قبل نحو شهر من تحرك الضباط الأحرار في مصر لإنهاء حكم أسرة محمد علي في 23 يوليو/ تموز 1952، ولد المناضل والمفكر القومي المصري أمين إسكندر، ليرتبط مجيئه إلى الدنيا بحدث ظل مرافقاً له، حتى تبنى الدفاع عن مبادئه وشعاراته طوال حياته، التي سقطت آخر أوراقها أمس الاثنين، 28 نوفمبر/ تشرين الثاني، عن عمر ناهز الـ70 عاماً، شغلتها مسيرة طويلة من النضال والفكر.
خلال سنوات نضاله، تقلبت على المفكر السياسي الراحل أنظمة الحكم، بل وتقلبت كذلك توجهات تلك الأنظمة نفسها، بتبدل الظروف الإقليمية والدولية، وتعرض كغيره من السياسيين المعارضين للتضييق والتنكيل والاعتقال، لكنه على الرغم من كل هذا، لم يتوقف عن المحاولة، ولم يفقد الأمل في أن تحظى مصر بالحكم الديمقراطي الرشيد.
تعرض إسكندر كغيره من السياسيين المعارضين للتضييق والتنكيل والاعتقال، لكنه على الرغم من كل هذا، لم يتوقف عن المحاولة حتى ولو تحت راية ألد أعدائه، ولم يفقد الأمل في أن تحظى مصر بالحكم الديمقراطي الرشيد
أول خطوة
في عمر السادسة عشرة، شق الطالب أمين اسكندر، ابن حي شبرا القاهري، الطريق إلى السياسة، بمشاركته في تظاهرة طلابية عام 1968 لتأييد المقاومة الفلسطينية، وجهت التظاهرة أمين إلى الدرب الذي سيسير عليه، فلاحقاً سينخرط الشاب اليافع في تشكيل أندية الفكر الناصري داخل الجامعات، ما جعله يتبوأ مكانة كبيرة كأحد حملة شعلة الفكر الناصري.
هكذا، تصدر إسكندر طليعة الناصريين المناهضين لحكم الرئيس أنور السادات، فكان ضمن قائمة المئة التي وقعت على "وثيقة الزقازيق" التي بدأت التخطيط لمعارضة النظام الساداتي بشكل كامل. لذا يعده أبناء التيار الناصري رقماً صعباً، وواحداً ضمن مجموعة قليلة حملت الراية من "جيل 23 يوليو"، ونخبة مبكرة بزغ نجمها في عقدي السبعينيات والثمانينيات.
مع الشعب دائماً
يحكي الراحل عن انتفاضة الخبز، التي نعتها السادات بانتفاضة الحرامية: "كنت واحداً من لجنة تنسيقها القيادية وقد تم الإعلان عن الموقف الناصري بأن سلطة السادات سلطة انقلاب على سياسات عبد الناصر، وقد شاركت لجان العمل الناصري في محافظات مصر وجامعاتها وفي بعض المواقع العمالية في انتفاضة يناير وتم القبض على مجموعة من رموزها الناصرية".
يكمل إسكندر روايته عن تظاهرات 18 و19 يناير/ كانون الثاني 1977، التي قامت احتجاجاً على رفع أسعار السلع الأساسية: "كنت قد شاركت في تظاهرة كبيرة بالهتافات سارت في شبرا إلى رمسيس إلى العتبة، وقمنا بتحطيم صورة السادات التي كانت موضوعة فوق موقع يبيع الخروب والسوبيا والتمر، وبعد انتهاء اليوم لم أنم في بيتي".
ذاق إسكندر مرارة الاعتقال عدة مرات، أولاها عام 1978 في عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات في خضم حربه لقمع اليساريين والمحسوبين على التيار الناصري، باتهامات الدعوة لقلب نظام الحكم، وصولاً إلى يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011، اليوم الأول في الثورة المصرية
ذاق إسكندر مرارة الاعتقال عدة مرات، أولاها عام 1978 في عهد الرئيس الأسبق محمد أنور السادات في خضم حربه لقمع اليساريين والمحسوبين على التيار الناصري، باتهامات الدعوة لقلب نظام الحكم، وصولاً إلى يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011، اليوم الأول في الثورة المصرية.
لإسكندر دور تنظيمي كبير داخل الأحزاب الناصرية واليسارية، بدءاً من المنبر الاشتراكي مع كمال الدين رفعت، ثم الحزب الاشتراكي مع فريد عبد الكريم، ثم حزب التحالف مع كمال أحمد، اختتمها مع الحزب الناصري بقيادة ضياء الدين داوود، قبل أن يشارك في تأسيس حزب الكرامة، أحد أكبر التجمعات الناصرية في الوقت الحالي، وقد تولي فيه مسؤولية العمل التثقيفي والفكري.
في العقود الثلاثة الماضية، ارتبطت مسيرة إسكندر بالزعيم الناصري والمرشح الرئاسي الأسبق حمدين صباحي، خلال عملهما المشترك داخل الكرامة أو المشاركة في تأسيس التيار الشعبي عقب ثورة 25 يناير، فضلاً عن اشتراكهما في كتابة البرامج السياسية لحملات ترشح حمدين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
كما كان الراحل واحداً من ستة أعضاء شكلوا اللبنة الأولى في حركة كفاية ومن بعدها الجميعة الوطنية للتغيير، وهما في عداد الحركات التي أسهمت في تحريك الشارع ضد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
حائط ضد التطبيع
شغلت القضية الفلسطينية ومقاومة التطبيع مع "الكيان الصهيوني" - بحسب المعجم الناصري- وجدان أمين إسكندر طوال سنواته السبعين، فأخلص لها كما أخلص لنشاطه السياسي في الداخل المصري، وهو ما يتضح في قيادته عشرات الأعمال الجبهوية والسياسية دعما للقضية، أبرزها عمله منسقاً لحملة الدفاع عن سليمان خاطر، ومنسقًا للحملة الشعبية ضد التطبيع والصهيونية، وحملات مقاطعة البضائع الأمريكية والصهيونية، علاوة على المشاركة في تظاهرات عديدة لدعم الانتفاضة الفلسطينية والتنديد بالعدوان على الشعب الفلسطيني.
كرس إسكندر قلمه لتفكيك مقاومة خطاب التطبيع، خصوصاً مع تزايد الدعوات المطالبة بإحلال السلام وتطبيع العلاقات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بين العرب وإسرائيل في العقود الأربعة الماضية، مثل تحالف كوبنهاغن الذي تأسس في 1997 بالدانمارك، بمشاركة تسعة مصريين منهم لطفي الخولي ومراد وهبة وعبد المنعم سعيد وعلي الشلقاني.
إلا أن هذا التحالف واجه رفضاً كبيراً من المثقفين واليساريين في مصر وفلسطين، وأجهض الإعلان في القاهرة ببيان وقعه 250 مثقفاً عربياً يدعو إلى تكوين تحالف عربي يواجه التطبيع، وأعلن عن تأسيس جمعية مناهضة للتطبيع، كان أمين ضمن أعضائها، إذ نظر له على أنه صنيعة إسرائيلية تمول بأموال أوروبية لتحقيق الأهداف الصهيوينة من وراء ذلك.
شغلت القضية الفلسطينية ومقاومة التطبيع مع "الكيان الصهيوني" - بحسب المعجم الناصري- وجدان أمين إسكندر طوال سنواته السبعين، فأخلص لها كما أخلص لنشاطه السياسي في الداخل المصري
في هذا الإطار، قدم إسكندر قراءة نقدية فى خطاب التطبيع، من بينها نقد تحالف كوبنهاغن، وكتب عشرات المقالات ضمن أعمال الحركة الشعبية لمقاومة الصهيونية ومقاطعة إسرائيل، إذ يعتبر أن التطبيع الثقافي بقي عند الاسرائيليين هو الغاية الأهم إذ يتم إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية للشعب العربي المصري لصالح قبول الصهيوني وأيديولوجيته.
في هذا السياق، نعى المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رحيل إسكندر، لدوره الكبير في الدفاع عن القضية الفلسطينية، قائلاً: "تخسر فلسطين؛ أحد المكافحين الكبار عنها وعن حريتها وحرية شعبها وحقوقه، وتخسر مصر العروبة؛ أحد مناضليها الكبار في سبيل تأكيد عروبتها ودورها القومي، وتخسر أمتنا العربية أحد أبرز المدافعين عن حريتها وحقوقها وثرواتها ووحدتها؛ في وجه الأنظمة التابعة والخائنة لحساب المشروع الأمريكي – الصهيوني الإمبريالي”.
"إسكندر لعب دوراً كبيراً في مقاومة التطبيع، حيث كانت محاضراته الرئيسية في الأحزاب الناصرية تتمحور حول الصراع العربي الإسرائيلي وكشف مخطط كوبنهاغن وتأثير اتفاقية كامب ديفيد على مصر والشرق الأوسط"، بحسب قول تامر هنداوي، أحد قيادات جيل الوسط بحزب الكرامة.
ويلفت هنداوي في حديثه لرصيف22 إلى أن أكثر ما يميز إسكندر في رحلته فضلاً عن كونه أول وكيل مؤسس مسيحي في تاريخ مصر، أنه من القلائل الذين حملوا راية الفكر والوعي كونه مسؤولاً عن التثقيف في الأحزاب الناصرية، لأنه كان مهموما بالكتابة والتوثيق للحركة القومية، ما يجعله مختلفاً عن القيادات الناصرية الأخرى.
بصمة إسكندر
ترك إسكندر بصمته على أجيال مختلفة انخرطت في الأحزاب الناصرية، من بينهم الكاتب والسياسي الناصري طارق سعيد، المتحدث السابق باسم حزب الكرامة، مؤكدا أن الراحل كان له تأثير عظيم فى بناء جيله فكرياً، وكان كذلك من أهم المعلمين لجيل سعيد والأجيال اللاحقة.
"أتذكر وأنا شاب صغير حديث التخرج من الجامعة أن الأستاذ أمين اختارتي لكي أتخصص فى الصراع العربي الصهيوني وكامب ديفيد وبدأ بإمدادي بالعديد من الكتب في هذا الموضوع وقمنا بجولات في عدد كبير من المحافظات نناقش الناس، أنا حقاً محظوظ لأنني تعلمت على يد قامة كبيرة لن تعوض مثل الأستاذ أمين اسكندر المعلم الأول لجيلنا" يتحدث سعيد لرصيف 22 عن مدى تأثير إسكندر في أجيال متعاقبة بالتيار الناصري.
يشير سعيد في حديثه إلى أن إسكندر كان يحظى بشعبية كبيرة ومحبة خاصة لدى التيار الناصري من كل الأجيال لأنه كان عابرا للخلافات، يجمع ولا يفرق يقابل خلافك معه بسعه صدر، بجانب تاريخه السياسي والنضالي.
برأي طارق سعيد، فإن أمين إسكندر كان من القلائل الذين جمعوا بين التنظير الفكري والقيادة السياسية، وهو مزيج قلما اجتمع فى شخص، لذا لا نستطيع أن نصنفه كمفكر لإسهاماته في توثيق نشاط الحركة القومية دون أن يقترن بها صفة القائد السياسي لدوره البارز في تأسيس حزب الكرامة، وكذا المهام التنظيمية التي أوكلت له في الحزب ومن قبها الحزب الناصري، كما كان مؤسسا للعديد من الحركات السياسية مثل كفاية والحركة الوطنية للتغيير واللجنة الشعبية لمقاومة الصهيونية.
"تفتق وعينا الباكر على النكسة، وواجهنا في صدر شبابنا بالصدر العاري الارتداد على الثورة، كان هو في الطليعة، ابن بار لجمال عبد الناصر، وقائد كبير من القادة الذين حملوا بنوة عبد الناصر بالفكر" هكذا رثى الكاتب الناصري محمد حماد رحيل رفيق رحلته أمين إسكندر.
يقول حماد إن اسكندر لطالما أحزنه كثيرًا حال الوطن بامتداده من المحيط إلى الخليج، وانتصر في رحلته دائمًا لقضية الوعي، وعمل طويلًا من أجل الانعتاق من وهدة التخلف والتبعية والظلم والاستبداد.
المحطات الأخيرة
رغم القيود التي حاصرت العمل السياسي بكافة أشكاله في مصر خلال السنوات الأخيرة، فإن الراحل لم يبرح موقعه على يسار السلطة، وظل مشتبكاً ومتمسكاً بخطابه النقدي اللاذع للسلطة في قضايا العدالة الاجتماعية والحريات، فكما يقول تامر هنداوي لم يفرط إسكندر في أفكاره ولم يختبئ في معاركه السياسية والنضالية حتى مماته.
السنوات الأخيرة شهدت نشاطاً لإكسندر على مستوى الكتابة، فصدر له في 2016 آخر كتبه المنشورة "التنظيم السري لعبدالناصر"، عن طليعة الاشتراكيين الذي احتوى على جميع أوراق الطليعة من اللائحة والنشرات ودراسات تثقيفية وشهادات من الأعضاء، وكذلك موقف التنظيم من بعض القضايا مثل الوحدة والانفصال وحركة الإخوان المسلمين، فيما طال المنع كتابه"صفر الرئيس"، وهو كتاب يحتوي على مقالات تنتقد الأوضاع السياسية والاقتصادية، بينما لا يزال كتابه الأخير "كسارة البندق" يروى فيه ما فعلته كامب ديفيد من قيود لإضعاف لمصر، لم يبصر النور حتى الآن.
اللافت أن إسكندر نوه من قبل بأنه "لم يجن مليماً" من وراء مؤلفاته، بل كان يدفع مقابل النشر والمراجعة، لإيمانه بدوره في حركة جاءت تعبيراً عن أفكاره السياسية وأحلامه في تغيير الأوضاع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...