بعد ساعات قليلة من منشور كتبه عبر حسابه الخاص، ينعي فيه المناضل المصري الراحل جورج إسحق الذي غيبه الموت في 9 يونيو/ حزيران الجاري، رحل عن عالمنا فجأة الروائي المصري حمدي أبو جُليِّل، الذي نقلت كتاباته - من بين كتاب قلائل- جوانب مجهولة من المجتمع المصري، وتحديداً الثقافة البدوية التي كان ينتمي إليها ويعتز بها رغم اختلافه مع كثير من مظاهرها.
ولأن روحه المرحة وميله للسخرية والعبث كانا دوماً علامة على شخصيته، ظن أصدقاؤه ومحبوه في البداية أن خبر وفاته كان مُزحة مدبرة منه؛ لكن إعلان ابنته هالة الخبر عبر صفحتها الشخصية أكد لهم أن صديقهم الروائي الحاصل على جائزة نجيب محفوظ للإبداع الروائي قد رحل عن عالمنا.
كل من يتفق مع أراء أبو جُليِّل أو من يختلف معها يقر بمدى إنسانيته، وظهر هذا واضحاً بعد إعلان خبر رحيله، الذي تحولت معه صفحات وسائل التواصل الاجتماعي إلى دفتر عزاء يتذكر من خلاله أصدقاؤه وقراؤه علاقتهم الإنسانية به قبل قيمته الأدبية
حمدي أبو جُليِّل صاحب تجربة أدبية خاصة، كان أساسها اختلاف خلفيته الثقافية عن الكتاب الذين عاصروه في فترة التسعينيات، فهو الشاب القادم من الفيوم؛ صاحب الجذور البدوية التي يعتز بها، أتى إلى القاهرة في محاولة لتحقيق حلمه، بمجرد أن تلتقي به تدرك مدى اختلافه، فرغم خشونته في الحديث أحياناً فهو بسيط ومبتسم دائماً لمن حوله.
صدمة الرحيل وألم الفراق
كل من يتفق مع أراء أبو جُليِّل أو من يختلف عليها يقر بمدى إنسانيته، وظهر هذا واضحاً بعد إعلان خبر رحيله، الذي تحولت معه صفحات وسائل التواصل الاجتماعي إلى دفتر عزاء يتذكر من خلاله أصدقاؤه وقراؤه علاقتهم الإنسانية به قبل قيمته الأدبية.
وكتب الناقد سيد الوكيل: "حمدي أبو جُليِّل من الشخصيات التي نتعلق بها سريعاً، صريح وشجاع، وصاحب صاحبه فعلاً"، وكتب الناقد د. يسري عبد الله: "لم أكن أعلم أنني أودع أخي وصديقي حمدي أبو جُليِّل في مكالمتنا الأخيرة بالأمس، وكنا نتهاتف يومياً، ونلتقي حسب ما يتيسر الوقت لكلينا. لم تنقطع علاقتنا يوماً واحداً طيلة عشرين عاماً، وعززتها الحوادث واللقاءات والضحكات النابعة من القلب. والحكمة التي ارتأيتها فيه، فالسخرية العظيمة كانت تخفي تأملاَ عظيماً".
وكتب خالد البري عن صداقتهما: "حمدي أبو جُليِّل على المستوى الشخصي مودة صادقة مع من يحب. شخص دوغري لا يلف ولا يدور ولا يراوغ. اعتبرته دوماً الصديق الأقرب بين الكتاب. وعلى المستوى المهني بين قلة لم تلتزم بشلة ولم يبال بأن يردد كلامها ولا أن ينال منها القبول. كان ذاته، كاتباً متميزاً له صوت لايشبه غيره. أتمنى لحمدي أبو جُليِّل الكاتب أن يُقدَّر بعد وفاته وأن يضاء على إنتاجه البديع بما يستحق، كما فعل هو مع زملاء سبقوه. أما حمدي الصديق فلن يعوض".
وكان للناقد محمد بدوي رأي في سبب موت أبو جُليِّل وكتب "الموت مؤلم، لكن الأكثر إيلاماً الموت قهراً، وحمدي أبو جُليِّل مات مقهوراً، لم يكن عدمياً بل كان محباً للحياة، عيبه الوحيد أنه طلب الاعتراف ممن هم أقل منه موهبة وشرفاً. هذه بلاد تأكل أفضل أبنائها، بلد يموت فيه الموهوب من القهر و الحاجة… أما مشاعري الخاصة نحو حمدي الصديق فهذا أمر آخر".
ترجمت بعض أعمال أبو جُليِّل إلى لغات أجنبية، ومنها رواية "الفاعل" التي فازت بجائزة نجيب محفوظ التي تقدمها الجامعة الأمريكية في العام 2009، وكانت كلمته أثناء تسلم الجائزة ملهمة، ويتضح فيها كيف أنه كان يقدر ذاته الأدبية ويعرف قيمتها وفي الوقت نفسه يعرف قيمة الأخرين
أبدع حمدي أبو جُليِّل في كتاباته الروائية والقصصية وكان كتابه الأول مجموعة قصصية صدرت عام 1997 تحت عنوان "أسراب النمل"، وفي عام 2000 صدرت مجموعته القصصية الثانية "أشياء مطوية بعناية فائقة" وفازت بالعديد من الجوائز الأدبية.
وله أعمال روائية مختلفة منها "طي الخيام"، و"الأيام العظيمة البلهاء"، و"نحن ضحايا عك"، و"قيام وانهيار الصاد شين"، لكنه استطاع أن يلفت الانتباه من خلال روايتين كانتا الممثلتين لمشروعه الأدبي هما "لصوص متقاعدون" و"الفاعل".
ترجمت بعض أعمال أبو جُليِّل إلى لغات أجنبية، ومنها رواية "الفاعل" التي فازت بجائزة نجيب محفوظ التي تقدمها الجامعة الأمريكية في العام 2009، وكانت كلمته أثناء تسلم الجائزة ملهمة، ويتضح فيها كيف أنه كان يقدر ذاته الأدبية ويعرف قيمتها وفي الوقت نفسه يعرف قيمة الأخرين.
في وداع صديق
قالت الكاتبة والناقدة د.هويدا صالح لـرصيف22 إن حمدي أبو جُليِّل على المستوي الإنساني "أنبل الناس، وصاحب صاحبه وكريم وساخر حتى من نفسه، يعرف للناس أقدارها ويعرف قدر نفسه كمبدع مهم. أعرفه أنا وزوجي الكاتب سعيد نوح من 25 عاماً بعدما جاء من الفيوم وسكن بالقرب منّا. وحتى بعدما انتقل محل سكنه إلى حي آخر أبعد، كان لقاؤنا الأسبوعي مقدساً، نلتقي لنقرأ ونتحدث عن كتاباتنا الجديدة ونتناقش فيها. إذ كان يكتب رواية جديدة قبل رحيله وانا أكتب كتاباً في الشعر وسعيد لديه رواية يكتبها أيضا".
وتابعت: "إنه كاتب مهم وعالمي بمقاييس الابداع، كانت كتاباته تعمل على التعدد الثقافي في الكتابة، فنجده يكتب عن القاهرة بشوارعها وأحياناً يصطدم مع الإسلام السياسي، وتمت ترجمة أعماله إلا أن مشروعه الأدبي لم يقدر بالشكل الكافي ويحتاج إعادة قراءة".
عمل أبو جليل مع الراحل إبراهيم أصلان مديراً لتحرير سلسلة آفاق عربية وعاش مأساة رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" وتم التحقيق معه، وكان يحاول بقدر ما أن يحوِّل المأساة إلى ملهاة، إذ كان يحب أن يخفف من وطأة الكوارث دائماً بالسخرية والفكاهة
وتصحح صالح لرصيف22 المعلومة المتداولة حول تاريخ ميلاد الأديب الراحل، مؤكدة أنه ولد سنة 1972، لا سنة 1967، أي أنه عاش 51 عاماً فقط.
الشاعر والناقد شعبان يوسف مدير مركز ورشة الزيتون الثقافي، يتذكر في حديثه مع رصيف22 تاريخ صداقته بالكاتب الراحل، مبيناً أنه عرفه من خلال دار ميريت للنشر التي تبنى ناشرها محمد هاشم كتابات الراحل وقدمه إلى الوسط الثقافي والإبداعي في مصر: "كانت لديه مجموعة قصصية لفتت نظري، وكان أبو جُليِّل معروفاً عنه أنه خفيف الظل وحاد اللفظ، وكان متعصباً لجذوره البدوية. وفي أواخر التسعينيات كان له عدد من الأعمال المنشورة، وأيضا الكاتبة ميرال الطحاوي ذات الجذور البدوية أيضاً لها أعمال منشورة مستقاة من العالم نفسه، لكنه كان يعتبر نفسه الممثل الأصيل للسمة البدوية، اعتقاداً منه أن هناك (تيار للرواية البدوية) وكان يتحدث عن ذلك كثيراً".
وأضاف يوسف: "عندما صدرت روايته (الفاعل) كانت علاقتنا وطيدة أكثر، وهو كان لافتاً للنظر من البداية، كما أنه عمل مع الكاتب الراحل إبراهيم أصلان مديراً لتحرير سلسلة آفاق عربية وعاش مأساة رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" وتم التحقيق معه وكان يحاول بقدر ما أن يحول المأساة إلى فكاهة، إذ كان يحب أن يخفف من وطأة الكوارث دائماً بالسخرية والفكاهة".
لكن سخرية أبو جُليِّل لم تكن مقتصرة على التخفيف من وطأة الكوارث، بل وحتى في لحظات السعادة والاحتفال، يتذكر الناقد ومؤرخ الوسط الثقافي المصري شعبان يوسف كلمة أبو جُليِّل التي ألقاها عند فوزه بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الامريكية بناء على وقف من روائي نوبل الراحل، يقول شعبان: "حمدي كان يلفت الأنظار بذكائه الفكاهي وحتى عندما فاز بجائزة نجيب محفوظ بالجامعة الأمريكية قال طالما أخذت الجائزة فيستطيع كل الأدباء أن يأخذوها لأن الجائزة بذلك تخطت نخبويتها".
حمدي لم يقتصر في كتابته على القصة والرواية، لكنه عمل صحافياً وكان نشيطاً ومجتهداً عندما عمل في جريدة الإتحاد، وكان مشروعه عن الشوارع لافتاً ووصف بأنه خطط جديدة للقاهرة
مشروع أدبي مغاير
أما عن مشروعه الأدبي، فيصفه مدير ورشة الزيتون بأنه "كان يعلم أنه يقدم مشروع مهم كسر تابو الكتابة الرصينة إلى استخدام مفردات وجمل ومعاني تكاد تكون شعبية؛ لكنها موجودة في إطار فني يخصه. والرواية عند حمدي أبو جُليِّل ليست تقليدية كلاسيكية، كما يظهر في (لصوص متقاعدون) و(الفاعل) اللتين لفتتا الأنظار. لكنه ربما لم يحظ بلفت النظر مرة أخري في أعماله التالية، وهذه كانت أزمته أنه حقق نجومية وانتعاشاً أدبين بهاتين الروايتين لم يحظ بهما مرة أخرى، ونحن في ورشة الزيتون احتفينا به وأصدرنا كراسة عن أعماله".
وعن شخصيته الروائية قال يوسف "حمدي ليس لديه بنية روائية مغلقة بمعنى وجود بداية ووسط ونهاية، ولكنها مفتوحة… مساحاتها مفتوحة، يمكن للقارىء أن يتفاعل معها ويتخيل ما يطرحه. كما أنه يتناول الطبقات ما بعد المطحونة في أعماله، بينما اهتم معظم مجايليه بتصوير الطبقة المتوسطة، لكنه تناول أفقر الطبقات والصنايعية وأيضاً الخارجين على القانون، فجعل بعض المهمشين أبطالاً في رواياته. بعد ذلك عندما انتبه لبدويته وأصدر رواية (قيام وانهيار الصاد شين) فقد قدراً من زهوه الإبداعي والروائي لأن الكتابة أخذت بعداً أيدولوجياً عندما استدعى اللهجة البدوية من أجل تعميق فكرة البدوية عنده".
وأشار يوسف إلى أن حمدي لم يقتصر في كتابته على القصة والرواية، لكنه عمل صحافياً وكان نشيطاً ومجتهداً عندما عمل في جريدة الإتحاد، وكان مشروعه عن الشوارع لافتاً ووصف بأنه خطط جديدة للقاهرة - في إشارة لخطط المقريزي والخطط التوفيقية -.
صدر مشروعه عن شوارع القاهرة في كتاب "القاهرة شوارع وحكايات" الذي نفدت طبعاته أكثر من مرة، ويري شعبان أن "كتابة حمدي أبو جُليِّل لن تمر في تاريخ الإبداع الروائي مروراً سهلاً. سيكون لها أثر بعيد العُمق".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...