حين رأيت كردفاني يطأ على السجادة الحمراء في مهرجان كان السينمائي متوجهاً إلى منصة المهرجان العالمي الكبير في نسخته الـ76، لتقديم فيلمه السوداني الأول "وداعاً جوليا"، غمرني شعور طاغٍ بالفرح لمأساوية اللحظة السودانية التي نعيشها وحساسيتها.
اندلعت الحرب العبثية بين الجنرالات وأمراء الحرب التي طوتنا في غفلة وبسرعة، وأغرقتنا في ظلام دامٍ ودامس. نجوت وأسرتي من شظايا المقذوفات العنيفة التي سقطت على البيت بعد اشتباك عنيف ومفاجئ لم يتحضر له أحد في منطقتنا، وبكل أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة. استمر حصارنا لعشرين ساعةً في يوم الحرب الأول، تحت ضجيج السلاح ورائحة البارود، وخسرنا جراء المعركة جارتنا حياة "المعلمة بالمعاش"، وعبد الله صاحب الطاحونة، وطفل بريء آخر، وبين لحظة وأخرى تحولت حياتنا إلى شيء غير مفهوم، وبدا مصير البلاد كلها يلفّه الغموض واستعد الجميع للمغادرة والنزوح إلى مناطق آمنة: إنها الحرب إذاً.
في الوقت الذي يتجول فيه فيلم "وداعاً جوليا" في سينمات باريس، تدكّ المدفعية الثقيلة البنايات في الخرطوم، وتصعد أرواح فنانين سودانيين
إطلالة وسط الخراب
وسط هذا الجنون والدمار والقتل ودوي المدافع والطائرات والنهب والعصابات، صعد إلى قاعة "ديبي سي" في مهرجان "كان" السينمائي الدولي في فرنسا، أبطال فيلم "وداعاً جوليا" لأول مرة، والذي عُرض في إطار مسابقة "نظرة ما"، أهم مسابقات المهرجان، ومشى المخرج السوداني الشاب محمد الكردفاني على البساط الأحمر، والتقطت التلفزة التي كانت محمومةً بنقل أخبار الحرب والترويع، صورته وهو يخاطب السودانيين والعالم: "إنه لشرف عظيم لي وأشعر بسعادة غامرة لأن الفيلم وصل إلى 'كان'، فهذا يمثّل مكافأةً كبيرةً لكل الطاقم والممثلين، وأنا واحد منهم، لكن في الوقت نفسه، أشعر بالحزن، فأنا أمشي على السجادة الحمراء بينما يفرّ الناس من الرصاص والقصف؛ آمل أن نتمكن من تشكيل هوية وطنية جديدة تفخر بالقيم التي تجمع الناس مثل الحرية والعدالة والتعايش".
مثّل ذلك بارقة أمل التقطها السودانيون واحتفوا بها مع أصدقائهم وصفّقوا لها طويلاً، وتزامن الحدث مع الأسبوع الذي استبيحت فيه الخرطوم ومدن أخرى من قبل قوات الدعم السريع التي وصفها الجيش بالمتمردة؛ نهب واحتلال لبيوت المدنيين وحرق للأسواق والبنايات، فزع وهول وذهول، اختطاف قسري مسلح، ودفن للضحايا داخل البيوت المحاصرة. يعلّق كردفاني: "في هذا التوقيت المرعب كنا بين خيارين، إما نلغي ذهابنا إلى المهرجان أو نذهب ونبرز صورةً أخرى للسودان، غير صورة الحرب والموت والدمار".
ينتاب الكاتب سندويس كودي، خليط من المشاعر، بين الفرح والحسرة. يقول لرصيف22: "السودان المليء بالمبدعين الفنانين الذين يصارعون، بقليل من الإمكانيات، لتحويل المآسي المتكررة إلى صور فنية باهية تبعث مزيداً من الأمل بالحب والسلام والحياة، هو نفسه السودان الذي يتصارع أبناؤه، بكل إمكانات الدولة، على بقايا سلطة. صراع هدر إنساني يقضي على قليل الآمال التي تبقت". ويرى كودي أن توقيت عرض جوليا في محفل "كان" العالمي، انتصار كبير للفن والحياة والإبداع. يضيف: "زهرة وسط أكوام خراب مهما بدت صغيرةً فهي تبعث أملاً كثيراً".
حوار جنوبي سوداني مفتوح
تنهض فكرة فيلم "وداعاً جوليا" على ثيمة الانفصال، انفصال الوطن، الأسرة والعلاقات الاجتماعية الأخرى ويحكي قصة مطربة سودانية، متزوجة من رجل سوداني ثري تستضيف سيدةً تنحدر من جنوب السودان، في محاولة لتخفيف وطأة تأنيب الضمير بعد انفصال الجنوب. وفي ذلك يرى الكاتب والناقد إيدي أقويت، وهو من جنوب السودان، اختراقاً في تناول تشابكات العلاقات بين الجنوب والشمال بشكل مختلف، ضمن فترة عصيبة وشائكة في تاريخ السودان مثل الفترة التي أعقبت وفاة جون قرنق، وأحداث العنف الناتجة عنها، وهي فترة يظل البحث والتنقيب فيها أشبه بالسير في حقل الألغام، بسبب حساسيات يوم "الإثنين الأسود"، كما اصطُلح على تسميتها في الصحافة السودانية حينها.
يقول أقويت لرصيف22: "للجنوبيين محاذير كثيرة، واقعية ومتخيلة في تناول الشمال السوداني للعلاقة بين الشعبين في الأعمال الفنية، وما الجدل الذي أعقب عرض فيلم 'بروق الحنين'، والتخوين الذي طال أبطالها الجنوبيين وتهم العنصرية لمنتج الفيلم سوى بعض تمظهرات هذه التعقيدات، وقد نجح الكردفاني في إنتاج عمل جاد، من دون خوف من أي محاذير أو وقوع في فخ التنميطات كما فعل الآخرون، وهذا ما يبرر الاحتفاء الكبير بالعمل في أوساط أبناء جنوب السودان على الميديا".
ويضيف: "ما يميز 'وداعاً جوليا'، هو وعي محمد الكردفاني بطبيعة هذه الاختلالات وحرصه على تفادي إنتاج عمل سطحي". ويرى أقويت أن الفيلم مناقشة مختلفة نفتقدها في السودان الكبير، وقف فيه الكردفاني على مسافة تسمح له بنقد الواقع بكل جرأة، وعدم الانفصال عنه في الآن نفسه.
ويضيف: "توقيت عرض الفيلم في مهرجان كان استثنائي أيضاً، وأؤمن بأنه استحق جائزة الحرية عن جدارة، فالعمل لا يعاند السرديات السائدة فقط، بل يفتح طريقاً لإعادة الحوار حول ماضي الجنوبيين والشماليين بشكل جاد، والتفكر في مستقبل السودان في هذه اللحظات العصبية في تاريخه والتمسك بمسار الثورة السودانية نحو حكومة مدنية وديمقراطية تحفظ ما تبقى من البلاد من الانقسام والتشرذم".
تنهض فكرة فيلم "وداعاً جوليا" على ثيمة الانفصال، انفصال الوطن، الأسرة والعلاقات الاجتماعية الأخرى في السودان
دفع معنوي سينمائي
في الوقت الذي يتجول فيه الفيلم في سينمات باريس، تدكّ المدفعية الثقيلة البنايات في الخرطوم وتستباح مدن الجنينة وزالنجي، وتصعد أرواح فنانين سودانيين، ينقطع المد الكهربائي ونفقد خدمات الإنترنت لأيام، ومع ذلك فإن الدفعة المعنوية التي يمكن أن تقدّمها مشاركة الفيلم في "كان" وفوزه، لن تنحصر فقط في المهتمين بالسينما والثقافة والفنون، مثلما يرى الكاتب والسينمائي السوداني ياسر فائز، بل يمكن أن تمتد إلى عموم السودانيين، في هذا الوضع الظلامي والأشد مأساويةً في تاريخ السودان المعاصر.
يقول فائز لرصيف22: "في الوقت الذي يفقد السودانيون فيه كل شيء تقريباً، حتى بطاقات إثبات الشخصية، فإن فوز الفيلم ربما يمنح الثقة بحقل الإنتاج السينمائي في السودان، على ضيقه ومحدوديته، خاصةً أن هذا الفوز يأتي بعد جوائز متلاحقة لأفلام مثل 'ستموت في العشرين'، 'الحديث عن الأشجار'، و'الست' وغيرها، إلى جانب مشاريع أفلام أخرى قادمة". ويضيف: "كان من الطبيعي أن يعزز هذا الفوز من فرص الإنتاج السينمائي المحترف في السودان، والتي تصبح شبه مستحيلة الآن بسبب وضع الحرب ومآلاتها، وما تسببه من عدم استقرار ومآسٍ إنسانية، وفي هذه المقابلة فإن الفرصة موجودة لكن السودان مفتقَد، والفوز نفسه يمنح دافعاً أكبر لأن يجد السينمائيون وصنّاع الأفلام السودانيون، حلولاً مبتكرةً وبديلةً لمواصلة الإنتاج السينمائي، إذ سيصبح من غير المنطقي أن ينتظر المبدعون الذي صنعوا الفيلم وغيرهم من السينمائيين السودانيين استقرار الأوضاع في السودان، في ظل قتال قوتين عسكريتين غير مسؤوليتين". ويرى فائز أن الفيلم بذلك يشكل حافزاً لاستمرار الإنتاج السينمائي والإبداعي عموماً، ولنقل من السودان، بوصفه سودانياً، بدلاً من أن نقول في السودان بحكم أن عملية الإنتاج نفسها تتم داخل السودان. يقول: "إذا ما تحقق ذلك، أي استمرار الإنتاج وفقاً لحلول بديلة أو عبر التحايل على وضع الحرب في السودان، فإن الإنتاج السينمائي والفني في السودان سيكون هو السودان نفسه كفعل حضاري وكإنتاج إنساني يمكن له أن يعبّر عن كثير من السودان ككيان في ظل افتقاد الأرض والوطن".
الفيلم الذي حصد جائزة الحرية عن استحقاق، من إنتاج أمجد أبو العلا، وجسّد الأدوار الرئيسية فيه كل من الممثلة المسرحية والمغنّية إيمان يوسف، والممثل السوداني نزار جمعة، والممثلة وعارضة الأزياء الجنوب سودانية سيران رياك، وأكد في ظهوره زمن الحرب الشرسة أن السودان لا يموت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...