شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
في السينما والحياة... عن إرادة المرأة وشيء من ازدواجية المثقفين

في السينما والحياة... عن إرادة المرأة وشيء من ازدواجية المثقفين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 8 ديسمبر 202201:54 م

في صفحة مستقلة من أجندة التليفونات الورقية، كتبتُ رقم صفاء الليثي، يليه تعريف "مونتيرة". في الصفحة السابقة أرقام هواتف من تبدأ أسماؤهم بحرف الصاد: صنع الله إبراهيم، صبري موسى، صالح مرسي، صبري حافظ، صلاح الراوي، صلاح رزق، وآخرون منهم العقيد صبري حنفي، وبجواره هذا التعريف: "جنّ وعفاريت". عقيد؟ لا أتذكره. متى وأين؟ ربما قرأ كفي في الإسكندرية. واحتلت صفاء الليثي صفحة مستقلة، بعد لقائنا الأول بحضور فاروق عبد القادر، في قهوة سوق الحميدية، ربيع 1998. ليلتها، سارعتْ إلى نفي علاقتها بإمبراطور الإنتاج الدرامي، "الليثي"، المصري الوحيد الذي صدر ضدّه حكم قضائي بأنه "قوّاد". قالت إن الليثي أبوها، وليس لقب العائلة.

المونتيرة تكلمت عن الأفلام، خصوصاً أعمال المخرجين الشبان. نبهتني إلى فيلم روائي قصير عنوانه "طيري يا طيارة" للمخرجة هالة خليل. شاهدته وأعجبني، ونسيت اسم البطلة التي تخطو نحو المراهقة، وسألتُ عن الممثل القائم بدور أبيها. ونسيتُ اسمه، ولم يغادرني أداؤه. كررتُ السؤال عن اسمه، فأجابت: خالد صالح. وفي وقت لاحق رشحتُ الفيلم للصديق إيهاب دكروري في القناة السابعة بمدينة المنيا، فعرضه واستضاف صفاء الليثي للتعليق عليه. من حماستها للفيلم، اقترحتُ عليها أن تكتب عنه. قالت إنها لا تكتب. لم تجرب الكتابة. قلت: "اكتبي كما تتكلمي، بالروح نفسها، والباقي علينا". وكنت عضواً في هيئة تحرير مجلة "سطور". ثم سلمتني مقالها الأول.

القيم الاجتماعية كما تعكسها أفلامنا

نشر مقال "قراءة في كفّ سينما الشباب" في كانون الأول/ديسمبر 1988 بمجلة "سطور". كلّ "أول" لا ينسى. ما بعد أيّ "أول" تفاصيل. الكتابات الأولى، بالنسبة إلى مونتيرة لم تفكر في الكتابة، هي حدث، إعادة اكتشاف للذات، جسر إلى عالم جديد، شهادة ميلاد تؤكد الجدارة بخوض مجال سيغنيها عن مهنة مارستها نحو عشرين سنة. ليس لتلك الواقعة، ولا لذلك المقال، ذكرٌ في كتاب "تساؤلات في السينما والحياة". كتاب في المحبة، تصفّي صفاء الليثي حسابها مع الحياة: تخلّيها عن حلم دراسة الفيزياء الذرية، دراسة المونتاج، القيام بمونتاج أفلام قصيرة وفيلمين طويلين وثالث لم ينسب إليها، لأنها رفضت كتابة اسم زوجها مشرفاً على المونتاج.

كتاب "تساؤلات في السينما والحياة"

لا مكان للكلام الكبير في كتاب "تساؤلات في السينما والحياة". وتمنيت أن يكون العنوان أكثر بساطة، ويتخلى عن تفاصح لا تحبه صفاء الليثي التي تكتب كما تتكلم، بالعفوية نفسها تقريباً. ليتها استغنت عن "تساؤلات"، لأنها لا تتساءل. هي تروي قصتها مع الحياة ومع السينما، حتى إن السينما تكون حياة، والحياة أحياناً تمضي كشريط سينمائي. والأكثر صدقاً ودقةً وبساطة أن يكون عنوان الكتاب "في السينما والحياة". وقبله مباشرة قرأتُ كتابها "رحمة منتصر... الأستاذة"، وقد صدر بمناسبة تكريم الدكتورة رحمة منتصر في المهرجان القومي الرابع والعشرين للسينما المصرية (أيار/مايو 2022). أحبُّ رحمة، وكتبتُ عنها دراسة عام 2020، ضمتها صفاء إلى الكتاب، مجاناً!

"نستحق أن نؤرخ لحياتنا دون أن نكون عباقرة أو طغاة. فقط لأننا عشنا على هذه الدنيا وحاولنا أن تكون لحياتنا معنى"

قابلت رحمة منتصر، وهنأتها بالتكريم وبالكتاب الذي يسجل مسيرتها المشرّفة، أستاذة للمونتاج بمعهد السينما، ومونتيرة لأعمال في ذاكرة السينما التسجيلية والروائية. يثبت الكتاب أهمية أن يكتب كاتب عن آخر في التخصص نفسه. هنا مونتيرة تكتب عن مونتيرة. تفاعُل جيلين جمعهما المعهد نفسه، أستاذة وطالبة. لكن كتاباً عن المونتيرة رحمة منتصر ألفته المونتيرة صفاء الليثي تنقصه دقة المونتاج، بمعنى دقة "التوليف"، وتناسق القطع بين فصل وآخر، فلا يختلط كلام رحمة بكلام صفاء. في كتاب "تساؤلات في السينما والحياة" تقول صفاء إن المونتير مخرج ثان للفيلم، يعيد ترتيب المشاهد، وتقطيع لقطات المشهد الواحد، "ويحذف كلّ ما يعيق سرده أو يشوش على رسالته".

مقال صفاء الليثي

كتاب رحمة منتصر يحتاج إلى "مونتير" يحذف المكرر، وينسق المادة، ويضبط نهايات الفصول، ويفصل تصريحات رحمة عن مقالات منشورة للمؤلفة، ولا داعي لإثبات توقيعها في كتاب من تأليفها. والكتاب يعلي من شأن احترام الإنسان لذاته، ألا يكون حِرَفياً آلياً، وإنما يؤمن بما يعمل. تقول رحمة: "عندما لا أحب المادة المصورة قد أعتذر عنها، خوفي من أن أوضع محل نقد من طلبتي جعلني أحرص على مستوى شغل جيد". كما يضيء الكتاب البعد الإنساني والعملي لدى سينمائيين منهم المخرج شادي عبد السلام، أستاذ رحمة التي قامت أيضاً بمونتاج أفلام آخرين، أحدهم سمير عوف في أفلام منها "مسافر إلى الشمال، مسافر إلى الجنوب".

هنا مونتيرة تكتب عن مونتيرة. تفاعُل جيلين جمعهما المعهد نفسه، أستاذة وطالبة. لكن كتاباً عن المونتيرة رحمة منتصر ألفته المونتيرة صفاء الليثي تنقصه دقة المونتاج، بمعنى دقة "التوليف

تقول رحمة إن شادي عبد السلام "كان يغار حين يجدني مركزة في عملي مع سمير عوف"، وهو أحد تلاميذ شادي. أما المونتير أحمد متولي فتقول عنه رحمة: "شغله عنيف ويقهر المخرجين ويقلب الفيلم لعلمه الجيد بالدراما... قد يصله فيلم ما فيغير من تَتابعِه، ويأتي بنهايته إلى البداية، قوي جداً في لمساته، ويحذف ما ليس له لزوم بجرأة فنية". ولأحمد متولي مساحة مهنية وإنسانية، بحكم التعاون المهني والزواج من صفاء الليثي، في كتاب "تساؤلات في السينما والحياة"، الصادر عن روافد للنشر والتوزيع بالقاهرة، تقديم ومراجعة: أحمد غريب الذي وصف الكتاب بأنه عين ترصد "بصيغة تحمل مذاق الحقيقة. ولغة سهلة مثل الصورة".

في مقدمة "تساؤلات في السينما والحياة" تقول المؤلفة: "نستحق أن نؤرخ لحياتنا دون أن نكون عباقرة أو طغاة. فقط لأننا عشنا على هذه الدنيا وحاولنا أن تكون لحياتنا معنى". جملة دالة، فنحن نصنع المعنى، والمعنى قد يرمز إلى بطولة، والتحولات عنوان إرادة، وهذا كتاب تحولات وانتصارات شخصية صغيرة عميقة. مسار تعددت محطاته، وكلما بدا تململ في محطة انتصرت إرادة امرأة قررت أن تكون، أن تحكي بالدراما تحولات المجتمع، وتناقضات مثقفين لا تغنيهم الكتابة وحدها؛ فيبحثون عما وراءها. قرأ صنع الله إبراهيم بعض قصصها القصيرة، وأبدى ملاحظات، "ولكنه اتفق مع الناقد فاروق عبد القادر في سؤال: هي الحاجات دي حصلت لك؟".

تعلق صفاء الليثي: "صُعقتُ، هكذا يتعامل الرجال مع ما تكتبه النساء! لا يهم المستوى، المهم التفتيش فيما خلف الكتابة، هل هي تجارب مررت بها فعلاً. السؤال جعلني أضع الكتابات في الدرج كما لو كانت كارثة تنذر بالفضيحة". انصرفت عن القصص زمنا، هي تغتني بالاستغناء. وكتبت سيناريو فيلم، وعرضته على مخرجين ومنتجين، وتفاوتت الحماسة والردود. وقدمت السيناريو إلى التلفزيون المصري، فجاء تقرير الرقابة: "نأسف للرفض"، بعد سؤال: "أين نصر أكتوبر العظيم؟". ولم تشعر بضغينة. السيناريو نزوة عارضة، استمتعت بكتابته، وانصرفت عنه: "هناك آلاف غيري كانت لديهم مشروعات لم تتحقق، بعضها كان من الممكن أن يكون جيداً أو ممتازاً ولكن هكذا الحياة".

هي سيدة المصادفات، تترك نفسها لدراما الحياة. هل يعرف المشاهد مسار فيلم يشاهده للمرة الأولى؟ مبكراً قرأتْ عن ماري كوري، فاستهوتها دراسة الفيزياء الذرية. ثم أغرتها مشاهدة الأفلام، ودراسة أخيها الفنان التشكيلي فخري الليثي حجاج للسينما، فالتحقت بمعهد السينما. وكان الطلبة يعتبرون المخرج حسن الإمام "عاراً على السينما، وكم كنا مخطئين". أثناء الدراسة عملت مساعدة لأحمد متولي الذي سيتزوجها. اختلط حب المونتاج "بحبّ معلم المهنة أحمد متولي".

كتاب "القيم الاجتماعية كما تعكسها أفلامنا" لصفاء الليثي سردٌ يتراوح بين همس ونبرات صاخبة. قصة "امرأة وحيدة" استجابت لنصيحة بطلة قصة فرانسواز ساجان: "أنا، هنا، الآن"

عشقت المونتاج بسبب المشهد الأخير من فيلم "أبناء الصمت" إخراج محمد راضي. الفيلم مونتاج عادل منير، ولكنه مرض قبل المشهد الأخير الذي أنجزه متولي، بإيقاع سريع وثري، أشبه بالتصوير الحقيقي لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

انشغال متولي بمونتاج فيلم "ناجي العلي" مصادفة أخرى. كانت صفاء الليثي مساعد مونتير، فأسند إليها محمد راضي مونتاجَ فيلمه "الحجر الداير" (1992). راضي أنتج فيلم "ثلاثة على الطريق" (1993) للمخرج محمد كامل القليوبي، فاختارها وفازت بجائزة أحسن مونتاج من مهرجان دمشق السينمائي. كما قامت بمونتاج فيلم "الهروب من الخانكة" لمحمد راضي: "كانت التترات ستكتب مونتاج صفاء الليثي وفي نفس اللوحة يكتب: أشرف على المونتاج أحمد متولي، رفضتُ هذه الصيغة بشدة واخترتُ أن أُكتب في لوحة بمفردي، مونتير مساعد، وكم كنت مخطئة ولكن كبريائي كان رافضاً لصيغة الإشراف... كنت مخطئة إذ إن قبولي كان سيجعل (الهروب من الخانكة) فيلماً من مونتاجي".

أكملُ الصورة باستعادة المجموعة القصصية "مونولوج"، وقد أجلت صفاء الليثي نشرها عشرين سنة. وأراجع كتابها "القيم الاجتماعية كما تعكسها أفلامنا"، وعنوانه الأدق: "قيم اجتماعية في أفلام مصرية". الكتاب والقصص سردٌ يتراوح بين همس ونبرات صاخبة. قصة "امرأة وحيدة" تلخص سيكولوجيا بطلة القصص. امتلكت قرارها، واستجابت لنصيحة بطلة قصة فرانسواز ساجان: "أنا، هنا، الآن". تتمنى البطلة حالة انفلات، وتحلم برجل، "إله، ولكنه إله حنون وعادل"، وهذا يمنحها السلام والتسامح حتى مع إحدى عشيقات من كان زوجها. تقرر البطلة إنهاء حالة التعايش السلمي مع شريكها، والعودة إلى الذات: "عادت إليّ فرحتي مصحوبة بنزواتي الصغيرة، صوتي العالي، وانفعالاتي الواضحة، وتقلباتي. عدت لنفسي وكفي".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard