هذه الجملة قد لا تعجب سياسة القناة، أو ربما لا تعجب صاحب الدروس التي لم يتم التعلّم منها، فيستدرك حالاً بجملة "إن صح التعبير". أي أن المراسل لا يحسم قناعته بتوصيف المخيم وسكانه وما يعانونه من آلة البطش الإسرائيلية بوصفه "كارثة إنسانية"، بل يتراجع قليلاً، لأن التعبير هذا "قد" لا يصحّ عند البعض.
هذان نموذجان بسيطان عن التغطية الإعلامية التي ترافق أي هجوم إسرائيلي على حياة الفلسطينيين، وهي تغطية تساوي بين المعتدي والضحية، كطرفين ندّين، يمكن لأي منهما أن يتعلّم (أو لا يتعلّم) من دروسه السابقة.
مع سيطرة إعلام النفط والغاز، وتغلغله في كل مفاصل حياتنا، فقد تحوّلت المفاهيم وتم تغيير المصطلحات والتعريفات، لدرجة أن شنّ غارة من طائرة مقاتلة على مدنيين في مخيم، أو حتى على سيارة يستقلّها مقاومون بسلاح فردي، صار خبراً عادياً

لكن لماذا يتردّد المراسل في وصف ما يحدث في المخيم بالمأساة أو الكارثة الإنسانية؟ فهو في النهاية يعرف بحدسه البسيط أن تهجير السكان من بيوتهم، منتصف الليل، أو حتى في عزّ الظهيرة، يعدّ مأساة إنسانية. وهو يعرف أن منع طواقم الإسعاف من الوصول إلى الجرحى، يعدّ كارثة تلحق بالضحايا، ويندرج تحت المخالفات الجسيمة لحقوق الإنسان، وللقوانين والأعراف الدولية. ويعرف أن قتل الأطفال، أو ترويعهم من أساسيات تعريف الكارثة الإنسانية.

إنه يتردّد بالوصف لذات الأسباب التي تدفع المحلل السياسي للقول إن المعتدي لم يتعلّم من دروسه السابقة. وهذه الأسباب تتمحور حول فكرة صناعة البطل والبطولة، وإهمال أو تنحية ما يعلق في أطراف هذه الفكرة من شوائب إنسانية، فالشعب الفلسطيني، بطبعه، بطل في رأي المراسل والقناة والمستمع، وهو يستمدّ هذه البطولة أولاً من الأحقية التاريخية، وثانياً من الامتياز الديني، وثالثاً من قدرته على استقبال الموت بصدر رحب. ولأنه بطل فلا يحق له الصراخ ولا الاستنجاد ولا الألم، وإلا فعزيمة الأمة سيتم تثبيطها.

في المسرح اليوناني القديم، كان يتمّ تصوير البطل بنهاية تراجيدية دوماً، فلا يحق للبطل الإغريقي أن ينتصر، خوفاً من أن يقلّده المشاهد فيما بعد، بل عليه أن يحوز على التعاطف بأكبر قدر ممكن، بسبب النهاية المأساوية التي تقدّم لنا العبرة لا أكثر، وتقدم لنا الوقود الكافي لمديحه والكتابة عنه، أما لو انتصر فما الذي سنقوله كمشاهدين؟ لا شيء.

لكننا في المقابل، سنتعرّف على الأدوات والظروف التي قادت إلى هذا الانتصار، وربما سنستخدمها في مجريات حياتنا، وهذا هو غير المسموح تحديداً. هل يتعامل الإعلام العربي المساند لقضيتنا بهذا المبدأ؟ هل هو تطوّر طبيعي للمسرحية الإغريقية، لكن الممثلين بلا أجر ويموتون فعلاً، ويتم تصوير موتهم اليومي لاستنهاض عزيمة الأمة في المديح المجاني والشعر الركيك؟

في متابعة بسيطة لإعلام العدو الإسرائيلي، بإمكاننا، ودون جهد خارق، أن نلاحظ عدم تركيزه على أخبار الجيش وانتهاكاته الجسيمة بحق الفلسطينيين، ولا على أخبار المستوطنين وما يعيثونه من فساد ويقومون به من جرائم بحق البشر والشجر في بلادنا، بقدر تركيزه على الضحايا من طرفه، حتى لو كانوا ضحايا للخوف والهروب إلى الملاجئ. وهو يستطيع (واستطاع)، أن يقنع العالم بهذا الخطاب الإعلامي، ما جعل هذا العالم يقف موقف المتفرّج، على الأقل في الحرب الأخيرة على مخيم جنين.

إسرائيل، وتحديداً حكومة نتنياهو، تسحق الفلسطينيين يومياً، ليس لأهداف أمنية فقط، بل لأهداف سياسية تتمثّل بإنهاء أي تمثيل سياسي لهم وأي تواصل جغرافي يقرّبهم من تحقيق حقوقهم التاريخية، وأي أمل في وقوف العالم الحرّ معهم ومع قضيتهم

ومع تكرار هذا الإعلام لخطاب النصر، أو لخطاب الندية بين طرفين متساويين، ومع قدرته الكبيرة على تلقين المشاهد مفاهيم مغلوطة بلغة مخاتلة شعبوية، استطاع أن يعمّم فكرة البطل والبطولة وينحي المأساة الإنسانية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني على مدار قرن كامل. واستطاع بسبب ذلك أن يخلق جيلاً ينظر إلى السماء ولا ينتبه للأرض التي يتم قضمها يومياً من تحت أقدامه، واستطاع أن يقنع المشاهد أن الكتابة عن البطل الشهيد هي الغاية النهائية، والهدف الأسمى لتعريف النفس، أو على الأقل لحشرها في قائمة الأبطال.

إسرائيل، وتحديداً حكومة نتنياهو، تسحق الفلسطينيين يومياً، ليس لأهداف أمنية فقط، بل بالأساس لأهداف سياسية تتمثّل بإنهاء أي تمثيل سياسي لهم، وبإنهاء أي تواصل جغرافي يقرّبهم من تحقيق حقوقهم التاريخية، وبإنهاء أي أمل في وقوف العالم الحرّ معهم ومع قضيتهم، وهي ليست بحاجة، فوق كل ما تملكه من قدرة إعلامية، إلا لإعلام من فصيلة إعلامنا، يقوم بتصوير هذا التوحّش الإجرامي المنفلت، كحرب بين طرفين ندّين يتصارعان على البقاء وعلى الامتياز الديني أو العرقي.
ما حصل في مخيم جنين، وما يحصل يومياً في مدن الضفة واحدة تلو الأخرى، وما تشنّه إسرائيل من حروب سنوية على قطاع غزة، ليس أكثر من جرائم تقوم بها قوة محتلَّة بحق شعب يطالب بحقوقه، هذه هي تسميتها، وهكذا يجب أن يتم تعريفها. وهكذا كان الشعب الفلسطيني، بقادته ومناضليه ومثقفيه، يقدّمونها للعالم، وكان العالم يتعاطف أو يستمع أو ينصح.
أما مع سيطرة إعلام النفط والغاز، وتغلغله في كل مفاصل حياتنا، فقد تحوّلت المفاهيم وتم تغيير المصطلحات والتعريفات، لدرجة أن شنّ غارة من طائرة مقاتلة على مدنيين في مخيم، أو حتى على سيارة يستقلّها مقاومون بسلاح فردي، صار خبراً عادياً لا يتوقف عنده العالم. ولماذا يتوقّف ما دمنا نقول له إن قائد هذه الطائرة، ومن يقفون خلفه من جنود مدجّجين، وحكومة يمينية، ودولة قائمة على الاحتلال، لم يتعلّموا من دروسهم السابقة.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

جميعنا عانينا. عانينا كثيراً، ولا نزال نعاني، من انتشار الجماعات المتطرفة والأفكار المتطرفة، ولذلك نحرص في رصيف22 على التصدي لها وتفكيك خطاباتها، ولكن نحرص أيضاً، وبشدّة، على عدم الانجرار إلى "شرعنة" ممارسات الأنظمة التسلطية، لأن الاستبداد أحد أسباب ظاهرة التطرّف، ولا يمكن التصدي لها بمزيد من الاستبداد. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard