شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"ليونارد وهنغري بول"... كيف تصنع دراما في رواية بلا أشرار؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 2 يونيو 202310:00 ص

"حينما وضع ليونارد سماعة الهاتف شعر بمزيج غير مريح من الإحساس بالذنب والخيانة، وقد خذل هنغري بول، صديقه الأفضل والحقيقي والوحيد. الرجل الذي وقف بجانبه في كل شيء وادخر له مكاناً دائماً في حياته (الهادئة ولا شك).

لم تكن الصداقة القائمة بينهما محض صداقة ملائمة بين رجلين هادئين ووحيدين قليلي الخيارات، ولكنها كانت عهداً، عهداً على مقاومة دوامة الانشغال والجلافة التي اجتاحت بقية العالم، عهداً على البساطة في مقاومة قوى التنافس والضجيج".

لم تكن أحاسيس "الذنب والخيانة" وكل تلك المشاعر الرهيبة التي شعر بها ليونارد تجاه صديقه الأقرب، إلا لأنه اضطر إلى تأجيل لقائهما المعتاد للعب "المونوبولي"، لتضاربه مع موعد – غير معتاد - بين ليونارد وشيلي "فتاة إجراءات السلامة" التي أعجب بها في محل عمله.

للوهلة الأولى، يصعب على القارىء أن يميز بين عنوان الرواية "ليونارد وهنغري بول" واسم مؤلفها "رونان هيجن" غير المعروف للقارىء العربي، والذي حقق نجاحاً أدبياً مفاجئاً حين أصدر روايته الأولى قبل ثلاث سنوات، فترشحت للقائمة الطويلة لجائزة ريبابليك أوف كونشنس

في عالم آخر، أو في علاقة صداقة أخرى بين شخصين سيصفهما العالم المعاصر بـ "الناضجين"، لم يكن سيشعر أي من الصديقين بمشاعر الذنب تلك لمجرد تفضيل أحدهما لقاء فتاة على الموعد مع صديقه.

لكن ليونارد وهنغري، الصديقين الأقرب إلى طفلين كبيرين، كاناً أكثر وعياً بنقاء صداقتهما، وخصوصيتها في "عالم الانشغال والجلافة"، إلى درجة أن أبسط تغيير، وأصغر "خيانة"، قد تغمرهما بمشاعر لا تختلف كثيراً عن مشاعر طفل غابت أمه عن عينيه لثوان قليلة.

 للوهلة الأولى، يصعب على القارىء أن يميز بين عنوان الرواية "ليونارد وهنغري بول" واسم مؤلفها "رونان هيجن" (Ronan Hession) غير المعروف للقارىء العربي، وهو غير ملوم في عدم معرفته بذلك الموسيقي الأيرلندي الحائز جوائز فنية، الذي حقق بشكل مفاجىء نجاحاً أدبياً حين أصدر روايته الأولى "ليونارد وهنغري بول" قبل ثلاث سنوات، فترشحت للقائمة الطويلة لجائزة ريبابليك أوف كونشنس، ونقلت إلى العربية مؤخراً على يد المترجم القدير أحمد شافعي، صادرة عن دار أثر.

من أجل العالم البرىء للصديقين هنغري وليونادر، لا تلجأ الرواية إلى الارتحال لزمن آخر، أو صنع كون خيالي، بل تنبع خصوصيتها من القدرة على "العثور" على تلك البراءة في نفس العالم والزمن اللذين نحيا فيهما، تحت أعيننا وبين خطواتنا المسرعة وانشغالاتنا اللاهثة، يعيش الصديقان الثلاثينيان عالمهما النقي وصداقتهما غير العادية من فرط بساطتها.

تمنحهما الرواية وظيفتين تنتميان إلى البراءة نفسها؛ محرر موسوعات علمية للأطفال، تلك هي وظيفة ليونارد، الذي يكافح من أجل وضع لمساته الإبداعية بين التعليمات الأكاديمية الصارمة للمشرفين الرسميين على إصدار الموسوعات، الذين تحتل أسماؤهم المرموقة أغلفة الكتب التي يحررها في الواقع ليونارد. أما هنغري، الذي يعمل في مكتب البريد ليوم واحد في الأسبوع، ويعيش في بيت أسرته التي تخشى عليه أن يجد نفسه – بعد الرحيل المحتوم يوماً ما للأبوين – وحيداً في عالم التنافس والجلافة، فإنه مشغول بالاشتراك في مسابقة "طيبة" مثله، أعلنتها الغرفة التجارية لاختيار عبارة جديدة لتذيّل بها الرسائل.

تصل العبارة التي اقترحها هنغري إلى القائمة القصيرة مع عبارتين أخريين: إحداهما "رجاء لا تتردد في التواصل"، التي رأت لجنة التحكيم أنها مقبولة وعملية ولكنها "ليست أصيلة تماما"، وهو حكم أقل قسوة من نظيره على العبارة الأخرى "لست غريباً أنت صاحب بيت" الموصوفة من المحكمين بأنها وجيزة ومباشرة وغبية، وربما أيضاً لم تكن لتصل إلى القائمة القصيرة إلا لأن جميع من اشترك في المسابقة كانواً ثلاثة أشخاص فقط، هكذاً فازت العبارة التي اقترحها هنغري بول بالجائزة والتكريم في المجتمع المحلي، وبمبلغ مالي هائل غير متوقع، ولكن لأنه هنغري لا أحد آخر، فإن لا فكرة لديه على الإطلاق عما يمكن أن يفعله بكل هذا المال.

إنه أقل "نضجاً" – في رأي الآخرين على الأقل – من أن يمتلك خططاً حقيقية لاستغلال أموال الجائزة، إلى درجة تنتقل بمشاعر أخته جريس التي تستعد للزواج، من الشفقة والقلق عليه، إلى الغضب منه.

الرواية، وهي تخلق عالمها المسالم، لا تقع في فخ أن تبني ذلك العالم على أعمدة الرفاهية والحياة السهلة، إن هنغري وليونارد شخصان عاديان، لديهما المشكلات الحياتية والمالية ككل شخص آخر، إنهما فقط يتمتعان بالقدرة الفريدة على إيجاد الطيبة في العالم، عبر تفكيك عناصره

المال الذي عرضه "المجتمع" فجأة على هنغري، والتعليمات الأكاديمية الجافة التي تتوالى على بريد ليونارد، والتناقض بين الآمال "الناضجة" التي يضعها الأهل والزملاء على الصديقين وبين طبيعتهما شبه الطفولية، هي نماذج لكيفية خلق "صراع درامي" في رواية بلا أشرار، رواية تحتفي بالطيبة والنقاء والحنان والطرافة، بالألعاب المنزلية والبيجامات البيتية وتأمل النجوم وإطعام الطيور وقضاء الوقت مع الأصدقاء، وتستكشف الدهشة في كل سطر؛ في حفل تسليم الجائزة يتعرف هنغري على أرنو، مؤدي التمثيل الصامت "بانتومايم" الذي يقدم أحد عروضه في الحفل.

يُعجب أرنو بـ "صمت" هنغري الذي عجز عن إلقاء كلمة في الحفل بعد فوزه مكتفياً بالسكوت، فيعرض عليه أن يكون متحدثاً رسمياً باسم الاتحاد الوطني للتمثيل الصامت. بما تضمه تلك الوظيفة – وذلك التعبير – من تناقض. في فترة حرجة لا يواجه فيها الممثلون الصامتون مشكلة انحسار جماهيريتهم فحسب، بل يعانون كذلك من منافسة "الدخلاء"، أي مؤديي "التماثيل الحية" في الشوارع، الذين يقفون صامتين بلا حراك، فيخلط الناس بينهم وبين مؤديي البانتومايم "الحقيقيين".

أما ليونارد، الذي يقضي وقتاً لا بأس به قبل أن يفهم مزحات حبيبته الجديدة ذات الشعر الكرزي، فإنه يبدأ أخيراً في وضع موسوعته الخاصة، بطلها طفل صغير من العهد الروماني، طفل عاش قبل ألفي عام لكنه عليه أن ينتظر موافقة الأكاديميين في الزمن المعاصر.

لكن الرواية، وهي تخلق عالمها المسالم، لا تقع في فخ أن تبني ذلك العالم على أعمدة الرفاهية والحياة السهلة، إن هنغري وليونارد شخصان عاديان، لديهما المشكلات الحياتية والمالية ككل شخص آخر، إنهما فقط يتمتعان بالقدرة الفريدة على إيجاد الطيبة في العالم، عبر تفكيك عناصره: "كان ليونارد دائماً يربط بين إحساس السلام وفكرة السعادة، وكأنه حالة ثابتة تتحول إليها السعادة حينما تكون حقيقية.

لكن ها هو يدرك أن السلام يقوم بمعزل عن أي شعور آخر"، هكذا وجد ليونادر أن السلام هو "قبول عميق بكل شيء مثلما هو، دونما أي تفضيلات مصطنعة، كان ثقل الجهد الواجب من أجل تحقيق السعادة قد انزاح عن كاهله".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image