كانت إحدى أشهر علامات الثورة، صورة التُقِطَت في يناير/ كانون الثاني 2011 لعجوز يقف منتصباً وسط المتظاهرين الذين خرجوا ليطالبوا بإسقاط مبارك. كانوا يؤدون الصلاة في ساحة ميدان التحرير ويقف هو مولياً ظهره لهم، وعيناه تراقبان الأجواء المحيطة، ليحميهم من أي هجوم محتمل.
في ذلك اليوم كان صاحب الصورة، جورج إسحق، يدرك الخطر المتربص الذي يتهدده ومن حوله من المصلين، لكنه واصل وضع جسده حائلاً بين رفاقه في الميدان وبين ذلك الخطر؛ فتحولت صورته إلى واحدة من الأيقونات الثورية التي عرّف بها نفسه كصورة رئيسية له في حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، كما يستخدمها البعض كلما راودهم الحنين إلى يناير، أو دار حديث عن "الوحدة الوطنية"، وكانت هي الصورة الأولى التي استدعاها المحبون عقب إعلان وفاته مساء أمس الجمعة 9 يونيو/ حزيران الجاري، لتنتهي رحلة جسده وتبقى سيرته الثورية والإنسانية.
في ذلك اليوم كان صاحب الصورة، جورج إسحق، يدرك الخطر المتربص الذي يتهدده ومن حوله من المصلين، لكنه واصل وضع جسده حائلاً بين رفاقه في الميدان وبين ذلك الخطر
الصبي المناضل
"أنا روح بورسعيد. بورسعيد هي اللي علمتني الشجاعة والوطنية وإزاي اتحرك وسط الناس. هي دي المُعلّم الأساسي". جورج إسحق في لقاء صحافي.
فمن قلب حارة أبوالحسن الشاذلي وفي نهايات ثلاثينيات القرن الماضي، استقبلت بورسعيد الطفل جورج إسحق. الذي غدا في سنوات صباه وشبابه واحداً من مناضليها، يقاوم مع الفدائيين الاحتلال البريطاني وبعده العدوان الثلاثي، حسبما ذكر في حوار له: "كنت يائساً وفكرت في مغادرة بورسعيد، ولكن أستاذي في المدرسة قال لي لا بد أن تقاوم. وغيَّر ذلك مجرى حياتي".
نضال السنوات المبكرة هو ما شكّل فيما بعد شخصية مناضل شهير عرفته مصر منذ ما قبل الثورة، بل في عز سطوة نظام مبارك، رغم أن مساره التعليمي وبعده الوظيفي كان بعيداً كل البُعد عن السياسة، فهو مدرِّس التاريخ الذي تدرج وظيفياً حتى أصبح مديراً لمدرسة التوفيق القبطية، ثم خبيراً تربوياً يعمل مديراً للمدارس الكاثوليكية في مصر.
بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي 1956
بدأت علاقة إسحق بالسياسة مبكراً، تماماً كما بدأت علاقة حبه وإخلاصه لمجاله، التعليم. فهو طالب الثانوية العامة الذي تأخر يوماً عن موعد المدرسة وضبطه مديرها يقفز السور محاولاً الدخول إليها لا الهروب منها، ما أثار دهشة المدير، وفسّره إسحق في أحد لقاءاته بعد أعوام كثيرة بقوله "من كتر حُبنا للمدرسة ماكناش نقدر نسيبها. أول مرّة اتعلمنا الخطابة هناك، أول مرّة اتعلمنا نعمل مجلة حائط هناك".
تلك المهارات استفاد منها حين بدأ تأسيس حركة "كفاية" 2004، التي أظهرت ما بداخله وداخل رفاقه من شجاعة حد الإقدام على قول "لا" للسلطات في بلد لم يكن يعرف سوى كلمة "نعم".
استفاد إسحق من تلك المهارات حين بدأ تأسيس حركة كفاية (2004)، التي أظهرت ما بداخله وداخل رفاقه من شجاعة حد الإقدام على قول "لا" للسلطات في بلد لم يكن يعرف سوى كلمة "نعم"
صيحة "كفاية"
رغم ذلك الموات العام، وأنه صار - وقتها- شيخاً في الستينات من عمره، ظل إسحق منشغلاً بأوضاع مصر في الألفية الجديدة، وأسوأها على الإطلاق التخطيط لتوريث الحكم من مبارك إلى ابنه، الأمر الذي صار محلّ نقاشات غاضبة كان بعضها بينه وبين أصدقاء له؛ فصار واحداً من مؤسسي ومُنسّقي الحركة الوطنية من أجل التغيير "كفاية" في ديسمبر/ كانون الأول 2004.
كانت الحركة السياسية الجديدة غريبة على المصريين الذين لم يعرفوا على مدار عقود سوى أحزاب قزمة، تكتفي بنصيب من كعكة مقاعد البرلمان، تحت لواء الحزب صاحب النفوذ الأعظم "الوطني الديمقراطي" التابع للرئيس. روى إسحق كيف وُلد اسم "كفاية"، كان وأصدقاؤه الغاضبون يتناقشون حول الوضع السياسي في البلد، ليقول صديقهم محمد سعيد إدريس "كفاية قرف"؛ فيكون ردّ إسحق أن الاسم سيكون "كفاية".
روى إسحق كيف وُلد اسم "كفاية". كان وأصدقاؤه الغاضبون يتناقشون حول الوضع السياسي في البلد، ليقول صديقهم محمد سعيد إدريس "كفاية قرف"؛ ليأتي ردّ إسحق أن الاسم سيكون "كفاية"
في تلك اللحظة كان الحماس هو القائد، فلجأ إلى ابنه وطالبه بمساعداته "لعمل حاجات كلها بدائية ولا منظمة ولا حاجة"، تماماً مثل بدايات الحركة التي كشف أنها بدأت عفوية غير مُنظّمة، فعمل الاثنان على تصميم الشعار الشهير للحركة المُعبّر عمّا وصلت إليه الأوضاع آنذاك، سلك شائك.
وعلى الأرض كذلك، كانت العزيمة حاضرة. ففي بلده بورسعيد كان هو بين 6 أشخاص خرجوا في مظاهرة يُحاصرها عدد كبير من أفراد الأمن، ما دفع المواطنين للتساؤل عن هؤلاء، فيتحقق الهدف ويبدأ الناس في معرفتهم بأنهم "حركة كفاية"، والتي مهد نشاطها منذ نشأتها في العام 2004 لثورة 25 يناير.
اندلعت الثورة كرد فعل على واقعة قتل شهيد التعذيب خالد سعيد على يد قوات الشرطة المصرية، لكنها كانت أيضاً بعد تراكمات لانتهاكات أخرى من النظام تفاعلت "كفاية" ضدها، مثل التعدي على صحافيات أمام نقابتهن فيما عُرِف بـ"الأربعاء الأسود" 2005، والتعدي على السلطة القضائية "مذبحة القُضاة" التي تلت احتجاجات قضاة على ما رصدوه من تلاعب في نتائج التصويت في استفتاء على التعديلات الدستورية ودعوات القضاة الإصلاحيين لاستقلال القضاء بالتخلص من سطوة السلطة التنفيذية عليه.
خلال ذلك كان إسحق حاضراً في احتجاجات كفاية التي تنوعت بين أساليب الاحتجاج التقليدية كالتظاهر والاعتصام، والمبتكرة كـ"كنس السيدة" والاستنجاد بـ"العدرا" وسواها. كما سلكت الحركة مسلك التقاضي والتحصن بالقانون في مواجهة تجاوزات السلطة.
أيام يناير
من "كفاية" وما سبقها من وقائع نضال في الصبا والشباب، عرف إسحق طريقه كمحتج على الانتهاكات عبر مظاهرات كفلها له الدستور كحق، فكان يرفض أن يلجأ إلى الأمن للاستئذان بشأنها أو التفاوض حولها ليُصبح بعد ذلك في الصفوف الأولى لمظاهرات ثورة 25 يناير.
أزاحت الثورة مبارك، لتواجه بعدها السُلطة الانتقالية العسكرية، والتي شهدت فترة حكمها أحداثاً كان إسحق بين المتصدين لها باعتبار "فلول" النظام الساقط العائدين في ثياب حزبية جديدة، وعناصر "الثورة المضادة" يُهددون مكاسب يناير، لا سيما أن مبارك لم تتم محاكمته سياسياً مثلما طالب هو وغيره من النشطاء، راهناً نجاح الثورة بـالقضاء على الفساد، وكذلك تحقيق مطالب لم يتأخر ورفاق الثورة عن إعلانها من ميدان التحرير.
مرّت أيام الثورة لينتقل الحكم إلى جماعة الإخوان المسلمين، ورغم أن إسحق المصري المسيحي أعلن موقفه واضحاً برفض تدخل رجل الدين- شيخ أو قس- في العمل السياسي، وشدد على التعامل مدنياً بالمعنى الكامل للكلمة حتى مع مشاكل المسيحيين، إلّا أنه لم يفعل مثل كثيرين ويعادي الإخوان بصورة مُسبّقة.
فقبل يناير بأعوام أبدى ترحيبه بهم وبأي كيان مثلهم يريد العمل العام، في حال شارك كحركة سياسية وليست دينية. لكن، وبعد ما كان خلال عام حكمهم صار موقفه منهم هو المعارضة، لا سيما مع العنف الذي شهدته البلاد آنذاك، وقد اتهمهم قبل أول انتخابات بعد ثورة يناير بأنهم "أُصيبوا بالتعالي".
ورغم هذا، رفض أيضاً، وهو العضو بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، ما حدث بعد ذلك خلال فض اعتصام أعضاء وأنصار الجماعة في ميداني رابعة العدوية والنهضة، مثلما انتقد في عهد النظام الحالي- ولأكثر من مرّة- ما يحدث من "انتهاكات غير مسبوقة داخل السجون".
نضال متواصل
لم يكن مبارك أو الإخوان من بعده هما هدف إسحق، فهدفه ليس أنظمة أو أشخاصاً، بل سياسات تحتاج للتغيير وحقوق لا بد من ترسيخها إياً كان حاكم البلاد. لهذا، استمر على مساره وما يؤمن به من مبادئ، ومنها على سبيل المثال "تداول السلطة" الذي طبّقه منذ كان في "كفاية" ورشّح الدكتور عبد الوهاب المسيري ليتولى بعده منصب المنسق العام.
كما بقي إسحق في معركته ضد عدوه الأول "الحزب الوطني" الذي ظل يؤكد حتى بعد 30 يونيو أنه "مازال يعمل سرّاً" وهو ما صدقه عودة رموز وقيادات الحزب تحت مسمى جديد هو "مستقبل وطن" ليكرروا سيرتهم كحرب معبر عن السلطة، وحذّر إسحق من مصادرة السياسة وتغييب الأحزاب عن المشهد، منتقداً "الوضع البائس" الذي رآه يتمثّل في "إفلات مبارك ورجال نظامه من العقاب، والإلقاء بشباب الثورة في السجون"، وذلك في ظل أحوال وإجراءات دفعته لعدم إقصاء نفسه عن تحمّل مسؤولية أسباب "فشل الثورة" بسبب ما وصفه بـ"التشرذم والتفريط في الحقوق".
لم يكن مبارك أو الإخوان من بعده هما هدف إسحق، فهدفه هو السياسات التي تحتاج للتغيير، وحقوق لا بد من ترسيخها إياً كان حاكم البلاد. لهذا، استمر على مساره وما يؤمن به من مبادئ، ومنها "تداول السلطة" الذي طبّقه منذ كان في "كفاية" وترك منصبه طواعية ورشّح الدكتور عبد الوهاب المسيري ليتولى بعده منصب المنسق العام
لهذا، ربما كل ما سبق من مُعطيات دفعت إسحق المناضل منذ عقود للتعامل بإحساس ذنب تجاه الثورة ومعتقليها، ليس فقط لأنه تعرّض لتجربة الاعتقال من قبل سواء في أحداث 6 أبريل/ نيسان أو قبلها، بل لأنه زار الآن بعض شباب الثورة في السجون.
من خلال موقعه في المجلس القومي لحقوق اللإنسان، الذي أعيد تشكيله عدة مرات لتقليل الاصوات الحقوقية الصادقة إلى الحد الأدنى، كان جورج إسحق صوتاً صارخاً في البرية، يكرر تحذيراته مما يحدث داخل السجون والاقسام، في وقت يحتفي رفاق النضال السابقون بجودة الطعام وبحبوحة العيش في السجون في صور هزلية، يكذبها الواقع الذي يظهر فيما يتعرض له المواطنون بل والأجانب الذين يوقعهم حظهم العاثر في قبضة قوات الأمن المصرية كالإيطالي جوليو ريجيني، الذي لم تغب قضيته عن اهتمامات إسحق ومطالبه، ومنها ما وجهه للرئيس السيسي بـ"تغيير مستشاريه ومن حوله، والاستعانة بالكفاءات، بعيداً عن ثقافة أهل الثقة".
جورج إسحق هو مَن تحوّل من يأس الفتي خلال العدوان الثلاثي على بورسعيد إلى عزيمة سياسي وحقوقي، ناضل منذ عهد الاحتلال مروراً بحقبة مبارك حين حمل على كتفيه الوليدة "كفاية" التي كانت البشارة بثورة ظل فخوراً بالمشاركة فيها بالتظاهر وعرض المطالب وحماية رفاقه المصلين، ثم بعد أعوام وبروح عمله كمدرس للتاريخ دعا إلى توثيقها حماية لها من التزييف.
جورج إسحق، الرجل الذي واصل نضاله حتى بعد الثورة، حين رأى عدم تحسّن للأوضاع، ليعود ويطالب بهيكلة أجهزة أمنية ووقف أي انتهاكات، ورفض أي مُبررات لها من قبيل دعوات "المؤامرات الخارجية"، هو مَن ظل حالماً بالتغيير وقول "كفاية" في حال تكررت الأزمات، وظل يأمل ويعمل من أجل مصير أفضل لمصر حتى آخر لحظات حياته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت