حضر الفنان فتحي عفيفي آخر معارض الفنان الراحل راغب عياد في بداية الثمانينيات، كان فتحي ما زال شاباً يدرس الفن التشكيلي في القسم الحر بكلية الفنون الجميلة. يهوى الفن ويبحث عن طريقه بين الكبار، فسأل بعفويته - التي باتت من علامات شخصه - الفنان الراحل عما يمكن أن يرسمه ويشكل اختلافاً في الفن، فرد عليه عياد السؤال: "إنت منين؟" فأجاب فتحي بأنه من حي السيدة زينب ويعمل فنياً في أحد المصانع، فأجابه عياد: "خليك زي ما انت". وكانت إجابته الشرارة التي انطلق من خلالها فتحي منذ الثمانينيات ليصبح واحداً من أهم ممثلي الحركة التشكيلية في مصر، وصاحب مشهدية مختلفة تماماً عن فناني جيله وما تلاه من أجيال، لذا جاء حصوله على جائزة الدولة للتفوق الأسبوع الماضي متوقعاً وإن كان متأخراً.
"الآن أمشي في الشوارع فأشعر أنها لا تخصني، فقدت ألواني بعد ظهور التدين المظهري، ولم يعد ما أرسمه موجوداً في الواقع"
تتكرر في لوحات فتحي عفيفي تيمات الحي الشعبي، بشوارعه ومبانيه وموالده وفنونه، كما يتجلى فيها تفاعل عمال المصانع مع الآلات والتروس، تلك هي العوالم التي خبرها واستحوذت على فنه، واستحق برؤيته لها الاحتفاء والتقدير.
عبَّر الفنان الراحل حسين بيكار عن إعجابه بمعرض عفيفي الأول وكتب عنه معتبراً إياه "فنان ابن بيئته"، وذلك بعد أول معرض فردي أقامه فتحي عام 1982، وكان قبل ذلك قد شارك في معارض جماعية أو معارض هواة من خلال اتحاد شباب العمال، ومن خلاله أيضاً أسس مسرحا عمالياً ونشاطاً للفن التشكيلي. وخلال مسيرته الممتدة في العقود الماضية، أقيمت له عشرات المعارض داخل وخارج مصر كما شارك في فاعليات هامة وحصد جائزة تحكيم أولى في بينالي القاهرة الدولي.
حديث عفيفي لرصيف22 عن بداياته جاء فطرياً كلوحاته، يتنقل بين ذكريات طفولته في السيدة زينب وبين عمله كفني في أحد المصانع، كما يتنقل في لوحاته ما بين الألوان المبهجة وبين الأبيض والأسود، يتمسك بتيماته ويتطور من خلالها ولا يعترف بالمراحل الفنية: "أنا مؤمن بتيمتي وأقوم على تطويرها، فأنا ابن بيئتي الشعبية".
تتكرر في لوحات فتحي عفيفي تيمات الحي الشعبي، بشوارعه ومبانيه وموالده وفنونه، كما يتجلى فيها تفاعل عمال المصانع مع الآلات والتروس، تلك هي العوالم التي خبرها واستحوذت على فنه، واستحق برؤيته لها الاحتفاء والتقدير
التعليم الصناعي والحلم الناصري
في إحدى لوحات فتحي عفيفي، تركب فتاة على دراجة حمراء وإطاراتها ملونة، فستان الفتاة القصير والبيوت من حولها والزينة المعلقة ملونة وأسطح العمارات أيضاً، تبدو حركة الهواء في تمايل الشعر والزينة والفستان، ويبدو أن انطلاقها تحول إلى طيران في السماء، يشير فتحي إلى أنه قدم أوراقه إلى مدرسة تعليم صناعي فني في حلوان وهو من أبناء حي السيدة زينب دون علم أهله، لمجرد أن يركب المترو في الطريق كل يوم من السيدة إلى حلوان. إحساسه بالانطلاق والحرية ومراقبة العالم كان طاغياً.
لم تكن لديه دراجة لكن الدراجة والمترو وكل وسائل الانتقال التي تعبر على المشاهد الحياتية في الشوارع، مثلت ما أسماه بـ"التغذية البصرية"، لذلك يتكرر وجودها في لوحاته الملونة التي توحي بالبهجة والسعادة، يعلق فتحي: "كان فيه تروماي يخرج من السيدة زينب للعباسية، وحتى الآن أرسم الجامع والقطار والمصنع التي كنت أراها في الطريق". مشاهد الطفولة هي الأكثر إلحاحاً على ذاكرته البصرية، مشاهد القطارات وحركة الخروج والدخول منها، تأتي في لوحات ملونة كذكريات طفولته.
عفيفي: كنت أعمل سبع ساعات في اليوم، ولم تكن هناك حياة اجتماعية صاخبة، وكانت هناك قاعة فن تشكيلي في باب اللوق أزورها باستمرار، وتكونت لدي رغبة في معرفة كيف تُرسم اللوحة؛ فالتحقت بالقسم الحر من أجل تذوق ما أراه، وليس من أجل احتراف الفن"
كان التعليم الصناعي والفني أساسياً في فترة الستينيات، وهو ما عاصره صاحب جائزة التفوق، ويقول عن ذلك: "التعليم كان قوياً ومميزاً، والأنشطة المدرسية أساسية والحلم الناصري ببناء دولة صناعية مستقلة مسيطراً"، وكان لعمله كفني في أحد المصانع أكبر الأثر على لوحاته، لوحات بالأبيض والأسود، لتروس ومعدات وأجهزة ورجال بقامات طويلة وأجساد مشدودة يتفاعلون مع الآلات، أو يتجهون لدخول المصنع في مجموعات.
في إحدى اللوحات ألوان تظهر في بؤرة اللوحة، تشير إلى بعض العمال يتناولون طعامهم وقت الراحة، وكأنه اختار اللونين الأبيض والأسود، وأحياناً الأزرق والرمادي، للتعبير عن العمل وما يحتاجه من قوة وبأس، في مقابل بهجة الطفولة والحي الشعبي. التعبير عن ديناميكية العمل في مقابل الراحة والبراءة.
مارس فتحي الفن التشكيلي بالصدفة بعدما التحق بالقسم الحر بمعهد الفنون الجميلة، الذي أنشأه الفنان طه حسين - وهو غير سميّه عميد الأدب العربي- من أجل الموهوبين الذين منعتهم ظروف الحياة من الالتحاق بالدراسة النظامية، ومن أجل التذوق فقط. يقول برصيف22: "كنت أعمل سبع ساعات في اليوم، ولم تكن هناك حياة اجتماعية صاخبة، وكانت هناك قاعة فن تشكيلي في باب اللوق أزورها باستمرار، وتكونت لدي رغبة في معرفة كيف تُرسم اللوحة؛ فالتحقت بالقسم الحر من أجل تذوق ما أراه، وليس من أجل احتراف الفن".
دخل عفيفي القسم الحر في كلية الفنون الجميلة كي يتذوق الفن، فوجد نفسه يحترفه، وبقي في عمله كفني آلات في المصنع، ليقدم فناً به مزيج من الخبرات الثرية التي عاشها.
تفاصيل الحي الشعبي وواقعيته
يتقاطع عفيفي مع فنانين كبار عاشوا داخل الأحياء الشعبية وأثرت على عوالمهم، لكنه يقترب من عالم عبد الهادي الجزار تحديداً في إحدى مراحله الفنية، فإن كان الجزار قد ولد في الإسكندرية، فهو عاش في السيدة زينب حيث وُلد فتحي عفيفي، إلا أن هناك حضوراً أكبر للفولكلور ورمزيته الغرائبية في لوحات الجزار، بينما فتحي ينطلق بعفوية واقعية لها تركيبة خاصة، تحمل رمزيتها في تفاصيلها الدرامية في كثير من الأحيان، حيث تعبير الوجه وحركة الأجساد وتفاعلها معاً، وهو ما يعلق عليه فتحي: "الجزار نقل الجو الشعبي بحس سيريالي، أنا أتأثرت به لكن من خلال المدرسة التعبيرية".
ساكن في حي السيدة
ولد فتحي في شارع خلف جامع ابن طولون حيث كان يسكن بجواره الكاتب المسرحي علي سالم وأخوه العازف المشهور سيد سالم الذي كان يعزف في فرقة أم كلثوم. ويحكي فتحي أنه كان يعيد عزف وصلاته لأهل الحي بعد أن يعود من الحفل إكراماً لجيرانه. يروي فتحي أيضاً عن تعلقه بالسينما عبر دور العرض التي وجدت في حيه الشعبي، وليس هذا ببعيد عن لوحاته التي تأثرت بأفلام الأبيض والأسود، لكنه أعاد إليها الحياة بألوان مبهجة، فنجد ليلى مراد ونعيمة عاكف وهند رستم داخل مشاهد من أفلامهم بالألوان الطبيعية. كذلك كانت تتوفر الكتب بأسعار زهيدة في طفولته وصباه عبر مشروعات النشر التي تبنتها الدولة من خلال وزارة الثقافة والإرشاد القومي، فكان الأدب من مكونات خياله، خاصة الحارة الشعبية التي قدمها نجيب محفوظ.
ظل حضور الحي الشعبي بخصوصيته مركزياً في أعمال فتحي عفيفي منذ أن أشار إليه عياد وبيكار في بداياته إلى الآن، إذ ما زال مرسمه في حي طفولته، السيدة زينب، وما زال متعلقاً بالفولكلور المصاحب للموالد والحضور الطقسي الروحاني للطرق الصوفية، والمراجيح والألعاب الشعبية وغيرها، يعلق عفيف: "مولد السيدة [زينب] هو فرحة ومتعة كبيرتان، كأنه مسرح شعبي، تنطلق فيه كل الفنون السمعية والبصرية، ربما لم يعد كما كان لكنه ما زال متنفساً فنياً للمنطقة". أسأله: "لوحاتك تخلد ماضي الحي الشعبي، فلم لم تقدم في لوحاتك تحولات هذا الحي وتغيراته التي عشتها عبر أجيال؟"، فيجيب: "أنا متأثر بالسيدة الستينية (أي حي السيدة في الستينيات) وأفتخر بذلك. كل فنان يُخلِص إلى المكان والزمان الذي ينتمي له روحياً، ومن وجهة نظري هذا ما يكون الهوية المصرية".
رسم السيدة زينب والحي الشعبي بالألوان المبهجة بعفوية طفل، لكنه يشعر الآن بأن الشوارع لا تشبه خيال طفولته: "أعود إلى الماضي، وأرقض استعارة التحولات، أستعين ببيئتي وثقافتي منذ الطفولة، احترمت ما عشته فاحترمني الجميع. الآن أمشي في الشوارع فأشعر أنها لا تخصني، فقدت ألواني بعد ظهور التدين المظهري، ولم يعد ما أرسمه موجوداً في الواقع". لذلك لا يريد أن ينقل التحولات إلى لوحاته فهي لا تخص ذاكرته ولا ما يريده أن يبقى في الذاكرة البصرية لمصر التي تخص مخيلته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعتين??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 22 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون