في 25 فبراير عام 1967 كان الثلاثي فيلسوف الوجودية الفرنسي جان بول سارتر، وصديقته الناشطة النسوية سيمون دي بوفوار، والصحفي والمخرج الفرنسي كلود لانزمان على متن طائرة خاصة، أقلَّتهم من باريس إلى القاهرة، بصحبة علي السمان، مدير وكالة أنباء الشرق الأوسط آنذاك.
وكانت الزيارة، التي استمرّت 16 يوماً، تلبية لدعوة باسم الكاتب الكبير توفيق الحكيم، من مجلة "الطليعة" التي كانت تصدرها "الأهرام"، ويرأس تحريرها الكاتب لطفي الخولي.
عُقد مؤتمر صحفيّ في المطار فور وصولهم، وأعلن سارتر أنه لم يأت ليعلّم الناس الوجودية، وإنما جاء بهدف التعرّف على الطريق العربي للاشتراكية، لتنطلق القافلة بعد ذلك إلى فندق "شبرد"، ووجد الفيلسوف الكبير احتفالاً كبيراً في انتظاره.
سارتر الثوري في "الفكر المعاصر"
كان سارتر في نظر مثقفين مصريين وعرب، رمزاً للضمير الأخلاقي، فهو الفيلسوف والثوري المناهض للاستعمار الفرنسي للجزائر، والمؤيد لحركات التحرّر في إفريقيا، والرافض لجائزة نوبل للآداب، ومن ثمّ فور الإعلان عن زيارته لمصر، تصدَّرت صورته جميع الإصدارات الصحفية المصرية.
رَحَّبت به الأهرام على صفحتها الأولى، وأعدَّت مجلات "الفكر المعاصر" و"الطليعة" و"الهلال" ملفّات حول فلسفته وفكره، وراحت الصحف تتبارى في صياغة أقوى المانشيتات التي تعبّر عن الإعجاب البالغ بسارتر، فهو حسب ما نُشر وقتها: "ضمير العصر"، و"الرائد"، و"البطل"، و"الحرّ"، و"الإنسان الثوري". غير أن هذه الفورة، وتلك المشاعر الفياضة تجاه سارتر، سرعان ما انطفأت على نحو مؤلم، بعدما أعلن صاحب "الغثيان" تأييده للوجود الإسرائيلي في فلسطين، حين اندلعت حرب الأيام الستة في الخامس من يونيو عام 1967.
كمشيش
وكان لقرية كمشيش، بمركز تلا بمحافظة المنوفية، نصيب من تلك الزيارة، وهي تلك القرية الثورية التي خاض فلاحوها معركة شهيرة ضد الإقطاعيين، استشهد فيها المناضل صلاح حسين. وكان سارتر قد تابع وقائع هذه المعركة في صحيفة "لوموند" الفرنسية، حتى وصل إلى مصر، ليجد طريقه إلى فلاحي القرية، والمناضلة شاهندة مقلد، زوجة الشهيد صلاح حسين، وقد وثق الدكتور محمد أبو الغار هذه الجلسة بين سارتر وفلاحي كمشيش، في كتابه "على هامش الرحلة"، أشار فيها إلى دور الأمن المصري والاتحاد الاشتراكي في إفسادها.
ناصر وحقوق الإنسان
كان عبد الناصر مهتماً في 9 مارس 1967 بمقابلة سارتر ودي بوفوار، حيث كانا آنذاك طليعة حركة التجدّد الثوري في فرنسا وأوروبا، ولم يمانع حضور "لانزمان" اللقاء رغم مواقفه المؤيدة للصهيونية. استمرّ اللقاء 3 ساعات، وسجّلت الصفحة الأولى من محضر الاجتماع ترحيب جمال عبد الناصر بالاثنين، ثمّ قول سارتر إنه رأى السدّ العالي، وزار الأرض الجديدة المستزرعة على مياهِه، كما شاهد المجتمعات السكّانية الجديدة التي تقدّمت إلى الحياة بعد تراجع الصحراء.
ثمّ أضاف أنه لم يكن يعرف الكثير عن الثورة المصرية، وما كان يعرفه كان أكثره –بصراحة– من مصادر إسرائيلية أو غربية قد تكون معادية لمصر. بل أنه يستطيع أن يشهد بهذا العداء بعد أن رأى ما رأى في مصر.
كان سارتر في نظر مثقفين مصريين وعرب، رمزاً للضمير الأخلاقي، فهو الفيلسوف والثوري المناهض للاستعمار الفرنسي للجزائر، وبعد إعلان زيارته لمصر، تصدَّرت صورته الإصدارات الصحفية
قال سارتر إنه لم يكن يعرف الكثير عن الثورة المصرية، وما كان يعرفه كان أكثره –بصراحة– من مصادر إسرائيلية أو غربية قد تكون معادية لمصر
ورأى سارتر أنه من واجبه أن يثير إلى جانب هذا موضوعاً آخر يتعلق بحقوق الإنسان، فمنذ أن وصل إلى مصر تلقّى في فندقه عدداً من الخطابات يشكو له أصحابها من الضغط الواقع عليهم. وبدأ عبد الناصر يتحدّث، حيث سجلت الصفحة الثانية من المحضر قوله لـسارتر: "إنني في حاجة إلى أن أطلب من أجهزة الأمن أن يبحثوا لي عن مرسلي هذه الخطابات إليك، فأنت وأنا نستطيع أن نتصوّر نوع الناس الذين يعرفون في مصر عنك وعن السيدة سيمون بالطبع؛ إنهم الطبقة التي تقرأ الفرنسية أو تقرأ غيرها من اللغات الأجنبية وتتابع الأدب العالمي."
وتابع عبد الناصر: "أنا لا ألومهم إذا وجدوا سبباً لأن يكتبوا إليك. أستطيع وتستطيع معي أن تقطع أنهم من كبار الملّاك السابقين، وقد حددنا ملكياتهم، ولا أظنهم يحبّون ذلك أو يقبلونه، وهم لا يستطيعون وقف حركة الثورة. وبالتالي لا مانع عندهم من أن يشتكوا إلى كلّ من يتصورون أنه قادر على سماع صوتهم وعلى إسماعه. فهذه هي الطبيعة الإنسانية وأنا أفهمها، ولكني في الوقت الذي أرى فيه دموع الأغنياء، لابدّ أن أتذكّر قهر الأغلبية التي كانت غريبة في وطنها لا تملك فيه شيئاً".
غزة
وذهب الوفد إلى غزة ـوكانت عند ذلك تحت حكم الإدارة المصريةـ وجرى طفل بيده لفافة نحو سارتر، سلّمها له، ففضّها تلقائياً، وهمس لانزمان في أذنه: إن ما بيدك ليس سوى علم المقاومة الفلسطينية، فثار سارتر، وجرى وراء المصوّر الصحفيّ الذي التقط له صورة، مصرّاً على إخراج الفيلم وتعريضه للضوء. وقد تمّ له ما أراد، ثمّ دخل إلى معسكرات اللاجئين، ليرى البؤس والفقر، فاهتزّ ضميره، ولاحق الوجوه بالأسئلة: هل الفلسطينيون وحدهم الذين سيحرّرون بلادهم أم أنهم سيطلبون مساعدة الدول العربية؟ وتوالت الإجابات إلى أن سأل عمّا يحدث عند النّصر على الإسرائيليين، وكيف سيعاملونهم؟ هل سيرمونهم في البحر؟ وكانت الإجابة: سوف ننتصر أولاً، ثمّ نحقّق ما نراه.
فشل الزيارة
الكاتبة الصحفية عايدة الشريف، التي رافقت الوفد طوال أيام الزيارة كمراسلة لمجلة "الآداب" البيروتية، سجَّلت وقائع الرحلة في كتابها "شاهدة الربع قرن" في فصل بعنوان: "هل آن الأوان لفتح ملفّ زيارة سارتر إلى القاهرة؟".
رأت الشريف أنَّ الزيارة اتّسمت بالمبالغة الشديدة، وهذا ما أدَّى إلى فشلها –بحسب الكتاب- حيث كتبت: "رفعناه إلى أعلى الآفاق، وعلّقنا عليه أعظم الآمال، ما أعطى تأثيراً عكسياً على الرجل الذي كان وجهه يفيض بالسخرية أحياناً، حين يقرأ له علي السمان، مدير وكالة أنباء (الشرق الأوسط) في باريس مانشيتات الصحف التي تصفه بالبطل والرائد والحرّ والإنسان، وحين ترجم له عنوان المقدّمة التي وضعَها الأستاذ مجاهد عبد المنعم مجاهد للعدد الخاص من مجلة (الفكر المعاصر)، حيث وصفه بـ"ضمير العصر"، تساءل سارتر متعجباً: "إلى هذا الحدّ أمثّل أنا ضمير العصر كلّه؟ أنا لست حتى ضميرَ نفسي"، ثم طلب ضاحكاً من كلود لانزمان أن يتحمّل عنه بعض هذه الألقاب.
وذكرت الشريف أنَّها لم تحضر اللقاء الذي جرى بين عبد الناصر وسارتر، والذي كان من المفترض أن يقتصر على سارتر وسيمون دون لانزمان، لكنهما اشترطا حضوره.
أعلن عبد الناصر فجأة أنه لا يمانع في حضور لانزمان "صاحب التوجه الصهيوني الواضح"، بحسب الشريف، وحكت أنها حين ذهبت في اليوم التالي إلى صحيفة "الأهرام" لكي تحصل على صور اللقاء، قال لها زملاؤها في قسم التصوير إن طلبها لن يجاب، مشيرين إلى أفلام محترقة. وحين نظرت في أطراف بعض الصور المحترقة، وجدتْ أن لانزمان قد ذهب إلى اللقاء بقميص مفتوح، دون أن يرتدي الزيّ الرسمي، وأنه كان طوال اللقاء يضع رجلاً على رِجل، وخلال وقوف عبد الناصر معهم كان يضع يديه في جيبه، ومع أن عبد الناصر لم يتوقّف عند هذه التفاصيل، لكن المشرفين على الزيارة اعتبروا ذلك تعجرفاً مرتبطاً بمواقف لانزمان الصهيونية، وشعروا أنهم تسرّعوا في موافقتهم على شرط حضوره، وقرّروا أنه لا داعي لنشر هذه الصور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه