حجز "شارلي شابلن" موقعاً مميزاً لنفسه في الذاكرة الجمعية العالمية طوال القرن العشرين، بعد أن نجح في شقّ طريقه متحدياً ظروف الفقر، ووضع بصمة راسخة في تاريخ الفن، تتزين بصورة "الصعلوك المتشرّد" الذي تجول في كلّ أرجاء الدنيا وأحبه الناس في الشرق والغرب، "رصيف 22" يستعيد ذكريات زيارة شارلي شابلن التاريخية لمصر التي تزامنت مع إطلاق فيلمه الشهير "أضواء المدينة" في بدايات الثلاثينات من القرن الماضي، وقد جاء شارلي شابلن لميناء بورسعيد قادماً من نابولي الإيطالية عبر البحر، ممتلئاً بالشغف لاستكشاف أسرار الشرق.
من نابولي إلى بورسعيد... الشعوب هي التي تلهمني
رحلة الصعلوك المتشرد إلى مصر تعود إلى مارس 1932م، عندما كان شابلن يبلغ من العمر 43 عاماً، وهو الوقت الذي كان شاهداً على قمة النبوغ الفنّي للفنان البريطاني.
بعد النجاحات الساحقة لفيلمه "أضواء المدينة" على المستوى العالمي عند عرضه عام 1931م، قرّر شارلي الذهاب إلى مصر في جولة سياحية تشهد إطلاق فيلمه في القاهرة، وأبحر من ميناء نابولي في إيطاليا مساء يوم 6 مارس 1932م، وبرفقته شقيقه "سيدني شابلن"، وسكرتيره الخاص "كونو"، مستقلّين باخرة تأخذ طريقها إلى اليابان عبر قناة السويس، وكانت أول محطّاته في الشرق هي ميناء "بورسعيد" الذي وصل إليها بعد 4 أيام، في تمام الساعة السادسة صباح الخميس 10 مارس، حيث وجد جَمعاً كبيراً من الجمهور والصحفيين المصريين في انتظاره، وقائع الرحلة نجح في اقتناصها الصحفي بمجلّة "اللطائف المصورة"، "كامل أفندي علي" الذي رافق شارلي شابلن وشقيقه وسكرتيره الخاصّ طوال أيام وجودهم في مصر.
عند توقف الرحلة في "سيلان" لمدة 48 ساعة، وجّه سؤالاً لشقيقه: "لماذا لا نستقرّ هنا بعد أن نكبر في العمر، ونشتري مزارع للشاي ونعيش مع أهل الشرق؟"
تحدث "شابلن" في ميناء بورسعيد عن أسباب قدومه إلى مصر، مؤكداً أنه متطلع لرؤية حياة الشعوب الشرقية من زاوية أقرب، وأن ما يشغله في مصر هم الناس، وأن هولاء البشر وتنوعات حياة الشعوب المختلفة هي ما يلهمه، وليس رؤية الأهرامات أو أبو الهول، وعبّر شابلن عن إعجابه بالشعوب الشرقية التي يرى أنها أجمل من أيّ آثار أو جمادات.
أنا تعبت من رؤية المعابد والأطلال القديمة التي أراها فى كلّ مدينة كبيرة أزورها. ما يهمني حقاً هو تلك الحالة الإنسانية لمختلف الشعوب
"اللطائف المصورة" رافقتْ شابلن
وقائع وتفاصيل الرحلة انفردت بها مجلة "اللطائف المصورة" في عددها الصادر يوم 14 مارس 1932م، وجاء المانشيت الرئيسي في خمس كلمات "شارلي شابلن يتصفح اللطائف والعروسة"، و"العروسة" هي مجلة المنوعات التي كانت تتبع لـ"اللطائف المصورة"، وتعتبر "اللطائف" من أوائل المجلات المصرية، أسسها إسكندر مكاريوس عام 1915م، متخذاً لها طابعاً فكاهياً تاريخياً، وارتكزت تغطياتها على أخبار المشاهير عالمياً، ومتابعة الأحداث الجارية، وكانت تصدر أسبوعياً صباح كلّ يوم اثنين.
سجّلت عدسة "اللطائف" جولة شارلي في مصر، وتنقلاته من بورسعيد إلى القاهرة، حيث ذهب في زيارة سريعة للأهرامات وأبو الهول. ثمّ انتقل لتناول الغداء في فندق "شبرد" بمنطقة الأزبكيّة، وقام بجولة تسوّق في القاهرة القديمة. ثمّ استكشف منطقة "شُبرا البلد" التي كانت منطقة صحراوية في ذلك الوقت، قبل أن يغزوها العمران في منتصف القرن العشرين، حتى أصبحت حالياً أحد أكثر مناطق العاصمة المصرية ازدحاماً.
أنا أبحث عن الإنسان في مصر
الشاشة الكبيرة التي لم تعرف فناناً مثل شابلن، شغلت حيزاً في حياة المصريين منذ بداياتها الأولى في نهاية القرن التاسع عشر، ويعتبر العرض الذي قدمه الأخوان لومير بمدينة الإسكندرية عام 1899م، هو أوّل عرض سينمائي في إفريقيا، ومن أوائل العروض عالمياً، وربما هذا ما دفع "شابلن" للاهتمام بحضور إطلاق فيلمه "أضواء المدينة" في مصر.
شابلن تحدث مع مندوب المجلة "كامل أفندي علي" عن غياب اهتمامه بالآثار، وقال: لا أحبّ الأشياء الميتة. أنا تعبت من رؤية المعابد والأطلال القديمة التي أراها فى كلّ مدينة كبيرة أزورها. ما يهمني حقاً هو تلك الحالة الإنسانية لمختلف الشعوب؛ الناس وليس الأشياء هي المثيرة للاهتمام.
موقع "ديسكفرنج شابلن" وثق أحاديث الفنان الكبير في مصر، الذي حكى عن الأشياء الجديدة التي نتعلمها دائماً في تقاليد وعادات الشعوب؛ قال شارلي: أنا مهتمّ بما يميز الشعوب الشرقية، وأحد الأسباب التي تدفعني إلى زيارة اليابان بعد مصر، هو أنني أريد أن أرى الحياة اليابانية من مسافات قريبة، وهو أمر مختلف عمّا يمكن رؤيته على شاشة السينما.
شارلي في أهرامات الجيزة
كانت زيارة "شابلن" لأهرامات الجيزة حدثاً تاريخياً، وقد تجول هناك بجوار أبو الهول، كما قام بركوب الجِمال في لقطات طريفة بمساعدة مجموعة من الصحفيين ومرافقيه، وكاد أن يسقط من فوق الجمل، وكما ذكر صحفيّ "اللطائف المصورة" ووجدناه في النسخة الورقية من هذه المجلة، حاول شابلن صعود أحجار الأهرامات أيضاً، وكان مهموماً بالتصوير وعانى في محاولة شراء أفلام التصوير الفوتوغرافي التي لم تكن متاحة بشكل موسع في القاهرة خلال تلك الفترة.
وقد قام مجموعة من أهل الفن والسياسة بمرافقته في جولته بالأهرامات، ونزع أحدهم طربوشه ووضعه على رأس شابلن، كما يظهر في أحد صور الرحلة.
قام "شارلي" بزيارة الإسكندرية في منتصف الرحلة، وتظهر أحد الصور لقطة له فور وصوله إلى صحراء "شبرا"، قادماً من عروس المتوسط، بجوار السيارة التي كان يتحرك بها داخل مصر.
الانبهار بحياة الشرق
كشفت تغطية موقع "ديسكفرينج شابلن" للرحلة في محطتها المصرية ثمّ اليابانية، انبهارَ شارلي بالأجواء الشرقية، فبعد زيارته إلى بورسعيد والقاهرة والإسكندرية، استكمل رحلته إلى اليابان، حيث عرف عادات وتقاليد الشعب اليابانى، وتابع بشغف ألعابهم ورياضاتهم وجلسات "اليوغا". واندهش من طريقة الأكل عند مواطني اليابان، وقدرتهم على التقاط حبات الأرز باثنتين من العصى. وحتى طريقة صبّ الشاي للعمال على سطح السفينة لفتت انتباهه، وعند توقف الرحلة في "سيلان" لمدة 48 ساعة، وجّه سؤالاً لشقيقه: "لماذا لا نستقرّ هنا بعد أن نكبر في العمر، ونشتري مزارع للشاي ونعيش مع أهل الشرق؟".
بين شارلي شابلن و"محمود شكوكو"
كما بحث "شارلي" عن إلهامه وسط الناس، فقد ألهم صاحب القبعة والشنب الشهيرين الكثير من الفنانين في جميع أنحاء العالم، ومنهم من مصر. فمنذ عدة سنوات تخيل الفنان التشكيلي المصري "إبراهيم البريدي" حضور شابلن في مصر، وربما لم يكن يعلم وقتها أنه زارها بالفعل، وقدم معرضاً تشكيلياً تحت عنوان "شارلي شابلن في القاهرة"، وقال "البريدي" في كلمته بكتالوغ المعرض: عندما كنت طفلاً كنت دائم المتابعة لأفلام شارلي شابلن، وكان حلمي أن أزور مصر، ورغم مرور السنين لم أنس هذا الحلم؛ لذلك قررت إحضاره بنفسي إلى القاهرة عبر لوحاتي المكونة من بقايا القماش".
المشاهد التشكيلية للمعرض التي جاءت من وحي خيال البريدي، أظهرت شارلي شابلن في قلب الحياة المصرية عبر 61 لوحة، فنجده في إحداها يعمل بائعاً للبطاطا، وفي الثانية يشرب "الشيشة" في المقهى، أو يعزف على آلة العود، أو على البيانو، ويقوم بسنّ السكاكين، والدقّ على الطبل، أو يقوم بالرّقص برفقة الفنان الكوميدي والاستعراضي المصري الشهير "محمود شكوكو"، الذي كان من علامات السينما المصرية في نفس وقت سطوع شابلن عالمياً، كما كان شديد التأثّر بشابلن، ودائم التقليد له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...