في الوقت الذي تمثل خلاله التغيرات المناخية والبيئية واحدة من أهم التحديات المعقدة التي تواجه العالم في القرن الحادي والعشرين، يعد السودان من أكثر الدول عرضة لتلك التغيرات، التي تظهر فيه اليوم على شكل سيول وفيضانات وموجات جفاف وارتفاع مستمر في درجات الحرارة، وتدني نسبة هطول الامطار واضطرابها، وتدهور جودة المياه والهواء وتقلص الغطاء النباتي، وانخفاض مستوى المياه الجوفية، بالإضافة إلى تزايد نسبة التصحر.
وتؤدي تلك التأثيرات إلى تبعات سياسية واقتصادية واجتماعية، منها الهجرة بحثاً عن مناطق أكثر خصوبة للمزارعين والرعاة، وزيادة التوترات بين المجتمعات المحلية، واشتعال النزاعات على الموارد الطبيعية التي باتت محدودة، وزحف السكان إلى المدن والمناطق الحضرية بحثاً عن مأوى وفرص عمل، مما يمثل ضغوطاً على البيئة الاقتصادية والاجتماعية.
يعد السودان من أكثر الدول عرضة للتغيرات المناخية، التي تظهر على شكل سيول وفيضانات وموجات جفاف وارتفاع درجات الحرارة.
وبالرغم من الجهود الحكومية التي بدأت قبل نهايات القرن الماضي، والتي ظهرت عبر مشروعات تهدف إلى التكيف مع آثار التغيرات المناخية المتزايدة، وتهدئة وتيرة تسارعها، فإنها غير كافية، إذ يحتاج السودان إلى تبني إستراتيجية متكاملة على المستوى الوطني والإقليمي، نحو تنمية مستدامة تعتمد على استغلال الموارد الطبيعية بطريقة متوازنة، تحافظ على البيئة وتحسن الأمن الغذائي وتخلق فرص عمل، ويتطلب ذلك جهوداً متناسقة بين الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص والشركاء الدوليين.
تنوع تأثيرات التغير المناخي
تتنوع تأثيرات التغيرات المناخية والبيئية في البلاد بشكل نوعي وجغرافي، وتنتشر في مختلف الولايات لتغطي كافة أراضي السودان الشاسعة تقريباً، وفي هذا الإطار تقول الدكتورة ليلى بشير، أستاذة علم المناخ في كلية الزراعة في جامعة الجزيرة: "النموذج السوداني في التغير المناخي فريد، لأنه يجمع تقريباً بين جميع عوامل التغير في إناء واحد، وهو ما يزيد ضريبة التأثير على البيئة، ويضاعف من حجم التأثيرات على المجتمع، مهدداً أبجديات الحياة".
وتشير إلى أن السودان يجمع العوامل المتناقضة في ملف التغير المناخي، فبرغم الفيضانات والسيول التي تضرب ولايات نهر النيل وجنوب دارفور وكسلا بصورة كارثية وتهدد حياة المواطنين وتدمر المشروعات الزراعية والبني التحتية والمنازل، فإن ولايات أخرى مثل القضارف وشمال دارفور والنيل الأزرق تعاني من ارتفاع نسبة الجفاف وندرة الأمطار وانخفاض مخزون المياه الجوفية، ما يؤثر على المشروعات الزراعية والرعوية التي تعتمد علي الري المطري والجوفي، بالإضافة إلى تزايد معدلات زحف الرمال نتيجة هبات الرياح القوية والعواصف وتمادي التصحر في ولايات الشمال.
تأثيرات على القطاع الزراعي
يعاني السودان من تآكل غطائه النباتي منذ سنوات عديدة، وهو ما عرض مفهوم الأمن الغذائي للبلاد للخطر، رغم طموحات الماضي القريب بأن يصبح السودان سلة غلال الأرض، وتفيد دراسات بأن نسبة تقلص الغطاء النباتي وصلت إلى 25% تقريباً خلال خمسة عشر عاماً فقط.
يقول شاكر الربيعي الباحث في قسم بحوث الأرصاد الجوية في جامعة أم درمان الإسلامية، لرصيف22: "أعاق زحف الرمال نتيجة العواصف الترابية وتزايد نسبة حركة الرياح، بعض مجاري الري المائية، وزاد من نسبة الجفاف والتصحر، ما أثر بشكل مباشر على حجم الغابات والمشروعات الزراعية، وجودة وكمية المحاصيل في مواسم الحصاد".
الحكومات المتعاقبة لم تعطِ ملف التغير المناخي الاهتمام الذي يليق به، ما أدى إلى تطور المؤثرات المناخية على البيئة السودانية، وزيادة تأثيرها على المجتمع، وهو ما نتج عنه زيادة نسبة الفقر، وانخفاض معدلات الأمن الغذائي، وتزايد الصراعات القبلية على الموارد الطبيعية
ويضيف: "سجلت درجات الحرارة ارتفاعاً بمقدار 5 درجات مئوية خلال العام الحالي والماضي مقارنة بعام 2010، وهذه الزيادة كارثية لأنها حدثت خلال عشر سنوات تقريباً، ما يعني أنه إذا استمر هذا المعدل فسوف يصبح السودان في كارثة بيئية خلال عشرين عاماً على الأكثر، خاصة أن ارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى زيادة نسبة الجفاف، ومزيد من تصحر المساحات الخضراء، وتآكل الغابات والمشروعات الزراعية".
وعن آثار اضطراب هطول الأمطار في السودان يقول الربيعي: "تشهد ولايات عدة تذبذباً واضحاً في نسبة هطول الأمطار خلال السنوات الأخيرة، مع تأخر موسم المطر بشكل عام، ما يؤثر بشكل مباشر على الدورة الزراعية، فيضطر المزارعون لتأخير موسم الحصاد بسبب اضطراب الأمطار وعدم كفايتها"، مضيفاً: "تزامن انخفاض كمية الأمطار مع ارتفاع درجة الحرارة وتزايد نسبة جفاف التربة، سوف يدفع حتماً نحو هلاك كميات شاسعة من الأراضي الزراعية التي تعتمد على الري المطري، ليتعاظم معها مفهوم الحاجة للأمن الغذائي الذي بات ضمن أكبر معوقات مستقبل الحياة".
الحيوانات ضحايا التغير المناخي
رصدت تقارير عدة حجم الأوبئة التي انتشرت في عدد من ولايات السودان نتيجة السيول والفيضانات وارتفاع درجات الحرارة، وفي هذا الإطار يشير الدكتور السعدي كارم أستاذ الدراسات البيئية في جامعة كردفان إلى أن "ارتفاع درجة الحرارة سمح بانتشار عدة أمراض كالملاريا في ولايات لم تكن منتشرة فيها من قبل، كما أظهرت المتغيرات المناخية والبيئية أمراضاً جلدية جديدة في الولايات الأكثر حرارة، وبسبب الفيضانات والسيول انتشرت أمراض كالبلهارسيا والكوليرا في مساحات شاسعة، واختلطت مياه السيول بالمواد السامة التي تستخدم في عمليات التنقيب عن الذهب، ما مثل كارثة صحية بيئية على حياة كل المخلوقات بما فيها الإنسان".
ارتفاع درجة الحرارة وتقلب هطول الأمطار في السودان سوف يؤدي إلى أن تصبح معظم المناطق غير صالحة للزراعة والرعي وحتى الحياة.
ويضيف في حديثه لرصيف22: "تأثرت الحيوانات في مناطق الرعي هي الأخرى بارتفاع درجات الحرارة وتلوث المياه، فانخفض إنتاجها من الأصواف والألبان واللحوم، وتعرضت لأمراض جديدة، كما أن تغير درجة حرارة الأنهار والبحر الأحمر وارتفاع نسبة تلوث المياه أثرت بشكل مباشر على التنوع البيولوجي لمكونات الأنهار والبحر في الولايات الساحلية، وهو ما تم رصده بغياب تنوع الأسماك والمأكولات البحرية، وانتشار طحالب وسرطانات مائية التي لم تكن موجودة من قبل".
مستقبل التغيرات المناخية في السودان
لا يستطيع أن ينكر السودانيون تخوفهم من آثار التغيرات المناخية على حياتهم ومستقبل بلادهم، رغم تاريخهم الحافل بتحمل موجات قاسية من الجفاف وندرة الأمطار، فيما تتزايد حالة الذعر بين المزارعين والرعاة بسبب تسارع وتيرة التغيرات المناخية، التي أثرت بشكل مباشر على مشروعاتهم وسبل عيشهم.
وفي تقرير سابق نشره موقع سي إن إن، يتبين بأن ارتفاع درجة الحرارة وتقلب هطول الأمطار في السودان سوف يؤدي إلى أن تصبح معظم المناطق غير صالحة للزراعة والرعي وحتى الحياة. ووفقاً للتقرير، من المتوقع أن تزداد درجة الحرارة في السودان بشكل كبير بحلول عام 2060، لترتفع عن معدلها الحالي ما بين 1 إلى 3 درجات مئوية.
ويشير التقرير إلى أن أعداد المواطنين المتضررين من التوفر المحدود للمياه والمراعي الفقيرة وتآكل نسبة المساحات المنزرعة سوف يتزايد بشكل مضطرب خلال الفترات المقبلة، فيما سترتفع أعداد النازحين بسبب الفيضانات والسيول. ويطالب بعض المختصين بتخزين المحاصيل الزراعية، كأحد الحلول لضمان الحصول على دخل جيد، خاصة أن التقلبات المناخية لن تسمح بانتظام كمية المحاصيل الزراعية في مواسم الحصاد.
ومنذ نهايات القرن الماضي بدأت الحكومة السودانية عبر المجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية بالعمل على عدة مشروعات للحد من آثار التغيرات المناخية والبيئية، وحصل المجلس على الدعم المادي من جهات إقليمية وأممية لتنفيذ تلك المشروعات، على رأسها الأمم المتحدة وبنك التنمية الإفريقي والمرفق العالمي للبيئة، واستطاع خلال 17 عاماً أن ينفذ 34 مشروعاً في مختلف الولايات السودانية، أهمها مشروع التخلص من استخدام المواد الضارة بطبقة الأوزون، ومشروع الخطة الوطنية للتكيف مع التغيرات المناخية الذي تعرض لعدة تحديثات منذ انطلاقه، ومشروع استراتيجية خفض الكربون، ومشروع التكيف للمجتمعات المحلية الاكثر هشاشة.
كما بدأ السودان منذ عامين تقريباً العمل على مشروع مواجهة التغيرات المناخية في القطاعين الزراعي والرعوي، بتمويل من صندوق المناخ الأخضر، وهو يغطي تسع ولايات ويستهدف تأمين إنتاج الغذاء في المجتمعات التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي، بالإضافة إلى مشروع إعادة إحياء حزام الصمغ العربي الذي يموله الصندوق، ويستهدف تعزيز خصوبة التربة، ومنع تسرب المياه والتصدي لحركة الرياح النشطة التي تؤثر على المشروعات الزراعية.
ويقول المحلل السياسي السوداني منعم سليمان لرصيف22 إن المشروعات التي ينتهجها السودان للتعامل مع التغيرات المناخية والبيئية غير كافية، لذا فإن نتائجها تأتي محدودة ولا يشعر بها المواطن، إذ تعتمد على جوانب من خطط التكيف دون خطط الحد من الآثار، بالإضافة إلى عدم وجود إستراتيجية واضحة تضمن استمراريتها، خاصة أن قضية تغير المناخ قضية مزمنة.
ويعزو ذلك إلى غياب الإرادة السياسية والخبرات اللازمة للتعامل مع هذا الملف الهام، مشيراً إلى أن عدداً من مشروعات خطة التكيف القائمة متوقفة بسبب عدم توفير السيولة المادية اللازمة لها، رغم كون تلك السيولة جزءاً من ميزانية أوسع دعمتها جهات مانحة إقليمية ودولية.
النموذج السوداني في التغير المناخي فريد، لأنه يجمع تقريباً بين جميع عوامل التغير في إناء واحد، مثل الفيضانات والسيول في بعض المناطق، والجفاف وندرة الأمطار في مناطق أخرى، وهو ما يزيد ضريبة التأثير على البيئة، ويضاعف من حجم التأثيرات على المجتمع، مهدداً أبجديات الحياة
ويشير سليمان إلى أن الحكومات المتعاقبة لم تعطِ ملف التغير المناخي الاهتمام الذي يليق به، ما أدى إلى تطور المؤثرات المناخية على البيئة السودانية، وزيادة تأثيرها على المجتمع، وهو ما نتج عنه زيادة نسبة الفقر، وانخفاض معدلات الأمن الغذائي، وتزايد الصراعات القبلية على الموارد الطبيعية بسبب دخولها مراحل الندرة، مطالباً بسياسات منهجية واضحة للتعامل مع التطور المريب لهذه الظواهر المناخية القاسية.
وترى ليلى بشير بأن المشكلة معقدة في السودان على وجه التحديد، لأنه يصعب العمل على المتغيرات المتنوعة في وقت واحد، بسبب كونها تتطلب تحركاً متوازياً ومتسعاً ودائماً لمجابهتها، وهذا التحرك تلزمه إدارة مستقرة تمتلك تمويلاً كافياً ودعماً دولياً وشراكة علمية في إطار استراتيجية واضحة ومجدولة للتعامل مع التأثيرات المتفاوتة، ولا يمكن الوصول لتلك الاستراتيجية في ظل تردي الأوضاع الإدارية والسياسية والأمنية والاقتصادية في البلاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه