تحت أشعة الشمس المشرقة، وبين جدران جيريةٍ بيضاء مطلية بالكلس، ينشرح القلب ويسرح الخيال. تأخذني قدماي بين حجارة البازلت السوداء، وكأني أطأُ شوارع دمشق القديمة، لكن هذه المرة في شارع "لالة زهرة" في ضيعة بيخير دي لا فرونتيرا. هنا توجد لؤلؤة الأندلس الساحرة، في قلب محافظة قادس الأندلسية في جنوب إسبانيا، حيث يعبق التاريخ وتعانق الحكايات وجهَ السماء.
هذه الضيعة الأندلسية القابعة على ارتفاع 200 متر عن سطح البحر، تُرى من بعيد وكأنها تطفو فوق غيمة، تحيي الشمس بحلَّتها البيضاء وتضفي سحراً على أسوار قلاعها المهيبة الشاهدة على الكثير من الحروب والحضارات المتعاقبة، بينما تعانق أقدامها أخاديد المحيط الأطلنطي. على هذه الأرض تعانقت الأرواح في قصة حب عابرة للقارات بين الأمير المغربي سيدي على بن راشد والأندلسية الإسبانية كاتالينا فيرنانديز، بنت الضيعة. منذ ذلك الحين تتردد قصتهما على ألسنة الناس، المغاربة والعرب والإسبان على حد سواء.
تُرى من بعيد وكأنها تطفو فوق غيمة، تحيي الشمس بحلَّتها البيضاء وتضفي سحراً على أسوار قلاعها المهيبة الشاهدة على الكثير من الحروب والحضارات المتعاقبة
في الفترة الذهبية لعهد المسلمين (711-1492 م)، التي امتدت لأكثر من ثمانية قرون، اعتاد الأمير سيدي علي بن راشد، زيارةَ أراضي الأندلس الجميلة بانتظام. وفي إحدى هذه الزيارات اشتعل قلبه بحبٍّ جارف لفتاة الضيعة، كاتالينا، التي اعتنقت الإسلام لاحقاً، وتقلّدت اسم "لالة زهرة"، وقد أُطلق اسمها هذا لاحقاً على أحد شوارع الضيعة الإسبانية، تخليداً لذكراها وذكرى حبيبها. وذلك لما تحمل قصتهما بين طياتها من عشق وعطاء وتسامح، وتجسّد تلاقي الثقافات والأديان في رحاب الحب الحقيقي. فعلى الرغم من الاختلافات الثقافية والمسافات الجغرافية التي تفصل بينهما، إلا أن حبهما كان قوياً إلى درجة أنهما قررا الزواج ليقيما بذلك رابطةً بين وطنيهما عام 1487.
By: Juan Francisco santos Relinque
وكما قال الشاعر الأندلسي لسان الدين بن خطيب:
"جادَكَ الغيْثُ إذا الغيْثُ هَمى
يا زَمانَ الوصْلِ بالأندَلُسِ
لمْ يكُنْ وصْلُكَ إلاّ حُلُماً
في الكَرَى أو خِلسَةَ المُخْتَلِسِ
إذْ يقودُ الدّهْرُ أشْتاتَ المُنَى
تنْقُلُ الخَطْوَ علَى ما يُرْسَمُ".
بعد أن انتهت الفترة الذهبية للمسلمين وسقطت الأندلس بيد ملوك الكاثوليك الإسبان، شهدت شبه الجزيرة الإيبيرية نهايةً للتعايش السلمي بين الأديان، وذلك في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. وُضع المسلمون واليهود عند مفترق طرق؛ إما أن يعتنقوا المسيحية أو يغادروا وطنهم. هذا القرار القاسي أَلحق بلالة زهرة وعائلتها الضرر، مما دفعهم للّجوء إلى شمال المغرب العربي بحثاً عن الأمان.
يُروى أن الأسر الفقيرة التي كانت تعيش في الضيعة، والتي تضم العديد من الأطفال، اضطرت إلى البقاء هناك بسبب ضعف إمكاناتها الماديّة للرحيل أو لضيق السبل. أما من تمكّنوا من تأمين سبل المغادرة، فرحلوا عن أرضهم على أمل العودة في المستقبل، ولكن في معظم الحالات، لم يتحقق هذا الأمل. هكذا، عاشت الأندلس وضيعة بيخير دي لا فرونتيرا، فترةً من التحوّلات المؤلمة والهِجرة القسرية، تاركتَين خلفهما ذكريات عزيزةً وآمالاً لم تتحقق للعديد من الأسر والأفراد.
ضيعة بيخير دي لا فرونتيرا – تصوير: بسمة دالي
وجدت لالة زهرة نفسها في أحضان وطنٍ جديد، حيث استقرَّت وزوجها الأمير مولاي سيدي علي بن راشد في مدينة شفشاون، أو كما يسميها أهلها شاون، الجوهرة الزرقاء في شمال المغرب العربي، بين قرنين جبليين على سفح جبل الريف في منطقة طنجة تطوان. هذه المدينة التي تتألق بتاريخها العريق، أصبحت ملاذاً لأكثر من 10،000 موريسكي أندلسي ومسلم ويهودي بعد سقوط الأندلس.
بعد استقرار الزوجين في هذه المنطقة الجبلية، تسلّم سيدي علي بن راشد حكم شفشاون، فتعززت قوّته ونفوذه بين سكان المدينة. وبرغم الرخاء والسلطة التي يتمتع بها، لم يتلاشَ حنين لالة زهرة وحزنها على ذكرياتها وحياتها السابقة في ضيعتها البيضاء بيخير دي لا فرونتيرا. فما هان على سيدي علي بن راشد حزنها، واحتار كي يرى إشراقة عينيها.
يقول الشاعر ابن عبد ربه الأندلسي:
"الجسمُ في بَلَدٍ وَالرُّوحُ في بَلَدِ
يَا وحشَة الرُّوحِ بَلْ يَا غُربَةَ الجَسَدِ
إِنْ تَبْكِ عَيْنَاكَ لي يَا مَنْ كلِفْتُ بِهِ
مِنْ رَحمَةٍ فَهُما سَهْمانِ في كَبِدي".
شفشاون (الجوهرة الزرقاء). تصوير: محمد أبوشكر
يروي المؤرخون البرتغاليون أن الأمير حوَّل شفشاون إلى مكان ساحر يشبه سحر بيخير دي لا فرونتيرا، كُرمى لعيون محبوبته وليخفف من حنينها. فقد طُليت جدران المنازل والمباني باللون الأزرق السماوي والأبيض حتى يخيّل إليك أن السماء تعكس ألوانها وتدرجات زرقتها على أسطحها وجدرانها. كما أضفى على الأزقة والحارات طابعاً قديماً يشبه الضيعة الأندلسية.
وزُيِّنت جدران المدينة بتحف نباتية وزهور، بحيث يشعر المرء بالطابع الأرابيسكي بينما يتجول في هذه المدينة الجبلية المزرقّة ذات الأزقّة الضيقة. كما تم بناء المساجد والتحصينات العسكرية والأسوار العشرة.
على هذه الأرض تعانقت الأرواح في قصة حب عابرة للقارات بين الأمير المغربي سيدي على بن راشد والأندلسية الإسبانية كاتالينا فيرنانديز، بنت الضيعة. منذ ذلك الحين تتردد قصتهما على ألسنة الناس، المغاربة والعرب والإسبان على حد سواء
وحافظوا على السمات الأمازيغية للمنطقة، حتى أصبح الشكل العمراني متشابهاً بين المدينتين بشكل لا يمكن إنكاره، وذلك لتمازج الثقافات الأندلسية والعربية والأمازيغية بطريقة متناغمة تظهر روعة جمالهما. كما أسفر هذا الزواج عن ولدين هما إبراهيم بن راشد والسيدة الحرة، لعبا دوراً سياسياً مهمّاً. أصبح إبراهيم حاكماً لشفشاون وأميراً ووزيراً وقائداً عسكرياً في شمال المغرب، كما أصبحت أخته المسماة السيدة الحرّة حاكمة تطوان بعد وفاة زوجها الحاكم، وعُرفت بذكائها وحنكتها منذ عمر مبكر.
مدينة شفشاون. تصوير محمد أبو شكر
في عام 2000، وبعد مرور 500 عام على قصة الحب التي جمعتهما، تم توقيع قانون التوأمة الرسمي بين المدينتين الشقيقتين. وقد بنت هذه القصة جسراً ثقافياً واجتماعياً وحتى سياسياً بين القارتين، عبر التغلب على جغرافية مضيق جبل طارق الفاصل بينهما. وبفضل الجهود المشتركة لكلتا البلديتين والجمعيات الثقافية الإسبانية، تم تنظيم ورشات ومحاضرات ثقافية تبادلية بينهما، تعكس روح التعايش والسلام.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى الامتنان لمدينة شفشاون لاستضافتها العديد من العائلات التي تمازجت وانخرطت مع سكان شمال إفريقيا، مما أضفى طابعاً فريداً على العلاقة بين أهالي القارتين..
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع