شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"عليّ أن أردد صلاة للغفران إذا غنيت أو ضحكت"… "سكنات الكنائس" عالم تحكمه الراهبات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء نحن والفئات المهمشة

الثلاثاء 6 يونيو 202305:44 م

"على مدار السنوات الأربع لدراستي تغيرت علاقتي بالأم ماري، وبعد أسابيع من الكر والفر بيننا حاولت فيها أن أتجنب الشجار معها، قالت لي في إحدى المرات (إللي سمعته عن مامتك من باباكي يخليني أقولك كويس أنها ماتت قبل ماتخيبي أملها هي كمان!). جمدتني جملتها بكيت وصرخت فيها: إنتي ست مريضة. أنا مش عايزة أكون زيك أبداً، لأنك هتموتي وإنتي بتراقبي حياتنا، أنتي أصلاً ميتة".

بهذه الكلمات وثقت الكاتبة كارولين كامل في روايتها "فيكتوريا" واقع المجمعات السكن التابعة للكنيسة الأرثوذكسية "القبطية" المصرية، والمعروفة اختصاراً باسم "السكنات"، والتي تستضيف الفتيات الجامعيات أو العاملات المغتربات من المحافظات والمدن البعيدة.

تنتشر البيوت الكنسية في كل المحافظات المصرية، وهي إن كانت تابعة للكنيسة إلا أنها لا تقع تحت إدارة أسقفية بعينها داخل هيكل الكنيسة القبطية، وإنما تقع تحت تصرف كل أسقف على حدة بحسب موقع الإيبارشية التي تقع تلك البيوت في نطاقها

خصصت كامل مساحة في روايتها لعرض صورة هذا العالم الذي تديره المكرسات "الراهبات" المسؤولات عن هذه السكنات، وما بينهن وبين الفتيات (النزيلات) من صدام فكري إذ يتلاقى عالم الراهبات المكرسات القائم على الزهد والتقشف، والموت عن العالم في مقابل النزيلات الشابات المقبلات على الحياة بكل مافيها.

تنتشر البيوت الكنسية في كل المحافظات المصرية، وهي إن كانت تابعة للكنيسة إلا أنها لا تقع تحت إدارة أسقفية بعينها داخل هيكل الكنيسة القبطية، وإنما تقع تحت تصرف كل أسقف على حدة بحسب موقع الإيبارشية التي تقع تلك البيوت في نطاقها.

وتقبل السكنات طلبات الفتيات للسكن من خلال خطاب تزكية من كاهن كنيستهن، ومقابل مبلغ يُدفع سنوياً أو شهرياً، يضاهي المبلغ المدفوع في أي منزل خارجي، وتدير السكنات إما راهبات مكرسات أو "علمانيات" أي نساء وفتيات متدينات لكنهن لم يسلكن طريق الرهبنة، لكنهن خادمات بالكنيسة. ويُقبل أهالي الطالبات المسيحيات على هذا النوع من البيوت لشعورهم بالاطمئنان وارتفاع نسبة الأمان فيها، إذ يتركون بناتهن في قبضة وحماية الكنيسة في محافظات بعيدة.

"تجبرنا تاسوني على حضور قداس كل أسبوع وهناك صلاة إلزامية كل يوم لمدة ساعة، ورغم أن السكن به طوائف مختلفة مثل الإنجليين، لكنهم مجبرين على حضور الصلوات الأرثوذكسية وإلا مصيرهم الطرد"

الغناء والضحك حرام

تعيش مورين عادل* الطالبة في جامعة بني سويف لأحد المساكن الكنسية منذ ثلاثة أعوام، بعد إصرار أسرتها، تقول مورين: "المسؤولة عندنا مكرسة نناديها تاسوني (أي الاخب المكرسة باليونانية)، ولتاسوني قواعد صارمة وصلت لدرجة الملل والاختناق".

تشرح مورين: "كل يوم قبل خروجنا للجامعة لا بد أن تعطينا تعليقات على ملابسنا، إذ لها شروط معينة مثل أن تكون البلوزة تغطي أكتر من نصف الذراع، ويكون اللبس مقفول، ولو حد لابس غير كده بيطلع إجباري يغيرها ومش بينزل الجامعة لو رفض".

تتنهد مورين بينما تسرد بقية القواعد: "تجبرنا تاسوني على حضور قداس كل أسبوع وهناك صلاة إلزامية كل يوم لمدة ساعة، ورغم أن السكن به طوائف مختلفة مثل الإنجليين، لكنهم مجبرين على حضور الصلوات الأرثوذكسية وإلا مصيرهم الطرد، كذلك تشدد علينا حضور فيلم ديني كل يوم خميس".

وبخصوص قرارات السفر من وإلى السكن: "لازم قبل أي سفر الأسرة تتصل ويبلغوا بسفري وبتفاصيل مواعيد القطار، وهكذا عند الرجوع. ولا تٌقبل الأعذار مهما كانت قوية عند التأخير على الوقت المحدد للرجوع ولو لمدة ربع ساعة، وقتها توقع غرامة تصل إلى 200 جنيه". 

"نلجأ لسكن الكنيسة لأنه أمان من وجهة نظر أولياء أمورنا ولكي يحقق لهم الاطمئنان علينا، لكن مقابل الأمان ده بندفع أضعاف الثمن، سواء مادياً في إيجار السكن اللي يفوق سعره أي سكن عادي، أو معنوياً في التشدد والتضييق"

لا تقف القواعد عند التزامات الزي وصرامة المراقبة والتشديد في مواعيد الرجوع، بل تمتد إلى النشاطات الخاصة داخل السكن، تحكي مورين: "تقول صديقاتي إن صوتي جميل وأحب الغناء والموسيقى، وفي يوم كنت أدندن في غرفتي بالسكن وسمعتني تاسوني فغضبت وقالت لي (متغنيش تاني لأن كده حرام)  حتى النكت وإفيهات الأفلام ممنوعة وإذا قالتها أي فتاة وسمعتها فوراً تجبرها أن تصلي الصلاة السهمية لطلب الغفران: (يا ربي يسوع المسيح ابن الله ارحمني أنا الخاطئ. يا رب يسوع المسيح ارحمني. يا ربي يسوع أعني) وكأن الضحك خطيئة".

تنهي مورين حديثها: "نلجأ لسكن الكنيسة لأنه أمان من وجهة نظر أولياء أمورنا ولكي يحقق لهم الاطمئنان علينا، لكن مقابل الأمان ده بندفع أضعاف الثمن، سواء مادياً في إيجار السكن اللي يفوق سعره أي سكن عادي، أو معنوياً في التشدد والتضييق".

أما بالنسبة لصوفيا رفيق* التي كانت تسكن في بيت كنسي بالفيوم فتحكي: "عانيت معاناة شديدة من تسلط المكرسة المسؤولة عن السكن، والتي كانت تتدخل في كل ما يخصني حتى أنها ذات يوم كانت أمي موجودة معي فصرخت فيً أمامها بسبب أني أحب الجلوس وحدي وفي هدوء وقالت لأمي (بنتك محسساني إن عندها توحد والنظام ده مينفعش هنا)".

"مره أبونا أتكلم واتريق كتير أوي على البنات إللي بتقرر تأجل الخلفه فترة، وإنهم السبب في خراب البيوت وإن من حق الراجل يخلف وإنت كدا بتمنعيه من حقه فمستنيه منه إيه؟ وإنه مفيش حاجه عندنا اسمها تنفصلي إنت حتى لو بتتضربي المشكلة من عندك، ولازم إنتي اللي تحليها، وده مش سبب لتاجيل الخلفه او الانفصال"

وتكمل: "كان ممنوع علينا الخروج بعد السابعة مساءً، وهو موعد صعب للغاية وتحديداً للطالبات في الكليات العملية التي تتطلب التأخير، وكان ممنوعاً علينا أن نلبس براحتنا، حتى في غرفة نومنا تحاصرنا، وأما عن شرفة الغرفة فقامت التاسوني بإزالة كافة لمبات الإضاءة منها حتى تمنعنا من الجلوس فيها".

أما ما كان يثير حفيظة صوفيا دائماً فهو الوعظات الإجبارية التي كانت كلها عبارة عن "كلام ذكوري بشع يتم زرعه في عقول الفتيات المقبلات على الزواج" على حد وصفها، تحكي عن واحدة من تلك المرات: "أفتكر مره أبونا أتكلم واتريق كتير أوي على البنات إللي بتقرر تأجل الخلفه فترة، وإنهم السبب في خراب البيوت وإن من حق الراجل يخلف وإنت كدا بتمنعيه من حقه فمستنيه منه إيه؟ وإنه مفيش حاجه عندنا اسمها تنفصلي إنت حتى لو بتتضربي المشكلة من عندك، ولازم إنتي اللي تحليها، وده مش سبب لتاجيل الخلفه او الانفصال".

في السياق نفسه تقول كارما التي تعمل في مجال الطب ولها تجارب مع سكنات كنسية مختلفة، إنها سكنت لفترة في واحد من بيوت المغتربين التابعة للكنيسة أثناء عملها، وكانت مسؤولة من ضمن العلمانيات (ليست راهبة لكنها خادمة في الكنيسة)، لهذا كانت أقل تشدداً لكنها كانت - كما تقول- تمارس عليهم الضغط النفسي ذاته تحديداً من ناحية الإجبار على الصلاة: "بتجمعنا للصلاة بطريقة مزعجة جداً". وتواصل كارما: "السكن المجاور لنا كانت تديره راهبة، أجبرت صديقتي الطبيبة على المبيت في المستشفى لأنها وصلت السكن بعد موعد الإغلاق المحدد بسبب عملها".

وتضيف: "بخصوص السكنات بشكل عام، كنت من فترة قليلة أنهي بعض الأوراق الخاصة بي في محافظة الغردقة، وكنت أحتاج لسكن للمبيت فهاتفت صديق لي يدرس هو في الكلية الإكليريكية ليُرشِّح لي سكن كنسي للمبيت ليلة واحدة، تفاجأت أن الأسقف له تعليمات بمنع النساء من المبيت في البيت الكنسي دون مِحرم".

ضغوط لا تنقطع

أما ماريا التي تحترف الكتابة الصحافية والأدبية، فتذكر أن صديقاتها كن يسكن في بيت كنسي بمصر الجديدة، و"كانت الراهبة المسؤولة تشدد على معايير الملابس بشكل غير معقول، لدرجة أن واحدة من صديقاتي جاءت منهارة ذات يوم وهي تقول (أنا مش عارفة ألبس إيه مقفول أكتر من كده مش عارفه أرضيها إزاي تاني)".

كانت ماريا خلال فترة دراستها تقوم بعمل ملخصات للمواد الدراسية، وذات يوم اتفقت مع صديقاتها أن تمر عليهن في السكن لتسلمهن هذه الملخصات؛ فشددت عليها صديقاتها أن تمر عليهن سريعاً حتى لا تقابلها الأم الراهبة. وبالفعل ذهبت لهن وأختارت أكثر ملابسها احتشاماً، ولكن لمحتها المسؤولة فجاءتها سريعاً لتسألها: "إنتي مين؟ إسمك ايه؟ بتدرسي فين؟" أجابتها ماريا بإقتضاب، فنظرت لها الراهبة وقالت: "هو ده لبس تلبسيه ؟ إنتي بتشوفي صورة العذراء مريم؟ هل لبسك يتقارن معاها؟". 

القمص إفرايم عدلي كاهن كنيسة مارجرجس بالمنيا: "لكل بيت لائحة داخلية يتم إطلاع الطالبة وولي أمرها عليها قبل السكن، ولا تتدخل الكنيسة في عمل المكرسات على الإطلاق إلا في حالة مايستدعي ذلك"

ردت ماريا بعد شعور بالغضب يتملكها: "العذراء مريم كانت ابنة لبيئتها وزمانها، ربما كانت ستشبهنا لو عاشت في زماننا هذا! أنا لبسي أقل من العادي النهاردة لأني عاملة حسابي إني جاية هنا لكن واضح إن حضرتك مبتقدريش".

أنفعلت الراهبة وطلبت اسم الأب الذي سمع اعترافها وبالفعل هاتفته لتشتكي منها! وحين طلب الكاهن ماريا أخبرها أن الراهبة تريد منها الاعتذار، لكن ماريا رفضت وحكت له ما جرى فرد الأب بأنها -الراهبة - "متشددة".

شهادات وتجارب سلبية كثيرة تحكيها الفتيات وأساسها الفجوة الفكرية بينهن وبين المكرسات. وقد حاولنا التواصل مع مكرسات في البيوت التي سكنتها الفتيات اللائي قبلن التحدث معنا بخصوص ما نسب إليهن لكنهن رفضن الرد.

كاهن: لسن متشددات والحرية لها حدود

تواصل رصيف22 مع عدد من الآباء والقساوسة للتعليق، ووافق على الحديث القمص إفرايم عدلي كاهن كنيسة مارجرجس بالمنيا ووكيل مطرانية المنيا، الذي شرح لرصيف22 أن الكنيسة تخصص بيوت للطالبات والمغتربات "من أجل الحفاظ عليهن ورعايتهن، وكثير من الأهالي يطلبون سكن بناتهن في بيوت الكنائس لثقة هؤلاء في إدارة البيت ونظامه". مؤكداً: "جميع المكرسات المسؤولات عن هذه البيوت حاملات مؤهلات عالية، وسبق لبعضهن العمل قبل التكريس، ويتم اختيار المشرفات على البيوت عن طريق إعلانات بالكنائس وتزكية الكاهن المسؤول وبعد مقابلة شخصية".

وبخصوص قواعد البيوت يشرح: "لكل بيت لائحة داخلية يتم إطلاع الطالبة وولي أمرها عليها قبل السكن، ولا تتدخل الكنيسة في عمل المكرسات على الإطلاق إلا في حالة مايستدعي ذلك".

يختم القمص إفرايم عدلي: "بيوت الكنيسة لها خصوصية يجب التعامل على أساسها، ويتم إعلان ذلك بوضوح. ولكن من المعروف أن الشباب يريد العيش بحرية ولا يطيق المحاسبة حتى من والديه، من هنا تظهر المشكلات التي تتمثل في عدم إلتزام الساكنات بالقواعد. وعندما تشتكي فتاة أو اثنتان من ضمن 70 فتاة؛ فهذا لا يسيء للبيت، خاصة أن أي استثناء يُضعِف المكرسة التي تفرض هذه القواعد من أجل مصلحة باقي الفتيات، لذلك لا يجب اتهامها بالتشدد".

اشتراطات كنسية

يقول المفكر القبطي ومؤسس التيار العلماني في الكنيسة كمال زاخر: "ربما تكمن المشكلة في إعداد المكرسات علمياً وميدانياً للقيام بهذه المهمة، وهو أمر نجح فيه مطران بني سويف الراحل الأنبا إثناسيوس مع المكرسات التابعات له، ولعل الكنيسة تنظم منظومة المكرسات بشكل جماعي وتوليهن عناية خاصة في الإعداد والمتابعة، أي أنه في كل الأحوال يجب خضوع المشرفات لكورسات تدريب منضبطة وجادة".

يوافقه في الرأي نفسه القمص بولس القمص ميخائيل كاهن كنيسة مار يوحنا بالقوصية، الذي يضيف:  "هذه شكوى متكرره من الفتيات، والأفضل أن يقوم بمهمة الإشراف شخصية مرنة غير متشددة بجانب بعض الشروط الأخرى، مثل أن تكون في سن النضوج لا طياشة العناد، كما يجب أن يكون لها عمق روحي حقيقي وروح الخدمة والمحبة، ويرى القمص بولس أن الشرط الأهم أن تكون لها دراسات نفسية اجتماعية بجانب الثقافة والانفتاح وألا تكون شخصية معقدة".

*تم تغيير الاسم بناء على طلب المصدر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image