"سمعت صوت الرب يناديني"؛ بهذه العبارة وصفت "سيدة المصباح" ومؤسسة علم التمريض الحديث فلورانس نايتنجيل، شعورها في أحد المعابد المصرية خلال رحلتها إلى مصر عام 1849، موفدةً من قبل جمعية "سان فنسان دي بول"، لزيارة المستشفيات والمدارس التابعة لها، ثم تنقلت بين القاهرة وسوهاج وأسوان والأقصر. فكيف انتهت هذه الزيارة؟ ولماذا استحضرت فيها روح الإله؟
في الثاني عشر من أيار/مايو عام 1820، وُلدت "الممرضة الأولى"، فلورانس نايتنجيل، ولهذا اختير هذا اليوم للاحتفاء بمهنة التمريض تكريماً لهذه السيدة البريطانية التي آمنت بضرورة تعليم المرأة وقدّمت خدمةً جليلةً للبشرية عندما وضعت قواعد التمريض الحديث وبرامج تدريسه وتعليمه، وقبل ذلك كانت الناس تموت بسبب جروح بسيطة يمكن أن تشفى منها بالتطهير فقط.
سيدة المصباح
من قسم التمريض في مدرسة "الكايزر وات"، تخرجت فلورانس عام 1851، وبعدها بثلاثة أعوام، تطوعت في "حرب القرم"، وقدّمت جهوداً ضخمةً في علاج الجرحى، إذ كانت تتمشى ليلاً حاملةً المصباح بين يديها لتبحث عن المصابين من الجنود والأسرى من أجل تمريضهم وعلاجهم، حتى أنهم أطلقوا عليها لقب "سيدة المصباح".
وقد وصلت أنباء جهودها إلى أبواب قصر ملكة بريطانيا العظمى وإمبراطورة الهند آنذاك، الملكة فيكتوريا، وحظيت بتقدير ملكي خاص، خاصةً أنها كانت مديرة فريق التمريض في مستشفى كلية الملك، في إنكلترا.
حينما كانت فلورانس، ترى الشمس تسدل ستائرها على الآلهة التي تحيط برؤوسها هالات التقديس، كما تصف، فإن الرب كان يناديها
البريطانيون آمنوا بما تفعله وقدّروا قيمة جهودها، فتبرعوا لها بمبلغ خمسين ألف جنيه إسترليني حينها، لإنشاء مدرسة "بيت نايتنجيل" لتعليم التمريض التابعة لمستشفى St.Thomas’s Hospital، وكانت هذه المرحلة بداية عدّ التمريض مهنةً، وهي أول مدرسة من نوعها عرفها التاريخ.
الإيمان بالعمل الإنساني
خاف عليها أبوها من العمل في ميادين القتال والحرب، وحاول جاهداً إبعادها عن هذه المهنة عن طريق إرسالها في رحلات إلى دول أوروبا والهند، لكن ذلك لم يقطع حبال الود بينها وبين واجبها الإنساني. وبفضل العلاقات التي كونتها مع شخصيات سياسية وأصحاب مناصب مرموقة في المجتمع البريطاني، استطاعت أن تستكمل جهودها في مجال التمريض، واستطاعت أن تؤهل سيدات لهذه المهنة بالمواصفات الطبية المطلوبة.
الإسكندرية مرآة التجانس
حينما زارت الإسكندرية، أخذها الخيال الحالم إلى الإسكندر الأكبر والملكة كليوبترا، كأنما كانت تراهما بين وجوه الأرمن ورهبان الكنيسة اليونانية وكنيسة اللعازريين. كان أشد ما أعجبها في عروس البحر المتوسط، التجانس الكبير الذي أضفى نوعاً من الخصوصية على هذه المدينة، وقد ذهبت لزيارة مجموعة من المستشفيات لإجراء تقارير عن نشاط الممرضات في مستشفيات مصر، فكتبت أن الممرضات يقُمن بعمل جبار لإسعاف المرضى والفقراء من الشعب، إذ تعمل 19 ممرضةً بمجهود 90 ممرضةً في وقت واحد.
مذكرات الممرضة الأولى عن مصر
حملت مذكرات السيدة فلورانس نايتنجيل، التي نشرتها شقيقتها بارثي نايتنجيل، حكايات عن مدينة القاهرة، إذ وصفتها بـ"زهرة المدائن"، و"حديقة الصحراء" و"لؤلؤة العمارة". كانت تروق لروحها مشاهد الأسواق والحمامات العامة التي لم يبقَ منها إلا "حمام التلات"، وكثرة المقاهي الشعبية ومواكب الزفاف وحتى مواكب ختان الذكور، لكن هذه العادة لم تعد موجودةً الآن في الحارات الشعبية في القاهرة أو حتى في قرى الأقاليم إلا نادراً، كما جذبتها حلقات الدراويش وزحام الموالد، وهذه الطقوس قائمة حتى الآن.
في أحد الأيام كانت تزور آثار منطقة القرنة الواقعة غرب مدينة الأقصر، وشعرت بروح الإله حولها وكتبت قائلةً: "سمعت صوت الرب يناديني"
وكانت فلورانس، قد دوّنت المشاهدات التي عاشتها في جنوب مصر، وتحدثت عن العادات والتقاليد القديمة لأهل النوبة، والثقافة والأعراف التي سادت بين عامة الشعب المصري وطقوس حياتهم اليومية، في مذكراتها التي نُشرت بعد وفاتها باسم "رسائل من مصر".
أسواق القاهرة الفاطمية
وصفت رائدة التمريض الحديث، أسواق القاهرة بأنها أروع الأماكن في العالم، إذ خطفها سوق "الخيامية" بالقرب من باب زويلة، خلف الأسواق الجنوبية لحي القاهرة الفاطمية، وعبّرت عن انبهارها بالصناعات الوطنية فيه، كما زارت سوق المغاربة وسوق العطارين، وسوق الصاغة وسوق النحاسين وسوق الجلود وكذلك سوق السكرية، وذهبت في جولة إلى شارع السروجية، في منطقة الدرب الأحمر.
وتنقلت عيناها بين المساجد وواجهات الدكاكين الصغيرة (الحوانيت) وتكايا الدراويش، ومن أشهرها تكية محمد أبو الدهب، التي تقع وسط القاهرة بالقرب من الجامع الأزهر، وكانت المشربيات العالية أبرز ما لفت انتباهها في عمارة البيوت المبنية على الطراز الفاطمي والإسلامي.
وصلت الممرضة الأولى، إلى خان الخليلي في حي الحسين، الذي ما زال حتى يومنا هذا يحتفظ بتراثه الحضاري الفريد والمتميز معبّراً عن سمات التراث الثقافي الشرقي، وأعجبتها دكاكين العطور والزجاجات المزدانة بالنقوش الذهبية اللامعة، وقامت بشراء مجموعة من زجاجات العطر، وكررت زيارتها إلى هذا المكان أكثر من مرة.
في عشق الحضارة المصرية القديمة
زارت سيدة المصباح، مثلها مثل جميع الرحالة الأوروبيين الذين تعلقوا شغفاً وحباً بالحضارة المصرية القديمة، معبد أبيدوس الواقع في مدينة سوهاج، في أول رحلتها، حيث ضريح أوزوريس، إله العالم الآخر عند الفراعنة، الذي تسابق المصريون قديماً على دفن موتاهم بالقرب منه. وهامت حباً بجمال نحت تماثيل إيزيس وحورس، التي بدت كما لو كانت قد نُحتت بالأمس، وراحت تنتقل عيناها بين المقصورات الصغيرة في معبدَي "سيتي" و"رمسيس الثاني" ونقوش المعابد الدقيقة، وكتبت تقول: "الصمت والجلال يحيطان بمعبد ستي إلا ساعة الغداء، حيث تُبسط الموائد فيتحلق حولها السائحون الإنكليز ليشوّهوا بأحاديثهم وضجيجهم جلال المكان".
استكملت رحلتها إلى الأقصر، إذ تبدي إعجابها الشديد ببهو الأعمدة هناك، خاصةً التي تحمل اسم "الإله آمون" سيد الحياة والخلود، وترى أن الآلهة المعبودة في مصر القديمة كانت تتغير كلما تغيّر فكر المصري القديم في كل المراحل الزمنية المتعاقبة حول فكرة التوحيد الإلهي، حتى أنها كتبت في مذكراتها تقول: "مما لا شك فيه أن المصريين المثقفين في مصر القديمة كانوا يعتقدون بالإله الواحد".
"صوت الرب يناديني"
من كتابات فلورانس، والانطباعات التي سجّلتها عن زيارتها لمصر، يظهر مدى إيمانها بفكرة الإله الواحد، وأن هذا الإله هو الأمين الساهر لحراسة حضارة المصري القديم. ففي أحد الأيام كانت تزور آثار منطقة القرنة الواقعة غرب مدينة الأقصر، وشعرت بروح الإله حولها وكتبت قائلةً: "سمعت صوت الرب يناديني". في ذلك اليوم كانت قد أكملت العقد الثالث من عمرها، وهو العمر الذي بدأ فيه السيد المسيح رسالته إلى البشر، حسب ما ذكرت، وكتبت تقول: "من الآن أترك الأشياء الصبيانية، فلا حب ولا زواج، فقط أفكر في مشيئة الرب".
وداعاً مصر العزيزة
كأن معابد الفراعنة وتراثهم في الأقصر، كانت تنثر في روحها هبات من النور، نور ربما لا يشبه نور الشمس وإنما نور يشبه الإنسانية في قلبها الكبير، وأيضاً تلك الأعمدة النائمة التي تعشش فيها الغربان، والمسلات القائمة كأعواد اللوتس. وحينما كانت فلورانس، ترى الشمس تسدل ستائرها على الآلهة التي تحيط برؤوسها هالات التقديس، كما تصف، فإن الرب كان يناديها.
على أثر ما قامت به رائدة علم التمريض، تأسست منظمة الصليب الأحمر الدولي، بعد أن أعطت نموذجاً ملهماً للإنسانية بأفعالها الخالدة، حتى أن المنظمة أطلقت جائزةً باسمها
وذات صباح ذهبت للصلاة وعادت لزيارة معبد فيلة، وهناك شعرت بحالة من الرهبة والقدسية، والدفء الأسري، وكانت تعدّ تعاليم الحكيم المصري تحوتي، ملهمةً لها في كتاباتها. ثم تنهي زيارتها وتحاول أن لا تربط قلبها بمصر وجاذبيتها وعدم قدرتها على الفراق، فتعود إلى إنجاز مهمتها الأساسية التي جاءت إلى مصر من أجلها وتكتب في وداع أرض الكنانة بعد لقاء استمر عام قائلةً: "وداعاً مصر العزيزة الجميلة والنبيلة. وداعاً من دون أسف ومن دون ألم، إلا الألم الشخصي، فلا يوجد ما تبكي عليه مثل النيل واهب الحياة".
رحيل السيدة الخالدة
توفيت فلورانس، عن عمر يناهز 90 عاماً في الثالث عشر من آب/أغسطس عام 1910، بعد رحلة طويلة من العمل الإنساني في رعاية المرضى والجرحى، وتخليداً لذكراها شُيّد لها تمثال في قصر ووترلو في العاصمة البريطانية لندن.
وعلى أثر ما قامت به رائدة علم التمريض، تأسست منظمة الصليب الأحمر الدولي، بعد أن أعطت نموذجاً ملهماً للإنسانية بأفعالها الخالدة، حتى أن المنظمة أطلقت جائزةً باسمها، وتُعدّ جائزة نايتنجيل، أكثر الجوائز قيمةً ويتم منحها في مجال التمريض، وتُمنح كل عامين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...