شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
أصرّ الطبيب على فتح محضر ضدي قبل تقطيب طفلي... أمهات أم متهمات؟

أصرّ الطبيب على فتح محضر ضدي قبل تقطيب طفلي... أمهات أم متهمات؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

في أكتوبر من العام 2017، كان طفلي الصغير يصارع الموت وحيداً داخل حاضنة بوحدة رعاية الخدّج في المستشفى، قرابة الشهر، قبل أن يتماثل للشفاء بأعجوبة ويُسمح لنا بأخذه إلى المنزل.

ولأن شيئاً لم يسر كما كنا نخطط، بسبب الحالة الصحية الحرجة التي وُلد بها صغيري وأصابتنا بالهمّ والحزن، وكون احتمالات نجاته قليلة، لم يقم والده وقتها باستخراج شهادة ميلاد، فقد كان كل ما يشغلنا وقتها سلامته وتوفير ما يحتاجه من أدوية ونفقات للمستشفى.

بعدما استقرّت الحالة، أخذت مولودي في زيارة لأهلي الذين أرادوا الاحتفاء به، ولأنه لم يحصل على أي لقاحات أو البطاقة الصحية التي تُمنح للمواليد، ذهبت مع والدتي إلى أقرب مكتب للصحّة لأقوم باستخراج شهادة ميلاد لطفلي، ومعي قسيمة الزواج الرسمي، ولكن هناك كانت المفاجأة!

أخبرتني الموظفة الحكومية، بلهجة لا تخلو من الامتعاض والرتابة، أنه ليس بإمكاني كأم استخراج شهادة ميلاد، وأن الأب، أو أي شخص من أسرته كالجد والجدة والعم والعمة، يمكنهم فقط تسجيل المولود!

في الواقع تلقيت ردها كمن تلقى لتوّه في وجهه سطل ماء بارد: كيف أحمل في بطني طفلاً تسعة أشهر ثم يشقون بطني بحجم شبر لاستخراجه، بعدها تقول لي السلطات: من تكونين لتحصلي على شهادة ميلاد لطفلك، وأن أهل زوجك أوثق صلة بأطفالك منكِ شخصياً؟!

لحسن الحظ كان زوجي موجوداً واستطاع تسجيل الطفل فيما بعد، ماراً بسلسلة إجراءات عقيمة وبيروقراطية، اعتبروا خلالها المولود "ساقط قيد"، لكن ماذا تفعل الزوجة لو كان الأب مسافراً أو متوفياً، وكانت هناك خلافات كبيرة مع عائلته؟ هل تضطرّ الأم المتزوجة بزواج رسمي أن تقف أمام القضاء محاولة إثبات نسب طفلها، وأن يعامل الطفل كاللقيط "كريم النسب"؟!

تأخرت في تسجيل طفلي، فأخبرتني الموظفة الحكومية، بلهجة لا تخلو من الامتعاض والرتابة، أنه ليس بإمكاني كأم استخراج شهادة ميلاد، وأن الأب، أو أي شخص من أسرته كالجد والجدة والعم والعمة، يمكنهم فقط تسجيل المولود

الأم بلا أي صفة في حياة أولادها

ينصّ قانون الطفل رقم 126 لسنة 2008، وبالتحديد المادة 15، على أن الأشخاص المكلّفين بالتبليغ عن الولادة هم: والد الطفل إذا كان حاضراً، الجدّ للأب والجدّة للأب والعم الشقيق والعمة الشقيقة، والدة الطفل، شريطة إثبات العلاقة الزوجية على النحو الذي تبينه اللائحة التنفيذية ومـديرو المستشـفيات والمؤسسـات العقابيـة، ودور الحجـر الصـحي، وغيرهـا مـن الأمـاكن التـي تقـع فيهـا الولادات.

ونعاني نحن النساء في مصر من تبعات قانون الوصاية المعمول به منذ 75 سنة، والذي يجعل الأم بلا أي صفة في حياة أولادها، فهي لا تستطيع تسجيل الطفل المولود أو استخراج شهادة ميلاد له أو جواز سفر أو قيد عائلي، ولا يمكنها تقديم أوراق الطفل في مدرسة أو نقله من مدرسته، أو الإشراف على أموال أولادها في البنك، أو السفر بأولادها دون موافقة الأب أو الجد.

ومنذ رمضان الماضي، علت أصوات نسائية تطالب بتعديل قانون الوصاية في مصر، تزامناً مع عرض المسلسل التلفزيوني "تحت الوصاية".

والمفارقة العجيبة لدى المشرع المصري هو أنه يحمّل الأم مسؤولية أي مكروه يقع لطفلها، وفي الوقت نفسه يسلبها أي صلاحية رسمية متعلقة بالوصاية عليه، أو يجعل للذكور من عصب الأب أسبقية عليها.

لماذا يتعاملون معنا نحن أمهات مصر كأشخاص فاقدي الأهلية فيما يتعلق بمصلحة أطفالنا، ثم يحاسبوننا إذا تعرّضوا للأذى؟!

وحدها الأم تتحمل مسؤولية الكوارث

لم يكن طفلي الرضيع قد أتم عامه الأول بعد حتى وقع له حادث مؤسف. في عصر يوم اعتيادي، كنت أنجز بصعوبة الأعمال المنزلية الروتينية وسط المهام التي أؤديها كأم لطفلين، أحدهما الرضيع والثاني لم يتجاوز عامين ونصف، وبعد انتهاء دوام عملي الممتد لثماني ساعات أقضيها خلف شاشة الكمبيوتر، بينما أرعى الطفلين في الوقت نفسه.

لا زلت أذكر التفاصيل المؤلمة وكأن الحادث وقع بالأمس: بينما أنهمك في غسل الصحون والأواني وإعداد طعام الغداء، ومن داخل مطبخي المكشوف، كنت أراقب صغيري من حين لآخر، وهو يجلس بداخل عربة الأطفال أمام شاشة التلفزيون يشاهد الرسوم المتحركة، على مسافة تبعد عني نحو ثلاثة أمتار.

ولكن خلال ثوانٍ معدودة كلمح البصر، رأيت عربة الأطفال تنقلب رأساً على عقب رغم ثقل وزنها وتفعيل فرامل الأمان للعجلات الخلفية. أسرعت الخطى فزعة، وقبل أن أصل إليه، كان طفلي واقعاً على الأرض، غارقاً في بركة دم، بعدما تعلّق بالمقبض الأمامي للعربة، فاختلّ توازنها وارتطم ذقنه بالمقبض المعدني.

تلك اللحظات مرّت كدهر. تجمّد جسدي واعترته برودة بفعل الخوف والصدمة، فلم أكن حتى قادرة على حمله عن الأرض، حتى حمله أبوه محاولاً إسعافه وإيقاف نزيف الدم المتدفّق، وأنا لا أزال مصدومة غير قادرة على استيعاب ما حدث أو معرفة كيفية التصرف في مثل ذلك الموقف، وخلال دقائق قليلة، كان زوجي يحمل طفلنا الأصغر إلى مستشفى خاص قريب من منزلنا.

طفل رضيع وجهه ينزف دماً بغزارة، والطاقم الطبي يرفض إسعافه وتقطيب جروحه قبل تحرير محضر ضد الأم! وحدها الأم متهمة بالإهمال ووحدها تتحمل مسؤولية الكوارث، هكذا حالنا نحن الأمهات في نظر القانون.

وبعد جدال طويل وإصرار زوجي على أن الحادث وقع وأنا غائبة عن البيت، وأنه انشغل عنه أثناء تأدية عمله، وافق الطبيب ممتعضاً على أن يُقطب جرح صغيري.

تعاني النساء في مصر من تبعات قانون الوصاية والذي يجعل الأم بلا أي صفة في حياة أولادها، فهي لا تستطيع تسجيل الطفل المولود أو استخراج شهادة ميلاد له أو جواز سفر أو قيد عائلي، موافقة الأب أو الجد

القبض على الأم بتهمة الإهمال

كان القدر رحيماً بي حين اقتصر الأمر على ندبة في ذقن طفلي وذكرى مرعبة لنا كأسرة، فهناك أمهات واجهن السجن بجانب مرارة فقد أطفالهن.

قبل أعوام، حدثتني أمي عن سيدة كانت تسكن في حينا السكني، اصطحبت ابنها الأكبر إلى الحضانة وتركت شقيقه الأصغر رفقه أبيه في البيت، لكنه تركه وحيداً قاصداً الذهاب إلى عمله، ووقع ما لم يدر بحسبانه، فالطفل صعد على كرسي ونظر من النافذة باحثاً عن أبويه، فاختل توازنه وسقط أرضاً بالشارع، ليفارق الحياة، ويتمّ إلقاء القبض على الأم بتهمة الإهمال، رغم كون الأب هو من أخطأ التصرف وترك الطفل بمفرده.

وبمطالعة عناوين الأخبار على شبكة الإنترنت، ستجد عشرات الأخبار عن إلقاء القبض على أمّهات بتهمة الإهمال، بعد تعرّض أطفالهن لحوادث أو جرائم تتراوح بين القتل والتعذيب وهتك العرض على يد أحد الأقارب. سنجد أماً سُجنت بعدما قتل طفلها أخته بالخطأ، وأخرى بعدما هتك زوجها عرض أطفالها أثناء غيابها عن البيت، وألقي القبض على أمّ سقطت طفلتها من مكان مرتفع، وتعرّضت للتحقيق قبل أن يخلى سبيلها، وقُبض على أمّ لأن ابنتها المراهقة حملت من ابن الجيران!

ويعتبر إهمال الطفل جنحة في نظر القانون، والذي لم يحمّل المسؤولية صراحة للأم بنص قانوني، إلاّ أن المستشفيات والسلطات التنفيذية غالباً ما تجعل الأم وحدها في مرمى نيران الاتهامات، دون مراعاة للحالة النفسية التي تمرّ بها نتيجة ما جرى لطفلها، واحتياج الطفل المصاب لحضن أمه، واحتياج الأبناء لأمهم، حال تعرّض شقيق أو شقيقة لهم للوفاة إثر حادث أليم.

وينصّ قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996، والمعدّل بالقانون 126 لسنة 2008، في مادته الثامنة، على معاقبة كل من يرتكب انتهاكاً بحق طفل، بالحبس من 6 أشهر وحتى 3 سنوات، بغرامة لا تقل عن ألفي جنيه ولا تتجاوز خمسة آلاف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين .

وفي تقديري الشخصي، لا يمكن لأي أم سوية أن تهمل أطفالها متعمّدة تسبب الأذى لهم، فنحن الأمهات نفني أعمارنا ونمنح حبنا وصحتنا وكل ما نملك من غالٍ ونفيس لأجل أبنائنا، ولكن الظروف الاقتصادية والاجتماعية تُجبر بعض الأمهات على ترك أطفالهن بمفردهم في البيت، ما يعرّضهم للخطر، أما حوادث السقوط والجروح فهي أقدار تحدث رغماً عنا ونحاول جاهدات تفاديها، وتبقى الحالات دون ذلك استثناءات تشذّ عن القاعدة.

وفي النهاية يبقى السؤال: لماذا يتعاملون معنا نحن أمهات مصر كأشخاص فاقدي الأهلية فيما يتعلق بمصلحة أطفالنا، ثم يحاسبوننا إذا تعرّضوا للأذى؟!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

خُلقنا لنعيش أحراراً

هل تحوّلت حياتنا من مساحةٍ نعيش فيها براحتنا، بعيداً عن أعين المتطفلين والمُنَصّبين أوصياء علينا، إلى قالبٍ اجتماعي يزجّ بنا في مسرحية العيش المُفبرك؟

يبدو أنّنا بحاجةٍ ماسّة إلى انقلاب عاطفي وفكري في مجتمعنا! حان الوقت ليعيش الناس بحريّةٍ أكبر، فكيف يمكننا مساعدتهم في رصيف22، في استكشاف طرائق جديدة للحياة تعكس حقيقتهم من دون قيود المجتمع؟

Website by WhiteBeard
Popup Image