قبل سنوات من توقيع "الحماية" وظهور ما يسمّى بـ"المسألة المغربية"، حلّت المواطنة الإنجليزية "إميلي كين" بمدينة طنجة في عام 1872، لتشتغل مُدبّرة لمنزل المليونير الأمريكي الشهير ذي الأصل اليوناني إيون برديكاريس.
سنة بعد ذلك، تعرّفت إميلي على شيخ زاوية مهيبة، هو الحاج عبد السلام بن العربي الوزاني كبير الزاوية الوزانية، الذي عرض عليها الزواج، وإن تردّدت في البداية، فقد قبلت في النهاية لتحمل لقب "شريفة وزان"، ثم انتقلت للعيش مع زوجها "الشريف" في منزله الذي كان مقرّ زاوية دينيّة في الأصل.
في سيرتها "قصة حياتي"، التي ترجمها مؤخرا حسن الزكري (الطبعة الأولى، 2023، منشورات باب الحكمة-تطوان)، تنقل "إميلي كين Emily Keene" مشاهداتها وانطباعاتها، باعتبارها سيدة أجنبية قادمة من وراء البحار، حول وضعية المغرب في نهاية القرن 19 وبداية القرن ـ20 على المستويين الاجتماعي والسياسي بشكل خاص.
كبير الشرفاء... مغربي مختلف
تنطلق إميلي أساساً في سرد سيرتها، من زواجها بكبير الشرفاء الوزّانيين، الذي كان يعد حينها الأقوى نفوذاً في المغرب، إذ كانت غالباً ما تلتقيه قادماً من المدينة، أو عائداً إلى الجبل حيث كانت تمكث مع بعض الصديقات، ثم تعرفت عليه أكثر أثناء بعض الأمسيات الموسيقية التي كان يحضرها.
تقول صاحبة "قصة حياتي" "لقد أعجبت به حقا، حيث وجدته مختلفاً عن الرجال المغاربة المعدودين الذين كنت أعرفهم. لكن مع ذلك لم تخطر لي فكرة الارتباط به أبداً، كما لم أتصور قط أنه كان يفكر في شيء من هذا القبيل إلى أن طلب يدي للزواج".
في البداية رفضت إميلي عرض الزواج متحجّجة بدواعي دينية، فأمهلها الشريف شهراً لإعادة النظر في هذا القرار، وخلال غيبته تأكدت الإنجليزية أن مشاعرها تجاه كبير الشرفاء الوزّانيين أعمق مما تصوّرت، ما ولَّد لديها رغبة مُلحّة في معرفة المزيد عنه، ثم شعرت بتعذّر الحياة من دونه، فقررت إميلي قبول طلب الشريف للزواج منها، وتم عقد قرانهما في 15 يناير 1871.
اعتراض السلطان وانزعاجه
خلال النصف الأخير من القرن 19، لم يكن يسيراً الزواج من امرأة غير مسلمة، خصوصاً إذا كان الأمر يخص شيخ زاوية لها نفوذها الديني الكبير. لقد أبدى السلطان محمد بن عبد الرحمان، اعتراضه الشديد على زواج الشريف بإميلي، وهو ما دفع الشريف إلى المسارعة في طلب الحماية الفرنسية.
خلال النصف الأخير من القرن 19، لم يكن يسيراً الزواج من امرأة غير مسلمة، خصوصاً إذا كان الأمر يخص شيخ زاوية دينيّة لها نفوذها الكبير
جاء في سيرة "قصة حياتي" "لم يفت شهر على زواجنا حتى أخبرني الشريف بأنه علينا أن نلجأ إلى القنصلية الفرنسية لأن السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان، حسب بعض الرسائل التي وردته، كان معترضاً بشدة على زواجنا. مكثنا بالقنصلية أربعة أو خمسة أيام. كانت سلسلة الضغوط المباشرة عليه قد بدأت قبل ذلك الوقت، ومسألة زواجنا زادت الطين بلة فقط".
نفوذ الشريف يقلق البلاط
ذكرت إميلي بأن السلطان "أراد أن يربط الشريف بالبلاط بشكل دائم مثل والده من قبله (...). ذلك لأن نفوذ الشرفاء الوزانيين لم يكن له نظير في تلك الأيام، ومن شأنه أن يؤمّن للسلطان ولجيشه مروراً آمناً بين القبائل خلال رحلاته"، في حين كان الشريف يتخوّف من تدبير مؤامرة لاعتقاله بسبب ميوله الأوروبية التي كان ينظر إليها بتوجس على اعتبار أنها تشكل خطورة على سلامة "الإمبراطورية الشريفة".
وكتبت أن زوجها مال في أواخر حياته، "نزولاً عند بعض الاقتراحات التي جاءته من الأوروبيين، إلى الترحيب بفكرة القيام بمحاولة للسيطرة على السلطة، لكنه بعد أن تدبّر الأمر برويّة أكبر أزاح الفكرة من ذهنه باعتبارها غير عمليّة. (...) ومع ذلك فقد كان تواقاً لرؤية الإصلاحات تدخل البلاد".
كما أشارت شريفة وزان، إلى أن الشريف جهّز، بعد الحرب الإسبانية، فيلقاً من خدامه، وأمدّهم ببزّات عسكرية وقام بتدريبهم بمساعدة بعض السجناء الإسبان الذين كانوا لديه في وزان، ما أثار ضجة في البلاط، واعتبر أن وراءه دوافع أخرى وليس مجرد التسلية.
شريف وزان بميولات أوروبية
تلفت "شريفة وزان"، أن الميول الأوروبية لزوجها كبير الشرفاء الوزانيين لم تكن تخفى على أحد، خصوصاً أنه كان عازماً على الاقتران بأوروبية، بعدما قام بتطليق زوجاته المسلمات في سبيل ذلك.
وكان الشريف يرافق زوجته إميلي كل أيام الآحاد لحضور قدّاس الكنيسة الإنجليزية في القنصلية البريطانية، واعتاد الشريف أن يجلس بقرب آلة أرغن في رواق الطابق العلوي، بينما تؤدي زوجته واجبها الديني.
يعتبر منزل الشريف بمثابة حَرَم، أو زاوية، يتوافد عليه أصناف من البشر من كل حدب وصوب، ومن شتى الأقدار والمراتب، ناشدين حاجاتهم المختلفة
كما أنه في السنة الأولى من زواج الشريف بإميلي، نظَّما حفلاً راقصاً في منزلهما "بالرغم من الصعوبات الكثيرة، لأنه كانت لديّ خادمتان أوروبيتان فقط، بينما كانت أغلب الخادمات الأخريات مسلمات وشكلن عبئاً إضافياً في الواقع"، تحكي كين.
حتى في البيت، الذي كان في الأصل زاوية، لم يعترض الشريف على تغييرات أدخلتها زوجته إميلي، وذلك بإدخالها بعض النظام الأوروبي على المنزل. تقول "بعد الأيام الأولى من الحياة الزوجية، استجمعت شجاعتي وفكرت في إدخال بعض النظام الأوروبي على بيتي الجديد (...). وقد دعمني الشريف دائماً في هذه التجديدات".
إنجليزية في قلب زاوية بين المريدين
بشكل دقيق ومفصل، تصف إميلي الزاوية "يعتبر منزل الشريف بمثابة حَرَم، أو زاوية، يتوافد عليه أصناف من البشر من كل حدب وصوب، ومن شتى الأقدار والمراتب، ناشدين حاجاتهم المختلفة. هؤلاء اللاجئون وأصحاب الحاجات يمكثون لمُدد متفاوتة، تتراوح بين عدة ساعات وعدة أشهر، حسب الوقت الذي قد يستغرقه إسعاف طلباتهم".
تذكر شريفة وزان، أنه "بمجرد ما يلجأ هؤلاء إلى الزاوية، يتكفّل رب البيت بطلباتهم، لكن عقب إجراء تحقيق للتأكد من مصداقيتها"، مضيفة أنه "كان ينبغي إمداد كل هؤلاء الذين يقصدون البيت 'المُقدّس' (أو الزاوية) بالزاد والمأوى طيلة مدة إقامتهم، ريثما يُنظر في تظلماتهم".
وأشارت صاحبة "قصة حياتي"، إلى أن هذا التقليد الذي شاهدته في الزاوية موجود منذ زمن موغل في القدم، وتجاهُله "يعني ضياعاً لهيبة شرفاء وزان، ولنفوذهم الهائل في طول الإمبراطورية المغربية وعرضها"؛ لذلك عملت على تعلم اللغة العربية، لكي تتلمّس عن قرب كيفية اشتغال الآلية الداخلية للمحيط الجديد الذي تعيش فيه.
نفوذ روحي يتجاوز الحدود
كان يطال النفوذ الروحي للشريف كل مناطق البلاد وحتى بلداناً خارج المغرب، إذ وقفت زوجته إميلي خلال مرافقتها له في مهمة دبلوماسية للجزائر على حجم التبجيل الذي يحظى بها زوجها من طرف إخوانه في الدين خارج بلده. تورد إميلي، أنهم عندما وصلوا إلى جنوب وهران، وفي طريقهم للفندق في وسط المدينة، "بدا وكأن لناس قد انتابتهم نوبة من الجنون لوجود الشريف بينهم"، ما خلق فوضى عارمة أمام باب الفندق!
تضيف "في آخر المطاف هدأ الناس قليلاً لمّا أُعلِن أن الشريف سيستقبل المحبّين على دفعات، وبأن الجميع سيحظون بلقائه ونيل بركته. حتى هذه اللحظة لم أكن قد تبيّنت تماما حقيقة وضعه في الدين الإسلامي. كنت أعرف أنه من نسب شريف ينتهي إلى النبي، لكن هذا لم يترك أثراً كبيراً في نفسي، لكني الآن اكتشفت بأني تزوّجت رجلاً لم أتصوّر أبداً من قبل أن له كل هذا الشأن الكبير".
ما كتبت هذه الأسطر التي أستعرض فيها فصولاً من حياتي المزدوجة إلا بناء على طلب خاص. لا أنصح أحدا بأن يَحذُوَ حذوي، لكن في الآن نفسه لا أشعر بالندم مطلقاً، وأرجو أن يكون للأعوام الأربعين التي قضيتها بين المغاربة أثر حميد
وخلال توجهها إلى فاس برفقة ولدها مولاي علي، تنقل إميلي هذه المشاهدات التي تعبر عن مدى الاحترام الكبير للزاوية الوزانية "كان الناس من حولنا يهتفون بحماس: 'الحمد لله أن سيدي الحاج عبد السلام تذكَّرنا وأرسل إلينا ولده'، مع هتافات أخرى مؤثرة خاصة من طرف مريدي طائفة مولاي الطيب، التي يُعتبَر الشريف زعيمها الروحي، و"حَبْرها الأعظم" في الحقيقة، حيث كانت سيادته معترفاً بها من جميع الطرق والطوائف في المغرب".
انقلاب الأمور وتدهور حال الشريف
لكن حال الشريف لم يظل على عادته مع زوجته، إذ لاحظت إميلي أنه بعد 11 عاما من حياة هانئة، انقلبت أمورهما رأساً على عقب بسبب أوروبي رمزت إليه بحرف "ج"؛ وهو الرجل الذي كان في وقت سابق يستغل تأثيره على زوجها الشريف في تحقيق مآرب كانت شريفة وزان تقف ضدّها تماماً، ومنها بعض الاقتراحات التي تقدم بها.
وخلال هذا الوقت استغربت إميلي لتراجع قدرات الشريف العقلية عما كانت عليه في السابق، إذ ترسّخت لديه فكرة أنه سيتعرض للاغتيال من قبل السلطان، قائلة "بدأت حالة الشريف تتدهور وهو ما زال في عنفوانه. لم يعد ذلك الرجل السامي المقام الليبرالي العقلية"!
هنا تبيّن الكاتبة، أنه في سنة 1883 وصلت رسالة من الحكومة لفتت انتباهها أن الأمور ليست على ما يرام، خصوصاً أنها كانت "بلغة مهينة"، كما وصفتها. "وفي هذه الحالة أخذت المسألة بجدية أكبر إلى حد أنه لولا الحماية الفرنسية التي مُنحت له على الفور لدفع الثمن غالياً من صحته".
هوس الشريف ووفاته
غير أن الشريف لم يستعد ثقته بنفسه، حتى وإن مُنحت له الحماية الفرنسية، إذ تحول "من رجل فائق الشجاعة إلى شخص يقف على حافة الجبن، على ما يظهر. لقد أخذ هوسه منحى حاداً، إذ كان لا يخلد للنوم قبل أن يضع سكيناً مغمداً تحت وسادته، ومسدّسين معبّأين على طاولة السرير الجانبية"، تورد إميلي في مذكراتها.
وصل الأمر بين الزوجين إلى الطلاق، إذ وصلت برقية إلى السلطات الوهرانية بالجزائر بخبر طلاق إميلي، وهو الأمر الذي لم تصدّقه، لأنه لك يكن هناك داع لهذا الأمر، ولم يكن الشريف مستعداً لأداء مبلغ ألف دولار.
لقد أخذ هوسه منحى حاداً، إذ كان لا يخلد للنوم قبل أن يضع سكيناً مغمداً تحت وسادته، ومسدّسين معبّأين على طاولة السرير الجانبية
تحكي شريفة وزان "قفلت راجعة إلى طنجة لأستطلع جلية الأمر. علمت أن الشريف قد عقد الزواج على إحدى خادماته. لم يكن ليفعل ذلك أبداً لو أنه كان في حالة عقلية سليمة، لكني كنت أدرك أنه لم يكن مسؤولاً عن تصرفاته منذ عودته من الجزائر".
وفضلت شريفة وزان العيش مع وَلدَيها، رافضة التقاضي من أجل الطلاق، كما طلب منها الأوروبيون، ولم تندم على زواجها من الشريف رغم الأوقات السيئة التي مرّت بها سنواتها الأخيرة معه. بل لم تتخل إميلي عن زوجها الشريف، ورافقته عام 1890 في جولة أوروبية من أجل العلاج، حتى توفي في طنجة سنتين بعد ذلك في 28 شتنبر 1892.
إميلي كين التي استمرت في العيش في طنجة، وتوفيت بها عام 1941 ودُفنت في مقابر شرفاء دار الضمانة بمرشان تنفيذاً لوصيتها، ختمت سيرتها بهذه الكلمات "ما كتبت هذه الأسطر التي أستعرض فيها فصولاً من حياتي المزدوجة إلا بناء على طلب خاص. لا أنصح أحدا بأن يَحذُوَ حذوي، لكن في الآن نفسه لا أشعر بالندم مطلقاً، وأرجو أن يكون للأعوام الأربعين التي قضيتها بين المغاربة أثر حميد في المستقبل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...