كنت أشاهد فيلم "حكاية شادية وأختها سحر"، لأحمد فوزي صالح، وخارج قصر ثقافة الإسماعيلية يتابع غيري فيلماً نشره، على تويتر، المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد أبو زيد. عنوان الفيلم الأول يدل على انتمائه إلى طبقة دنيا يحبها المخرج، وقدّم عنها فيلمين: "جِلد حي" و"ورد مسموم". يحلو لنقاد الأدب ومنظّري الدراما وصف هذا الهامش بالسرديات الصغرى، في مقابل سرديات كبرى تتسلح بالقوة والنفوذ، وتستطيع كتابة تاريخ رسمي يهمل الهامش المنتمي إلى السرديات الصغرى. الفيلم نقل شادية وأختها سحر وبناتهما من حي العمرانية الشعبي في الجيزة، إلى مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، في دورته الرابعة والعشرين (14-20 آذار/ مارس 2023).
تويتر، وغيره من المواقع الإلكترونية، نقل إلى السرديات الصغرى ما يُفترض انتماؤه إلى السرديات الكبرى. مقطع فيديو يستغرق بضع دقائق تكفّل بهذه النقلة الخيالية. وزير الخارجية المصري سامح شكري، اصطحب وزير الخارجية التركي تشاووش أوغلو، في جولة قصيرة. مشوار إلى جدار في مبنى وزارة الخارجية المصرية، عُلّقت عليه صور رؤساء مصر منذ إعلان الجمهورية عام 1953، وحتى الآن. ست صور بالترتيب: محمد نجيب، جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك، عدلي منصور، عبد الفتاح السيسي. قرأنا في كتب التاريخ المدرسي، في سبعينيات القرن الماضي، هامشاً خجولاً يقول إن محمد نجيب كان أول رئيس لمصر، ويجادل السلفيون الناصريون بأنه لم يكن رئيساً منتخباً.
سيتساءل كثيرون، مصريين وأجانب، عن الرئيس المنتخب بعد الثورة، ويبحثون عن أسباب طمس ذكره، وما يتضمنه هذا السلوك من محو أسطورة أول انتخابات تنافسية ديمقراطية في مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني/يناير، ويعرفون أن اسمه محمد مرسي
وجهة النظر الناصرية تستند إلى أن مجلس قيادة الثورة عيّن محمد نجيب رئيساً، ثم عزله. كلا القرارين، التعيين والعزل، ليسا ثمرة انتخابات عامة. وجهة النظر هذه تحتج، أو تستشهد، برئيس البرلمان صوفي أبو طالب، الذي تولى رئاسة الجمهورية، مؤقتاً بحكم منصبه، عقب اغتيال السادات عام 1981. في قائمة الرؤساء لا ذكر لصوفي أبو طالب، وما ينطبق عليه يشمل رئيس المحكمة الدستورية العليا المستشار عدلي منصور المعيّن رئيساً مؤقتاً في تموز/يوليو 2013، بعد عزل محمد مرسي الذي تولى الحكم بعد الانتخابات الرئاسية التالية لثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011. يمكن خلع من حكم سنةً، أو ثلاثين سنةً، ومن المستحيل محوه من قائمة الرؤساء.
ما الذي يخيف وزارة الخارجية من حقيقة لا مجال للشك فيها، تقول إن محمد مرسي حكم مصر منذ حزيران/يونيو 2012، لمدة سنة؟ لو أن الشيطان مرّ بمصر، وتمكّن في غفلة من الشعب، أو بحيلة من أعوانه، من الوصول إلى الحكم، فلا يصح إنكار هذه الحقيقة. الإنكار خوف أو غفلة. الإنكار هنا خوف لا غفلة. سيتساءل كثيرون، مصريون وأجانب، عن الرئيس المنتخب بعد الثورة، ويبحثون عن أسباب طمس ذكره، وما يتضمنه هذا السلوك من محو أسطورة أول انتخابات تنافسية ديمقراطية في مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني/يناير، ويعرفون أن اسمه محمد مرسي، وأن أخته عولجت في مستشفى حكومي. فراغ مناسب لنمو الأساطير.
اكتمال الملامح لا يغري درامياً. الوضوح والكمال والمباشرة تسدّ الطرق على الخيال. من الثغرات والفراغات يتسلل القلق إلى صنّاع الدراما. تنشط الأخيلة في إكمال الصورة، والبحث عن أسباب إسقاط مراحل وأسماء. في هذا الفراغ تكتسب الوقائع والأسماء حياةً بديلةً، وتصير بمضيّ الوقت هي الحقيقة التي لا علاقة لها بما جرى. أبطال الأساطير والقصص الشعبية صنعتهم أشواق الناس إلى العدل. لا يلتفت أحد إلى من يتّهم أدهم الشرقاوي بأنه كان قاطع طريق. لي تجربة مع رواية "أول النهار" (2005)؛ لم أجد مصادر تاريخيةً كاشفةً لتفاصيل الحياة في القرى المصرية في القرن الثامن عشر. عثرت على مراجع شحيحة، والدراما تتكفل بإتمام اللوحة.
وفي عام 2000، وقعت حالة غريبة، من رقابة مجتمعية، ملهمة للخيال. شاهدتُ فيلم "جمال أمريكي"، في دار عرض في مدينة نصر، منطقة سكنية لمشمأنطين من محدثي التديّن والثراء العائدين من الخليج. كنت عضو هيئة تحرير مجلة "سطور"، وسألني زميل: هل الأب، الذي يمثل شخصيته كيفن سبيسي، نام مع زميلة ابنته؟ أم أنها أخبرته مثلاً بإصابتها بالإيدز؛ فأصابه الرعب وابتعد؟ كان الزميل يجمع المواد المخطوطة على الكمبيوتر صباحاً، وفي المساء يعمل سائق تاكسي. جمِّيع محترف ذكي، ينبّهنا إلى ارتباك هنا، أو خلل أسلوبي يحتاج إلى إيضاح هناك. حين شاهد فيلم "جمال أمريكي"، واحتار في تفسير ردّ فعل الأب، سألني وأجبته، وأدهشني حذف المشهد.
أستعيد الآن المشهد من الذاكرة. سأل الأب زميلة ابنته، وهي على السرير، عما إذا كانت تجربتها الأولى؟ أجابت: "نعم"؛ فأحسّ بالمسؤولية. تغيرت نظرته إليها وشعوره نحوها، واحتضنها كابنته، وأحكم عليها الغطاء. خرج وانتهى الأمر. المشهد الإنساني استفزّ أسرةً مصريةً، فحذفه صاحب دار العرض، واستراح من وجع الدماغ. الدار داره وحقوق العرض تخصّه. وبحذف المشهد فهم زميلي، وغيره من المشاهدين، أن الأب استجاب لإغراء الفتاة المراهقة. الخطورة هنا، درامياً واجتماعياً، أن حذف المشهد سلوك غير أخلاقي أوحى بأن علاقةً جنسيةً تمت بين فتاة صغيرة ورجل غرّر بها. أما ترك المشهد فهو رسالة أخلاقية وسلوك سويّ يحسبه الممسوسون بالنفاق العمومي إثارةً جنسيةً.
من الثغرات والفراغات يتسلل القلق إلى صنّاع الدراما. تنشط الأخيلة في إكمال الصورة، والبحث عن أسباب إسقاط مراحل وأسماء. في هذا الفراغ تكتسب الوقائع والأسماء حياةً بديلةً
للفراغ تجليات. لم تكن صورة لمرسي بين صورتيْ مبارك والسيسي، لتثير دهشة الوزير التركي، أو تؤذي مشاعر أي دبلوماسي مهما تكن عداوة بلاده للإخوان. الحقيقة تستغني بنفسها غالباً، وغياب طرف منها، أو تغييبه، يخلق تحديات دراميةً أطول عمراً. وفي مهرجان الإسماعيلية كان فيلم "بلادي الضائعة"، الوحيد الذي نال جائزتين، هما جائزة لجنة التحكيم الخاصة وجائزة الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية (فيبريسي).
مخرجة الفيلم عشتار ياسين، وُلدت في كوستاريكا لأب عراقي. والفيلم جسر من الحنين، يمتد من لندن حيث يروي الأب محسن ياسين ذكرياته العراقية، إلى بغداد. الابنة تطالع فصولاً أخرى، في معهد الفنون، حيث أخرج الأب عروضاً مسرحيةً حفظتها صور باهتة.
يثبت فيلم "بلادي الضائعة"، قدرة الدراما على استعادة بلاد ضائعة وصورة مغيّبة. الدراما لا ترحم فقراء الخيال. هذا الفراغ، أو النقص الذي تسببت فيه صور الرؤساء الستة في وزارة الخارجية، غيّر وجهة مقالي، من أفلام مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، إلى التنبيه إلى خطورة الخوف من النظر إلى المرايا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...