لمن نقيم المعارض الفنية في المملكة العربية السعودية؟ الجمهور المستهدف هو من أهم ما يجب أن نهتم به في أثناء عملية تنسيق المعارض الفنية، إن لم يكن الأهم. في هذه العملية تتداخل مؤسسات وشخصيات مختلفة، منها: الفنان/ة، القيّم الفني، صالة العرض، والجهة المنظمة، وغيرهم. لكلٍّ منهم أهدافه الخاصة، وتفاصيل دقيقة يعتني بها. في غياب اهتمامهم بالمتلقي السعودي، يهتم القائمون على المعارض الفنية الآن غالباً بحضور الكاميرا، وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، وما سوف يُكتَب عن المعرض في الصحف ليقرأه جمهور آخر خارج المملكة.
يلاحظ الزوار السعوديون غياب هذا الاهتمام، وغالباً ما يعبّرون عنه بملاحظات ساخرة، جوهرها شعورهم بأن هناك فجوةً كبيرةً بينهم وبين الفن، وبأنهم دخلاء على هذا العالم الذي لا يفهمونه ولا يشعرون بأنه يليق بهم. ما السبب؟ تجربتهم كزوّار.
حضور المتلقي في ذهن الفنان أثناء إنتاج العمل الفني قد يكون متأخراً، لكن حضوره في ذهن القيّم الفني عند اختيار العمل الفني وتنسيقه داخل المعرض، هو أمر مؤثر بالدرجة الأولى
تجربة الزائر تبدأ من الطريقة التي يعرف بها عن الحدث، وحتى خروجه من المعرض الفني، وهنا سنتحدث عن أكبر العوامل المؤثرة على تجربة الزوّار السعوديين، والتي تقوم بخلق هذه الفجوة.
العمل الفني... من يخاطب؟
حضور المتلقي في ذهن الفنان في أثناء إنتاج العمل الفني قد يكون متأخراً، لكن حضوره في ذهن القيّم الفني عند اختيار العمل الفني وتنسيقه داخل المعرض، هو أمر مؤثر بالدرجة الأولى. في أحاديث متفرقة بين مختلف الفنانين والقيّمين في المملكة، كنت أسمع عبارات مثل: "أرى أن الجمهور السعودي غير مثقف، ولن يفهم العمل الفني"، بينما ما أراه هو أن الفنان السعودي أصبح يضع نصب عينيه متلقياً آخر يخاطبه من خلال العمل الفني، ويضع هذا المتلقي في مكانة يرى أن المتلقي السعودي يجب أن "يرتقي" إليها، وأن الجهات التي تكلّف الفنانين بالأعمال الفنية أو تختارها للعرض تمتلك المعايير نفسها.
يكاد الاهتمام بالعمل الفني وبمن يخاطب، ينعدم في أثناء اختيار الأعمال. ففي معارضنا الفنية، يُبنى الاختيار على اسم الفنان، ومدى شهرته عالمياً، ولذلك نرى الأسماء نفسها في معارضنا الفنية الكبرى كل سنة، بلا تطوّر في مفاهيم الأعمال الفنية المعاصرة، أو وجود أي صلة بينها وبين ما نهتم به كجمهور سعودي.
كيف نتحدّث إلى الجمهور السعودي؟
اللغة هي الوسيط بين العمل الفني وبين المتلقي. يلاحظ الكثير من زوار المعارض الفنية في المملكة، اهتمام المؤسسات الفنية الكبرى بكتابة بيان المعرض الفني، والدعوات العامة، وجميع أشكال المحتوى الموجهة إلى الجمهور باللغة الإنكليزية، ومن ثم ترجمتها إلى العربية بصيغة ركيكة وغير مفهومة. في حالات أخرى، يشتكي كثر في الأوساط الفنية من صعوبة قراءة البيان الفني وفهم محتواه لما فيه من مصطلحات معقدة وتراكيب جمل غريبة. أما ما نراه أسوأ من ذلك، فهو أن يكون هناك انفصال تام بين ما نقرأه في البيان الفني وبين العمل الذي نشاهده، ويحصل هذا عند فصل المؤسسة بين من يكتب المحتوى، وبين رؤية الفنان وجوهر العمل الفني.
لسنا حديثي عهدٍ بالفن في بلادنا، لكننا نعترف بأن البنية التحتية لسوق الفن في المملكة لا زالت طور الإنشاء، وهذا ما يجعلنا نميل أحياناً إلى محاكاة الطريقة الأوروبية أو الغربية في متاحفنا ومعارضنا الفنية.
يعتقد بعض الفنانين أن العمل الفني "يتحدث عن نفسه"، وأن الجمهور السعودي مسؤول عن فهمه، ويتعمّد الغموض والضبابية في كتابة بيان العمل الفني، بينما لو كان العمل الفني دائماً متحدثاً لما احتجنا إلى وجود هذه النصوص في العملية الإبداعية. الأعمال الفنية تتباين في مفاهيمها بين متلقِّ وآخر، ولكن بناء العمل الفني لا بد أن يكون قوياً ومعتمداً على مفهوم ما أو شعور ما، وحين لا يصل هذا المفهوم إلى ذهن الزائر من خلال مشاهدة العمل، يأتي دور هذه النصوص. وإن كانت هذه النصوص مبهمةً، فما الجدوى منها؟ الخطاب المبهم لن يجعل المتلقي ينظر إلى عملك على أنه نخبويّ وعميق، بل يؤكد له هشاشة رؤيتك الفنية، أو انعدام اهتمامك بوصول المفهوم إليه.
هل تحدّثت بالفعل مع الزائر؟
عند دخول الزائر/ة إلى المواقع الخاصة بالمنشآت الخاصة بالفنون أو حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، يبدو أسلوب التواصل دائماً من جهة واحدة، ويكاد الرد على الاستفسارات يكون منعدماً، ويصعب على الفرد الوصول إلى المعلومات الخاصة بمواعيد الزيارة ومواعيد جولات الأعمال الفنية، مما يشعره/ا بأنه/ا ليس/ت معنياً/ةً بما يحصل في هذه المنشأة.
في أثناء تجربة الزائر/ة في المعرض الفني، تفاعلاته/ا مع المنسوبين خجولة جداً، وغالباً ما يكون الموظفون في هذه الجهات غير مهتمين بالفنون، وليسوا على اطلاع على ما يُعرض في مكان عملهم، وبعضهم لا يتحدثون بالعربية، مما يصعّب على الزائر/ة طرح أي سؤال عليهم حول الفنون، أو خوض أي حديث أو نقاش معهم.
لا يفهم المتلقون السعوديون الفرقَ بين المتحف، المعرض الفني، البينالي، المهرجان، الإقامة الفنية أو بازارات الفنون، ولا يبدو أن القائمين على هذه المعارض يهتمون بشرح ما يعملون عليهم؛ إنهم يقومون فقط بعملهم، وللمتلقين حق الزيارة والامتناع عنها.
الزوّار داخل المعرض... تائهون!
لسنا حديثي عهدٍ بالفن في بلادنا، لكننا نعترف بأن البنية التحتية لسوق الفن في المملكة لا زالت طور الإنشاء، وهذا ما يجعلنا نميل أحياناً إلى محاكاة الطريقة الأوروبية أو الغربية في متاحفنا ومعارضنا الفنية، لكننا ننسى أن من سيدخل إليها ليس سائحاً، بل عربيّ مثلنا، يودّ الدخول من اليمين، وأن يقرأ معلومات المعرض من دون أن تؤلمه رقبته أو يخفض ظهره، وأن يجد من يرحّب به بلغته، ويحكي له قصةً تثير اهتمامه، ومن يقدّم له القهوة. قد يبدو كلامي غريباً، لكن هذا ما اعتاده الفرد السعودي عندما يكون مقبلاً على تجربةٍ ما.
الفرد السعودي ابن عادات وتقاليد، وكل عاداته وتقاليده تتعلّق بالتواصل الإنساني، واحترام الآخر، فهو يودّ من يخاطبه مباشرةً، ويعنيه بالقول والفعل، لا أن يرى بضاعةً معروضةً في متجر وله حق شرائها أو الانصراف. إن لم يجد هذا التقدير، فلن يقدّر ما يراه ويختبره في هذا المكان منذ خطواته الأولى.
علاقة الجمهور السعودي بالفن المعاصر ما زالت متذبذبةً، في حين يقدّر الفرد صناعة الفنون في المملكة، إلا أنه يشعر بأنه لا يستطيع التفاعل مع الأعمال الفنية والتعبير عن رأيه فيها، وأنه لا يملك صلاحية الوصول إلى المعلومات حول الفنانين، الصناعة والأعمال الفنية التي يراها. برغم ذلك تراه متحمساً عندما يشعر بأنه يستطيع أن يكون جزءاً من العمل الفني أو العملية الإبداعية.
لماذا نهتم بالفجوة؟
مركزية السوق السعودي للأعمال الفنية يجب أن تدور حول "المقتني". كل زائر هو مقتنٍ محتمل. "ما فيه مقتنين"، هي من أسوأ العبارات التي سمعتها من فنانة سعودية محترفة. إن لم يشعر الجمهور السعودي بأنه معنيّ بالعمل الفني، وبأنه قد عُرض له، فلماذا يهتم باقتنائه؟ ولماذا يهتم بزيارة المعرض المقبل؟ وإن توقف الجمهور السعودي عن الاقتناء، وعن زيارة معارضنا الفنية، لماذا نقوم بها؟
على كل قيّم فني، وكل جهة منظمة للمعارض الفنية، أن يؤمنا بأن الجمهور السعودي ليس مغفلاً. الفرد السعودي مثقف، ومهتم بالفنون، ويقدّر الجمال، ويستحق أن ننظر إليه بعين الاعتبار
كما يهمني أن يعرف العالم عن الفن الذي تنتجه بلادي وعن فنانيها؛ يهمني أن يعرف الشارعُ السعودي الفنَّ السعوديَّ بحق، وأن يستطيع التفاعل معه، وأن يستطيع الفنان السعودي عرضَ أعماله التي يخاطب بها أهل بلده، وأن يصل إلى المقتني الذي يفهم عمله ويقدّره.
على كل قيّم فني، وكل جهة منظمة للمعارض الفنية، أن يؤمنا بأن الجمهور السعودي ليس مغفلاً. الفرد السعودي مثقف، ومهتم بالفنون، ويقدّر الجمال، ويستحق أن ننظر إليه بعين الاعتبار، وأن نخاطبه مباشرةً في معارضنا الفنية، بالمستوى نفسه الذي نخاطب به الجماهير الأخرى. وإن كنا نريد أن نبني أساساً قوياً للفنون البصرية في المملكة، فينبغي أن نخاطبه أولاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...