ارتبط القطاع الزراعي قديماً بمواسم هطول الأمطار، ولكن مع بدء دراسة منابع الأنهار ومجاريها تم الاعتماد على تخزين المياه في خزانات للاستفادة منها، فتوسعت الرقعة الزراعية بعد توزيع المياه المخزنة على مناطق متفرقة عبر شقّ الترع، وأصبحت الأراضي خضراء على مدار العام، وقد قدَّر الله للسودان أن يحظى بالموارد الطبيعية كافة التي تؤهله ليصبح سلّة غلال الأرض، الأمر الذي دفع بمؤتمر الغذاء العالمي المنعقد في روما عام 1996، إلى أن يدعو لدعم عمليات الإنتاج الزراعي فيه، وانعقدت الآمال عليه ضمن عملية أمن الغذاء العالمي.
يحتوي السودان على قرابة 172 مليون فدان صالح للزراعة، تمثّل نحو 43% من الأراضي العربية المؤهلة للزراعة، و52 مليون فدان من الغابات، بالإضافة إلى عدد وفير من الموارد المائية المتعددة، بين الأنهار والمياه الجوفية والأمطار، ما جعله الأكثر وفرةً في الأراضي والمياه بين بلدان المنطقة العربية والقارة الإفريقية، وقد لفتت تلك الموارد الطبيعية الكبيرة أنظار الاستعمار البريطاني، فسارع إلى احتلاله واستثمار خيراته لتلبية احتياجات إمبراطوريته المتزايدة.
خريطة الأراضي الزراعية
يضخّ القطاع الزراعي في السودان قرابة ثلث الناتج المحلي الإجمالي، بما يمثل 60% من إجمالي الصادرات، ويعمل فيه أكثر من نصف الأيدي العاملة في البلاد، وتتميز الأراضي السودانية بتنوع كبير بأنواع التربة، حيث تحتوي على أراضٍ صحراوية وساحلية وطينية وجبلية، وتختلف نوعية الأرض في اختيار طريقة الري التي تكافئها، بالإضافة إلى نوع المحاصيل المناسبة لها، وفي هذا الإطار يقول الخبير الزراعي الدكتور فارس الديب، عضو الهيئة القومية للغابات، في تصريح لرصيف22، إن "الأراضي الصحراوية تنقسم إلى قسمين، قسم محازٍ لنهر النيل وروافده، ويعتمد على نظام الزراعة المروية، بينما تعتمد الأراضي البعيدة عن مجريات الأنهار على نظام الزراعة المطرية، ويتم اختيار أنواع من المحاصيل المقاومة للجفاف للزراعة في هذه الأراضي كالدخن والهشاب والطلح"، ويستطرد: "بينما تمثل الأراضي الطينية أهم مقومات الإنتاج الزراعي في السودان، نظراً إلى مساحتها الضخمة، وخصوبة تربتها التي تؤهلها لزراعة مختلف المحاصيل، وإمكانية الاعتماد على استغلالها بالزراعة المطرية أو المروية، أما الأراضي الساحلية التي تنتشر بمحاذاة الشريط الساحلي للبحر الأحمر، والأراضي الجبلية التي تتخللها سهول طينية، فيتم الاعتماد فيها على الزراعة المطرية التقليدية، وغالباً تتم زراعتها ببعض أنواع الفاكهة التي تتناسب مع المناخ الشتوي البارد".
ويضيف الديب، أن التربة الزراعية في السودان تتنوع من حيث تماسكها بين خشنة، ومتوسطة، وناعمة، مشيراً إلى أن هذا يعود إلى نوع طبقات الأرض في كل قطاع، وترتبط بنسبة الرواسب المائية التي تحتفظ بها التربة، والتي تختلف بين التربة الطينية والجيرية والحجرية والرملية، كما يُعدّ هذا التنوع من نتائج تنوع آليات الري في البلاد.
ربع أراضي السودان الصالحة للزراعة تم بيعها أو تأجيرها لمستثمرين أجانب، بنسبة 10% من الأراضي المستولى عليها على نطاق العالم
المشروعات الزراعية في السودان
تميُّز الأراضي الصالحة للزراعة في السودان اقترن بتنوع الثروة المائية فيه، والتي تقدر بـ433.5 مليارات متر مكعب من المياه، معظمها من الأمطار، بينما تمثل مياه نهر النيل وروافده والمياه الجوفية باقي المصادر، وهو ما سمح بتدشين مشروعات زراعية كبرى في البلاد عبر التاريخ، لاستغلال هذه الموارد التي لم تتوافر لبلد غيره.
في وسط السودان، بين النيلين الأزرق والأبيض، وعلى مساحة 2.2 مليون فدان، يقع أكبر مشروع زراعي في القارة السمراء، مشروع الجزيرة، الذي أطلقته الحكومة البريطانية عام 1925، على مساحة مليون فدان بعد افتتاح خزان "سنار"، قبل أن يتم ضم أكثر من مليون فدان إضافي إلى المشروع عام 1958، بعد تشييد سد الرصيرص، وقد اعتمد المشروع على زراعة القطن لفترات طويلة، قبل أن تتصدر محاصيل الذرة والقمح والفول السوداني المساحة الأكبر في المشروع بعد قرارات الدورة الزراعية للحكومة السودانية خلال ستينيات القرن الماضي. وعلى مساحة 570 ألف فدان في منطقة دلتا "القاش"، يقع واحد من أكبر المشروعات التي تعتمد على مياه نهر "القاش" الذي يفيض من مرتفعات إريتريا إلى سهول كسلا في السودان، حيث بدأت زراعة "مشروع دلتا القاش الزراعي" في أثناء حكم الأسرة العلوية للسودان، وتنوعت المحصولات الزراعية فيه تاريخياً بين القطن والذرة والخضروات.
خلال موسم الخريف يفيض "خور بركة" من منابعه في إريتريا، محمَّلاً بنسبة كبيرة من الطمي ومحاذياً ساحل البحر الأحمر في الأراضي السودانية، مما شجع حكمدار السودان خلال فترة الحكم التركي للسودان على البدء بتدشين مشروع دلتا "طوكر" الزراعي على مساحة تتجاوز 400 ألف فدان، لتتم زراعة المنطقة بالقطن، فالإنتاج بلا مشقّة أو تعب، في ظل أن طبيعة التربة التي تتشبع بمياه الفيضان تسمح بالاحتفاظ بنسب رطوبة عالية، تكفي لإنبات المحاصيل من دون الحاجة إلى تكرار الري، وتقدّر كمية المياه الواردة إلى الدلتا بمليار متر مكعب سنوياً. وبعد اتفاقية تقاسم مياه نهر النيل عام 1959، بدأت مصر بإنشاء السد العالي، فتكونت بحيرة النوبة التي امتدت داخل الحدود السودانية وغمرت منطقة حلفا، لتؤدي إلى نزوح جماعي للمواطنين، مما دفع الحكومة السودانية إلى تشييد خزان "خشم القربة" على نهر "عطبرة" لاستغلال جزء من حصتها في مياه النيل لاستثمار أراضي "حلفا" في الزراعة، فأنشأت "مشروع حلفا الجديدة الزراعي" على مساحة تُقدَّر بـ350 ألف فدان، لتتم زراعتها بالقمح والذرة والقطن والفول السوداني.
وفي ولاية "سنار" الواقعة بين ضفاف نهري النيل الأزرق والدندر، تأسس "مشروع السوكي الزراعي" مطلع سبعينيات القرن الماضي، على مساحة 90 ألف فدان، تمت إضافة 115 ألف فدان إليها، بهدف العمل على استقرار القبائل العربية التي كانت تسكن المنطقة وتشجيعهم على إنتاج محاصيل زراعية تساهم في دعم الدخل القومي للبلاد. وفي ولايتي "الجزيرة" و"القضارف" على الضفة الشرقية لنهر "الرهد" الموسمي الذي ينبع من الهضبة الإثيوبية، تنتشر التربة الطينية ذات الخصوبة العالية على مساحة تتجاوز 350 ألف فدان، حيث تم افتتاح مشروع "الرهد الزراعي" عام 1977، كواحد من أحدث المشروعات الزراعية في السودان، لتتم زراعة القطن والذرة والفول السوداني وبنجر السكر وزهرة الشمس بالإضافة إلى الخضروات والفاكهة، ويعتمد المشروع على الري من خزان الرصيرص عبر قناة الرهد في أثناء الفيضان، فيما تتم مواصلة الري عن طريق مضخات سحب المياه من نهر النيل الأزرق بعد انتهاء الفيضان.
مشروعات على الورق فقط!
تلك المعطيات والموارد الفريدة للمشروعات الزراعية العملاقة لم تسِر بالسودان إلى النتائج الإيجابية المتوقعة، في ظل العديد من المشكلات والعراقيل، التي أدت إلى أن يحتل السودان صدارة التصنيف الدولي للدول التي لا تستغل مواردها الطبيعية، وذلك طبقاً لدراسة صادرة عن مؤسسة "غولدمان ساكس" الأمريكية، التي أشارت إلى أن السودان يمتلك قرابة الـ80 مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة وغير المستغلة، وهي ما تعادل تقريباً نصف إجمالي مساحة البلاد الصالحة للزراعة.
في هذا الإطار، يقول الباحث في علوم الاقتصاد الزراعي عثمان البخت، لرصيف22، إن "المشروعات الزراعية الضخمة للسودان المتمثلة في مشاريع الجزيرة ودلتا القاش وطوكر والرهد وحلفا الجديدة والسوكي وغيرها هي مشروعات على الورق فقط، إذ لم تحسن إدارة البلاد استغلالها، فالمساحات المزروعة في كل مشروع لا تتجاوز في أحسن الأحوال نصف الأراضي المخصصة له، في الوقت الذي تفرغت الحكومات للدخول في نزاعات مع المزارعين حول ملكية الأراضي من دون توفير الحد الأدنى من الاعتمادات المالية الضرورية لصيانة وتطوير الآلات والمعدات اللازمة للقطاع"، ويضيف البخت في تصريحاته: "تدهور القطاع الزراعي منذ الاهتمام بالنفط في البلاد، وتراجعت معدلات نمو الاقتصاد الزراعي بصورة ملحوظة منذ بدايات القرن الحالي، وبالتبعية ازدادت الأعباء على المواطنين، الذين باتوا في ضرر ملحوظ جراء تدهور أمنهم الغذائي".
استثمار أم استنزاف؟
في ظل الأزمات التنموية الصعبة التي تعرّض لها السودان خلال فترة البشير، بسبب العزلة والعقوبات الدولية، فتح السودان أبوابه للاستثمار في مجال القطاع الزراعي آملاً في تحسين أوضاعه، ولم تتردد الحكومات المتعاقبة منذ ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018، في انتهاج السياسات نفسها، وفي الوقت الذي لا توجد فيه إحصاءات رسمية عن حجم الاستثمارات الأجنبية في القطاع الزراعي في السودان، أفادت تقارير بأن السعودية استحوذت بمفردها على 50% من إجمالي الاستثمارات في القطاع خلال فترة حكم البشير، وتنامت تلك الاستثمارات بشكل ملحوظ في 2016، بعدما أقرّ البرلمان السوداني قانوناً أتاح تملّك المملكة لمليون فدان في أعالي نهرَي "عطبرة" و"ستيت" لمدة 99 عاماً، بخلاف 80 ألف فدان تم استثمارها قبل 2013.
لكن الأمور لم تبقَ على حالها، ففي ظل شدة التنافس الخليجي بين السعودية والإمارات على مناطق النفوذ، وبعد أن كانت الاستثمارات الإماراتية في القطاع الزراعي في السودان ممثلةً فقط في مشروع "أمطار" في الولاية الشمالية، على مساحة 130 ألف فدان، استطاعت الإمارات مؤخراً أن تقتنص مشروعاً زراعياً عملاقاً على مساحة 2.4 ملايين فدان، ويقع المشروع في منطقة وادي الهواد الخصبة، ويعتمد على مياه نهر النيل في عملية الري، لتحتل الإمارات بموجب استحواذها على المشروع صدارة الاستثمارات الدولية في السودان بنسبة تتجاوز 60%.
وفي ظل غياب البيانات الرسمية الموثوقة، يقول الصحافي السوداني زهير السراج، إن تقريراً لمنظمة GRAIN، أفاد بأن نظام البشير، خلال عام 2016، أعطى للإدارة التركية مليوناً و800 ألف فدان، فيما سمح لمصر بالاستحواذ على قرابة 500 ألف فدان لصالح اتحاد الفلاحين المصريين والشركات الخاصة والشركة المصرية السودانية للتكامل، بالإضافة إلى ربع مليون فدان لشركة حصاد القطرية، و200 ألف فدان لشركة لبنانية، واستحوذت الشركات البرازيلية على مساحات ضئيلة. وكشف السراج، عن اتفاقات لم يستكمل عقدها نظام البشير، مع الصين، لاستئجار 700 ألف فدان لمدة 99 عاماً، مقابل الديون الصينية التي عجزت السودان عن سدادها، وطبقاً للصحافي السوداني فإن السودان لم يستفد من هذا الكم الضخم من الاستثمارات، بل على العكس مثّل استنزافاً لموارده الطبيعية، وأضاف أن دارسةً علميةً في العام 2012، من جامعة فرجينيا الأمريكية، رصدت أن نحو ربع أراضي السودان الصالحة للزراعة تم بيعها أو تأجيرها لمستثمرين أجانب، بنسبة 10% من الأراضي المستولى عليها على نطاق العالم، حيث يقع السودان في المرتبة الرابعة بعد جمهورية الكونغو وأندونيسيا والفلبين من حيث الدول التي تم الاستيلاء على أراضيها.
هل يستفيق السودان ويستغل موارده التي حباه الله بها، ليساهم في حل أزمة الغذاء العالمي المتزايدة، أم ينتظر من يساعده لتأمين غذاء شعبه المهدد بالجوع؟
شبح الجوع
بين شبهات الفساد والسياسات الفاشلة والصراعات على السلطة، تحول حلم تأمين غذاء العالم إلى كابوس مأساوي لبلد أصبح شبح الجوع يطارده، حيث أدى الإهدار الضخم للإمكانات الزراعية الهائلة في السودان إلى ارتفاع نسبة من يعيشون تحت خط الفقر إلى 46.5%، فيما ارتفعت نسبة الفقراء إلى قرابة 53%، وكشف تقرير صادر من الأمم المتحدة أن أكثر من ثلث السكان في السودان سيحتاجون إلى مساعدات إنسانية في عام 2023، بسبب ازدياد الجوع، فيما ازداد عدد الأشخاص الذين يفتقرون إلى الأمن الغذائي بشكل حاد للعام الثالث على التوالي.
يقول المحلل السياسي السوداني منعم سليمان، في تصريحات لرصيف22، إن الشعب السوداني يدفع ثمن سياسات التخبط والنظر إلى أسفل الأقدام، التي انتهجتها حكومات السودان المتعاقبة في التاريخ الحديث، والتي أثبتت فشلها تماماً، مما أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية، مشيراً إلى أن سياسات الاحتلال التركي والفرنسي والبريطاني للسودان سعت إلى تطوير الإمكانات الزراعية الهائلة في السودان عبر إقامة السدود وشق الترع وتهيئة مناخ الإنتاج، على العكس من سياسات الحكومات الوطنية التي لم تدّخر جهداً للتفريط في كل الفرص التنموية الحقيقية للقطاع الزراعي في البلاد، ليفقد كل فرصه التي كانت تؤهله ليكون سلة غذاء العالم العربي، بعدما أصبح عاجزاً عن أن يكون سلة غذاء السودان الجائع. وأضاف سليمان، أن جميع الإحصاءات الأممية والحكومية التي تتعلق بحقيقة الفقر والجوع في السودان لا تعبّر عن حجم الواقع المرير التي تعيشه البلاد، مؤكداً أن المهددين بالجوع في ظل أزمة نقص الغذاء الحادة تتجاوز نسبتهم 80% من إجمالي الشعب السوداني، خاصةً في ظل دخول البلاد في حالة الاقتتال الداخلي التي لا يعلم أحد موعد توقفها.
ويبقى السؤال: هل يستفيق السودان ويستغل موارده التي حباه الله بها، ليساهم في حل أزمة الغذاء العالمي المتزايدة، أم ينتظر من يساعده لتأمين غذاء شعبه المهدد بالجوع؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...