"بعد مرور سنوات وسنوات من الحيوية والإبداع، عُدت إلى نقطة ثابتة من التأمل: إلى مسقط رأسي مصر". هكذا يفتتح الشاعر الإيطالي ومؤسس الحركة المستقبلية فيليبو مارينتي، كتابه:"سحر مصر" (صدرت نسخته العربية عن المركز القومي للترجمة)، وهي بداية توحي بالرغبة التي تملكت الشاعر آنذاك في التقاط الأنفاس، بعد سنوات من العمل السياسي والثقافي الصاخب، والجولات في العديد من البلدان الأوروبية، للتبشير بالمستقبلية، وما تلاها من مشاحنات عنيفة ودامية مع خصومه.
ففي ثلاثينيات القرن العشرين وتحديداً عام 1933، سيطر الحنين على "كافيين أوروبا"- الاسم الذي اُطلق عليه لسرعته ونشاطه العارم- للعودة إلى البلد الذي شهد مولده وشبابه الباكر، ليُداوي روحه التي كانت قد أُنهكت من الحروب، وصراعات الأحزاب السياسية والحركات الأدبية والفنية. وهكذا فإن كتاب مارينتي "سحر مصر" الذي ترجمته الدكتورة مها محمد عبد العزيز، أستاذة اللغويات والترجمة بقسم اللغة الإيطالية بكلية الألسن، يمكن اعتباره جسراً بين الماضي والحاضر؛ فهو يُوثق لذكريات مارينتي في مدينته الإسكندرية التي بحسب تعبيره "قد ترسبت في عروقي، وكانت مشتعلة محمومة، تدفعني دفعاً إلى العودة، لرؤية سماء مصر المكتظة بشذرات الذهب الناعم، وتلاحق كثبانها الصفراء الساكنة، وأهراماتها الشامخة المثلثة الآمرة، ونخيلها الوديع الذي يُبارك أباه، النيل الخصب الذي يجري في أخدود تربة سوداء وكلأ أخضر".
" قد ترسبت في عروقي، وكانت مشتعلة محمومة، تدفعني دفعاً إلى العودة، لرؤية سماء مصر المكتظة بشذرات الذهب الناعم، وتلاحق كثبانها الصفراء الساكنة، وأهراماتها الشامخة المثلثة الآمرة، ونخيلها الوديع الذي يُبارك أباه، النيل الخصب الذي يجري في أخدود تربة سوداء وكلأ أخضر"
أما الحاضر، فيتجلى في مغامرات الشاعر في قرى كفر الزيات (إحدى مراكز محافظة الغربية الآن)، لصيد طيور السمان، ورؤية النساء العربيات، وتحديداً فاطمة التي أسرت قلوب الجنود الإنكليز، وقبل ذلك لقاءاته مع ملك مصر آنذاك فؤاد الأول، والحوار الذي دار بينهما حول الموسيقى العربية والحداثة، وحواره الآسر على ضوء الشموع مع شاعر الإسكندرية قسطنطين كفافيس، ثم جولاته في شوارع القاهرة، ومتابعته لفرق الدراويش، وتجواله في جامعة الأزهر، قبل رحلته إلى صعيد مصر.
حياة مارينتي في الإسكندرية
بدعوة من الخديوي إسماعيل، جاء والدا مارينتي؛ إنريكو مارينتي، وأماليا غرولي، للعمل كمستشارين قانونيين للشركات الأجنبية في مصر آنذاك، ولم يكونا قد تزوجا بعد.
وفي 22 كانون الأول/ديسمبر 1876، ولد مارينتي، وعاش طفولة سعيدة، والتحق بمدرسة "اليسوعيون الفرنسيون"، وهي المدرسة التي احتلت ركناً مبهجاً من ذاكرته، لكنها كانت أول ذكرى تتهشم بين يديه كلعبة قديمة عند عودته إلى مصر"سرعان ما تحركت تلك الذكرى الممتدة الوردية لمدرسة "اليسوعيون الفرنسيون" وفنائها الهائل يحرسه النخيل، وتشابك مدوٍ لسيقان التلاميذ العارية السريعة، وياقاتهم الشبيهة بزي رجال البحرية وقطع من الكرات كانت تغوص في فردوس مُدغل أخضر أشجاره من الدُلب والمنغوليا والخيزران.
لكن كل ذلك قد نُسف؛ فالمدرسة لم تعد هناك، حيث تحولت إلى "هيئة حراسة المحافظة"! وبعد أن سُحقت تلك الذكرى الوردية تحت سقف مبنى المحافظة الجديد، أسرع الشاعر بسيارته حتى سور حديقة "أنطونيادس"، وهو يحدوه الشغف، لينزع عن نفسه آخر شعور بالحنين وأخذت أشعة الشمس الواهنة لشهر كانون الاول/ديسمبر، تُداعب برقة جلده المستقبلي، لكن شجر "الطلح" المتوقد الحسي، صديق مراهقته، كان قد اختفى هو الآخر مع أنواع عديدة من النخيل التي اجتُثت من أرضها، لتحل بدلاً منها الأعمدة المعدنية.
كان لـ"أماليا" والدة الشاعر، تأثير بالغ في اتجاهه صوب الأدب، فقد كانت عاشقة للشعر، وقارئة نهمة له، وهي التي أخذت بيد الطفل، وأدخلته في عالم الكلاسيكيات الإيطالية والأوروبية. وكان من نتائج ذلك أن ظهرت الاهتمامات الأدبية لمارينتي مبكراً، عبر تأسيسه لمجلته الأدبية الأولى وهو بعد في السابعة عشرة من عمره، وقد هدده اليسوعيون بالطرد بسبب نشره لنصوص إميل زولا التي اعتبرتها المدرسة نصوصاً فضائحية.
ما بين مارينتي "المستقبلي" ومارينتي "المصري"
بعد هذه الواقعة قرر والداه أن يسافر ابنهما لتكملة دراسته في باريس، فحصل من السوربون على الشهادة السنوية. ثم التحق بجامعة بافيا بإيطاليا لدراسة القانون. غير أن المرحلة الفارقة في حياة مارينتي، والتي عبرها نال شهرة عالمية، هي تلك التي انخرط فيها في العمل السياسي والثقافي، حتى أفضت إلى وضعه لحجر الأساس للحركة المستقبلية، ففي إحدى أمسيات عام 1909، جمع مارينتي شركاءه وأصدقاءه وأمضى الليلة في كتابة البيان الذي تضمن المبادئ الرئيسية للمذهب المستقبلي.
ونُشر مباشرة على صدر الصحيفة الرئيسية في باريس "لو فيجارو"، وكان هذا البيان بمثابة صاعقة نزلت على الساحة الثقافية الأوروبية، وذلك لمضمونه العنيف، القائم على الهدم؛ فالبيان المستقبلي كان يدعو إلى تمجيد المرأة والحرب، باعتبارهما مبعث صحة للعالم، وكذلك كان يُحرض على حرق المكتبات وتدمير المتاحف، وتأييد العنف والصراع، ونسف وتحطيم كل ما يمت بصلة للماضي. وقد ارتبط مارينتي بعلاقة صداقة قوية مع زعيم الحزب الفاشي موسوليني، وكان مؤيداً لاحتلال إيطاليا لليبيا، وكذلك كان أحد ضباط الحرب العالمية الأولى، وحروب أخرى خاضتها إيطاليا.
لم تخلُ رحلة مارينتي من مغامرة، فبعد العديد من المغامرات الفنية والعسكرية التي قام بها الشاعر المستقبلي، كانت "كفر الزيات" هي ساحته الجديدة، ليُمارس فيها "عنفه الطفولي"_ بتعبير موسوليني_.
من هنا، يُمكننا أن نرى بوضوح هذا التناقض الحاد بين مارينتي "المستقبلي" ومارينتي "المصري"؛ فالشاعر المستقبلي مجّد الحرب، ورآها السبيل الوحيد لإصلاح العالم وتطهيره، ولم يكن المقصود، الحرب العسكرية فقط، بل الحرب بمعناها المجازي، أي العدوان والعنف والصراع وكل ما يُسَيِّل الدماء على الأرض.
أما مارينتي "المصري"، فهو ذلك الشاعر الحالم، الذي كتب نصوصاً عاشقة في كل الموجودات على أرض مصر، من الأهرامات وأبي الهول حتى الحيوانات، والنباتات، وروائح روث المواشي، في رحلة اتسمت بالروحانية والصوفية، وهو يذوب ويرقص في حلقات الدراويش في جبل المقطم، قبل أن يصل إلى جامعة الأزهر، ويستمع بخشوع إلى ترتيل القرآن، متأملاً في فناء الأزهر، راصداً خيوط الأبدية وهي تتشكل من الضوء لتستقر على المآذن وتصنع الخلود. يقول نصاً: "تسلطت علي فكرة الخلود وصاحبتني، بينما كنتُ أقوم بزيارة جامعة الأزهر. تحيط الأروقةُ فناءً كبيراً. وفي نهايتها المسجد الذي يتوه في غبار الشمس العالية. وقبة ومئذنة تمنحان الحصير الموجود أسفله ظلالاً نضرة. يُنصت التلاميذ وهم جالسون القرفصاء حول مقعد المعلم الذي يجلس عليه مربع الساقين، ويتحدث وهو يهز جذعه في حركة تماوجية. يُحاكي التلاميذ اهتزازه وهم مشدوهون في حالة روحانية مهيبة. إنها دراما مختزلة تلخص الإسلام الهائل".
البحث عن طيور السمان وفاطمة "أجمل نساء الشرق"
لم تخلُ رحلة مارينتي من مغامرة، فبعد العديد من المغامرات الفنية والعسكرية التي قام بها الشاعر المستقبلي، كانت "كفر الزيات" هي ساحته الجديدة، ليُمارس فيها "عنفه الطفولي"- بتعبير موسوليني-، وهنا يروي مارينتي بغطرسة ونزق، تفاصيل الرحلة التي كان الهدف منها قتل مائة سمانة على الأقل، والوصول إلى فاطمة أجمل نساء الشرق: "كنا عشرة صيادين مولعين. ثلاثة يونانيين وخمسة إنجليز وإيطاليين، تغمر الجميع الرغبة في قتل مائة سمانة. وكان في انتظارنا محمد الرجل، ضابط أركان الحرب الإنجليزي سير وارد، كان في انتظارنا ليصحبنا إلى ملتقى الصيد، وليأخذني إلى فاطمة أجمل نساء الشرق كله، التي حدثني عنها السير وارد".
وبعد أن حقق مارينتي رغبته النهمة في قتل السمان، رأى فاطمة أثناء عودته من ملتقى الصيد: "لاحقتني طوال اليوم عينا فاطمة الجميلة، تلكما العينان النديتان كعيون الغزلان، في الأزقة الوعرة كريهة الرائحة، التي تعج بطنين الذباب الأخضر الضخم. آه لو أنني كنتُ قد تمكنت من مقابلة الحسناء، أو لمحتها في أي نافذة، فلربما كنت قد استطعت تدبر الأمر، بطريقة أكثر رومانسية. لكن محمد قد وعدني بها بعد خروج زوجها من البيت".
وبعد قتل السمان والحصول على فاطمة، انتهت هذه الرحلة المتوحشة، بموت "محمد الرجل"، غارقاً في دمائه، حيث قتله زوج السيدة التي عُرفت بأجمل نساء الشرق: "كانت شرزمة من الناس تئن وهي مذعورة. أفسحتُ لي طريقاً بضربات مرفقي، لأتسلق فوق السلم. وأصعد إلى أعلى شرفة. كان محمد ممدداً وبطنه إلى الأرض، وسط بحرٍ من الدماء. كان الزوج قد قتل محمداً لأنه لم يكن قد دفع له أجرة مضاجعة فاطمة".
خبيئة مارينتي
"ها هو... رأس صغير رمادي ذو ذكاء عذب، وأذرع هزيلة تُجدف خارج قوقعة الشعر اليوناني الروماني الضخمة ذات الصبغة المثقفة، خميل أحمر قان وأطر صور تُمطر قروناً منسحقة كالرماد". إنه قسطنطين كفافيس، الشاعر اليوناني المصري، الذي فضل الإسكندرية مسقط رأسه على بلده أثينا النائية. التقاه مارينتي في أحد مساءات شهر كانون الثاني/يناير، وبالنظر إلى الشغف الهائل من جانب الشعراء تجاه كل ما يتعلق بكفافيس، لندرة ما كُتب عن حياته، فيُمكننا اعتبار هذا اللقاء، هو خبيئة كتاب مارينتي، فليس ثمة سيرة حياتية مكتوبة لصاحب "في انتظار البرابرة"، حتى أن وجوده يبدو كحلمٍ في أخيلة الشعراء وقراء الشعر، وربما هذا ما رسخ لأسطورته، كأحد أعظم الشعراء الذين تغنوا بتاريخ الإسكندرية الهائل.
يوحي عنوان الكتاب بأجواء استشراقية، لكنه في الحقيقة لا يمت للكتابة الاستشراقية بصلة، فقد جاءت فصوله في شكل نصوص شعرية مكثفة، لشاعر مستقبلي، توفي في إيطاليا بعد ما يزيد عن عشر سنوات من رحلته إلى مصر في 1944، مخلفاً وراءه ضجيج الحركة المستقبلية، الذي خفت وتلاشى مع الزمن
دار الحوار بين كفافي وماريتني حول شعر المستقبل. وقد امتدح شاعر الإسكندرية الحركة المستقبلية وصرح بأن "تأويلها الرمزي للمراحل التاريخية التي طبقت على الحياة البائسة المعتادة لهو ظاهرة صحية". مضيفاً بأنه يجب صياغة هذا التأويل في الشعر الحر، دون اللجوء إلى الأوزان الشعرية القديمة أو القافية.
ويروي ماريتني في كتابه: "بدا كفافي متأثراً، وقدم لي مزة الجبن من جديد مع الويسكي، وشرح لي رغبته في أن ينحت بشكل أدبي اللغة اليونانية الشعبية في أبيات شعره الحر. وأشار إلى أنها تتمتع بحيوية قوية في مظهرها الخارجي وذلك في مقابل القواعد الكلاسيكية التقليدية التي بسبب تمسكها بالماضي بشكلٍ صارم، آل مصيرها إلى الفناء على أرفف المكتبات فحسب".
وفي نهاية اللقاء، قرأ كفافي إحدى قصائده الشعرية التي لم تُنشر بعد، وهي قصيدة بعنوان "الإله يغفو ويتخلى عن أنطونيو". خرج مارينتي من بيت كفافي منتشياً، وفي خياله تموج صورة لترعة المحمودية وهي "تمتلئ بسائل فضي من الحنين، كأبيات الشعر الحديث العتيق لشاعر الإسكندرية اليوناني: قسطنطين كفافيس".
يوحي عنوان الكتاب بأجواء استشراقية، لكنه في الحقيقة لا يمت للكتابة الاستشراقية بصلة، فقد جاءت فصوله في شكل نصوص شعرية مكثفة، لشاعر مستقبلي، توفي في إيطاليا بعد ما يزيد عن عشر سنوات من رحلته إلى مصر في 1944، مخلفاً وراءه ضجيج الحركة المستقبلية، الذي خفت وتلاشى مع الزمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...