شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
في

في "أطلس" سعاد عبد الرسول... عيون تبحث عن أرواحها في سماء بعيدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 22 فبراير 202304:04 م

كيف نرسم خريطة لأرواحنا المثقلة ونتخفف من أحمالها؟

منذ دخلت إلى معرض "أطلس" للفنانة سعاد عبد الرسول، الذي يستمر في غاليري مصر بالزمالك حتى غد الخميس، 23 فبراير/ شباط، شعرت أن لوحاتها ما هي إلا محاولة لطرح هذا السؤال، حتى إن ظل محلقاً بلا إجابة. إذ تعي الفنانة الشتيكيلة المصرية الشابة أن الفن لا يقدم إجابات.

ترسم سعاد في لوحات معرضها خريطة لأرواح وأجساد نساء باحثات عن أطلس لوجودهن في عالم مواز. تعبر هذه اللوحات عني، وعن طبقات نفسية عميقة يصعب لمسها إلا بأصابع ساحر، وعن أماكن لم أزرها لكنها تخصني، وأزمنة سحيقة سبق أن عشتها أو ربما ما زلت أعيشها في بعد آخر، وعن أحلامي التي لا أتذكرها ولكني أستيقظ وقد تركت أثرها على جسدي وروحي، وعن نسوة يلتحمن مع الطبيعة بحيواناتها ونباتاتها وعريها وصخبها وسكونها، بعيداً عن أمكنة وأزمنة لا تسعهن ولا تسع كينونتهن، ومجتمعات لا تحتمل حضورهن خارج أطر مصنوعة من قبل ميلادهن.

تعبر هذه اللوحات عني، وعن طبقات نفسية عميقة يصعب لمسها إلا بأصابع ساحر، وعن أماكن لم أزرها لكنها تخصني، وأزمنة سحيقة سبق أن عشتها أو ربما ما زلت أعيشها في بعد آخر

وجوه متشظية

تلوح لك هذه الحالة بواقعيتها وغرائبيتها عبر وجوه وأجساد في حالة تشظٍ، وجوه سمراء محطمة، تتعدد درجات ألوانها أحياناً كأنها أكثر من شخص، فتلك الأصابع الداكنة التي تحاول كتم فم الوجه الأسمر الفاتح في لوحة "أتركني أتحدث"، كأنها تخص شخصاً آخر يحاول إسكات السيدة، أو كأن الذات منقسمة على نفسها بين الكتمان والبوح، والذراع الأخرى تحمل ديكاً ساكناً، ويحيط جسد السيدة وجسد الديك غلالة بيضاء شفافة، تظهر في كثير من لوحات سعاد، كحاجز يحمي شخوص لوحاتها من العالم، وإن كان كاشفاً نصف المرأة السفلي غائصاً في الماء؛ بينما تلوح نباتات خلفها كعلامات للحياة.

في لوحات أخرى تتكرر الرموز لكن عيون الوجوه المحطمة وداخلها تنظر في أتجاهات مختلفة، بعضها معلق بالسماء، والآخر يبحث عن بغيته على الأرض. ملامح تخص هوية جديدة تعبر عنها سعاد في كتالوغ المعرض: "من أين أتت وجوهي المحطمة؟ وجهي خريطة وجسدي أيضًاً خريطة، فمي المنحرف ناحية البحر لا يرتوي أبداً، وأنفي تكسر أو استطال وأنشق نصفين ليلاحق رائحة ما في الذاكرة، وعيناي تعلقتا بالسماء بعد أن تكاثرتا لتلملما الكم الأكبر من التفاصيل. الأرض شتتّ ملامحي، في الوقت نفسه، لا شيء احتوى على وجهي إلا هي".

مواجهة "الأرنب"

"أطلس" يختلف عن كل معارض سعاد السابقة التي بلغت عشرة أقيمت في القاهرة ونيروبي ومراكش ولندن ودبي، كما أن هناك لوحات تقطن متاحف للفنون حول العالم بعد اقتنائها، مثل متحف شازين ومتحف ورستر في الولايات المتحدة الأمريكية، ومتحف الفن الحديث في مصر.

ثمة صخب جماعي كان يسيطر على لوحات المعارض السابقة، علاقات الأجساد بعضها ببعض، أو علاقتها بعالم الأساطير ورموزه الغيبية. بينما في هذا المعرض هناك حضور فردي أعلى صوتاً، وملتحم بالطبيعة كما نعرفها

ثمة صخب جماعي كان يسيطر على لوحات المعارض السابقة، علاقات الأجساد بعضها ببعض، أو علاقتها بعالم الأساطير ورموزه الغيبية. بينما في هذا المعرض هناك حضور فردي أعلى صوتاً، وملتحم بالطبيعة كما نعرفها، ولكن ليس بوجهها الأسطوري كما مضى، مثل لوحة "شجرة التين" حيث تلتف الأجساد البشرية فيما يشبه الدائرة محتضنة الأرانب، ومختبئة فوق الشجر.

ما زالت الأساطير والأحلام حاضرة، مثلاً في لوحة "ناجين" حيث تحتمي أجساد بشرية بعضها ببعض فوق جذع شجرة يطفو فوق الماء كأنها سفينة نوح بلا حيوانات أو طيور سوى غراب، بما قد يحمله من معنى حضور الموت. تقول سعاد لرصيف22: "في المعرض الأخير أتخلص من الأسطورة وألمس واقعي أكثر، وأقترب من نفسي ومن مخاوفي أكثر وأحاول مواجهتها، وكأنها شكل من أشكال التعافي من تاريخ كله مظالم وقهر واستبداد".

أين أنا؟ من أنا؟

تضيف الفنانة أن التجربة تنضج مع مرور السنوات. في البداية، كانت تبحث عن الجمال والتشكيل المتقن ثم اكتشفت أن حل أزماتها يكمن في استمرارها في اكتشاف ذاتها عبر الرسم، وكان أول معرض تتضح فيه تلك الصورة، هو معرض "حديقة افتراضية" عام 2019، وهوم كما تصفه "معرض درامي". تقول: "لأول مرة أكتشف أني شخص مقيد جتماعياً، وكنت أتكيف مع قيودي المباركة اجتماعياً، فلا أشعر بأنها قيد. فالكل يتعامل مع قيودي تلك، من زواج وأمومة وغيرهما باعتبارها حياة مثالية. مع التفكير والبحث بداخلي لمست أن لا شيء من ذلك يعبر عن وجودي الحقيقي".

المعرض التالي أقيم في كينيا بعنوان "خلف النهر" ، وكانت مواجهة  أخرى مع كل أزماتها، فهناك لوحة لسيدة تدفع ثوراً في المياه، وأخرى تناضل أمام أخطبوط. وتصف عبد الرسول لوحات هذا المعرض: "محاولة لمواجهة كل هذه القيود والأشباح والقسوة. كأني أكتشف قوتي وقدرتي على المواجهة. إنها محاولات للنجاة من الغرق وهو الخط المستمر في معرضي الأخير".

وتشير سعاد إلى أن قضيتها هي ذاتها وعلاقتها بالعالم، طفولتها، أزماتها، قيودها الاجتماعية المباركة مثل الزواج والإنجاب والأمومة والمجتمع والذاكرة، فحتى الذاكرة السعيدة قيد لأنها قد تربطك بمكان ما، وإن كان بيتك القديم، لكن هذه القضاياً الخاصة تشاركها فيها نساء كثيرات. فكلنا لدينا مخاوفنا التي تربينا عليها، من العالم ومن أجسادنا على سبيل المثال. وتستخدم الفنانة رموزاً من الحيوانات مثل الأرنب الذي يتكرر في معرضها الأخير دلالة على الخوف. ونجد امرأة تنظر إلى الأرنب من فوق كأنها تودع مخاوفها في لوحة "نظرة أخيرة إلى الخوف"، وهو ما تشاركنا إياه سعاد قائلة: "ما يصدره المجتمع باعتباره عادياً ليس عادياً، فالمرأة لا يمكن أن تدجن ويصبح هذا هو المعتاد، لوحاتي حالة من الرفض لهذا الاعتياد".

سعاد وجيل الرواد

تعبر سعاد عن قضاياها الخاصة، فهي لا تؤمن بالقضايا الكبرى، التي ارتبطت بجيل الرائدات من الفنانات أمثال جاذبية سري، وإنجي أفلاطون، وزينب السجيني.

لكنها تعتبر أن الرائدة تحية حليم هي الأقرب لها، فرغم إنشغالها أيضاً بالقضايا الكبرى، فإن تفاصيلها الشخصية أكثر حضوراً في منجزها التشكيلي. تقول سعاد: "كانت تحية أكثر اتصالاً بقضاياها الذاتية، خاصة أن حياتها شهدت دراما أكثر من باقي الفنانات".

لكن المشترك بين عبد الرسول  والفنانات بصفة عامة، في جيلها أو في أجيال سابقة، هو فكرة المثابرة والقوة والقدرة على العمل في ظل ظروف قاسية ومعادية أغلب الوقت. تتتبَّع عبد الرسول - بفردية وخصوصية- أثر واقع النساء المؤلم والأحلام العصية، يمكنك الإمساك بتلك العناصر بين ملامح وجوهها المتشظية، وألوانها الصارخة أحياناً أو التي تميل للقتامة أحياناً أخرى. وقد تجمع لوحة واحدة بين صخب الألوان وقتامتها، كأنه صراع آخر بين البهجة والحزن، بين المقاومة والانكسار، وهذا ما كانت تفعله منذ تخرجها في كلية الفنون الجميلة عام 1998، ثم حصولها على درجة الدكتوراة في تاريخ الفن الحديث عام 2012، ولم يكن معرضها الأخير سوى خطوة في الطريق الفني اللافت، والذي جعلها واحدة من أنجح فنانات جيلها وأكثرهن فرادة وتميزاً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard