شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
من

من "الحاج" هتلر إلى صدام "حامي العروبة"... لعنة الكاريزما ودورها في تمجيد الجلادين

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 8 يونيو 202302:34 م

من "الحاج" هتلر إلى صدام "حامي العروبة"... لعنة الكاريزما ودورها في تمجيد الجلادين

استمع-ـي إلى المقال هنا

في مصر، ليس غريباً أن ترى مطاعم أو محال بقالة، تحمل اسم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، تحت عنوان "مطعم الشهيد البطل"، أو "محل أسد العروبة والإسلام". كما لا يندر أن تجد واحداً أو اثنين في خضم حوار مُستعر حول التاريخ والصراع العربي الفلسطيني، يُمجدان الفوهرر أدولف هتلر ويعظمانه ويباركان جرائمه في حق الإنسانية.

ولكن، أيُّ سرٍ مكنون يفرض على هؤلاء تمجيد الطغاة والتهليل لهم؟

الكاريزما

يقول الفيلسوف الألماني ماكس فيبر: "إن الذي يسأل: هل يجب استخدام القوة في السياسة؟ كالذي يسأل هل يجب استخدام الذكاء في العلم؟"، ويرى أن السبب وراء تمجيد البعض لهؤلاء يكمن في الكاريزما. ففي كتاب "فصول في سوسيولوجيا الأديان"، يذكر الكاتب اقتباسَ فيبر لمصطلح السلطة الكاريزمية من القاضي رودولف سولم: "سمة معيّنة تُمنح للشخصية الفردية ينفصل بموجبها (الشخص) عن الرجال العاديين ويُعامَل على أنه يتمتع بما هو خارق للطبيعة أو فوق طاقة البشر".

فماكس فيبر كان يرى أن استخدام القوة في السياسة قانون طبيعي لا فكاك منه، مثل الذكاء في العلم، ما دام كل ذلك في صالح الدولة والأمة، والعبارة الأخلد في ذلك هي: "الغاية تُبرر الوسيلة".

التماهي هو أن يشعر القطيع بالتوحد والاندماج مع القائد والزعيم، الذي يبيعهم الأوهام وأحلام النصر والاستحقاق الموعود، أو بلغة أفلاطون في جمهوريته: "خبّاز المُعجنات وضع قناع الطبيب"

ولعل هالة الكاريزما بصبغتها الساحرة، التي خلقها الإعلام النازي حول هتلر، والإعلام البعثي حول صدام، جعلتهما في مكانة أعلى من مكانة الأشخاص العاديين في عيون الضحايا والمكلومين، بل أكثر من ذلك، رأى البعض في هتلر إلهاً مخلصاً ومسيحاً جديداً، ورأى آخرون في صدام بطلاً إسلامياً وفاتحاً مجيداً، وكل شعب حسب أساطيره، يخلع على طاغيته من العِبر والقصص ما يشاء.

التماهي

هناك سبب آخر غير الكاريزما يدفع هؤلاء إلى تقديس الطغاة وتمجيدهم، هو التماهي. ففي كتابه "علم نفس الجموع وتحليل الأنا"، أفرد الفيلسوف وعالم النفس الأشهر سيغموند فرويد، فصلاً كاملاً حول العلاقة بين التابع والمتبوع؛ فتحدث عن أن الشعوب تنظر إلى القادة نظرةً مثاليةً مغزاها أنهم يعدّون أنفسهم جزءاً واحداً أو كياناً واحداً مع نموذج القائد الماثل أمامهم، فيُعرّف فرويد مثال الأنا قائلاً (بما معناه): "إنه ضمير المرء ذاته. عندما يحل القائد الاستبدادي محل الأنا المثالية، يُصبح ضمير أتباعه، ويُصبح صوته صوت ضميرهم. كل ما يشاء القائد، بحكم تعريفه، جيد وصائب".

فالتماهي هو أن يشعر القطيع بالتوحد والاندماج مع القائد والزعيم، الذي يبيعهم الأوهام وأحلام النصر والاستحقاق الموعود، أو بلغة أفلاطون في جمهوريته: "خبّاز المُعجنات وضع قناع الطبيب"، أي أن المُستبد يضع السمّ في خطبه حين يُلقيها على المسامع، ليأمن جانبهم، ويتحقق مثال "الأنا".

وهذا ما حدث في نهاية رواية "1984" لجورج أورويل، حين توحّد بطل الرواية، الرافض والمُتمرد، مع النظام المُستبد، واندمج وسط صفوفه، وذاب حُبّاً في الأخ الكبير.

الحاج محمد هتلر

لنأتِ هنا على ذكر كتاب "النازيون العرب" للكاتب رامي رأفت، والذي يحكي فيه عن العلاقة التي جمعت بين هتلر والعرب، وقت السلم والحرب. لقد استطاع إعلام هتلر استغلال العداء القائم وقتها بين العرب ودول الحلفاء؛ بريطانيا وفرنسا، فأطلق وزير دعايته جوزيف غوبلز إذاعةً عربيةً ألمانيةً، تنقل للعرب انتصارات الفوهرر وسعيه نحو "تحرير العرب والمسلمين من تحت قبضة المستعمرين". وكان أشهر مُذيعي تلك الحقبة يونس بحري، الذي قال في كتابه "هنا برلين – حي العرب": "استحوذ هتلر على قلوب المُتطرفين في الوطنية العربية؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنه مناط الأمل في الخلاص من الاستعمار، ومن النير اليهودي الذي كان ينوي نصب شراكه في فلسطين ليمد الأخطبوط الإسرائيلي أصابعه إلى البلاد العربية المجاورة".

ما هي أسباب تمجيد بعض العرب لسيرة هتلر، "حارق اليهود، عدو دول الاستعمار الأول، ومناهض المؤامرة الصهيونية العالمية، والمعظّم للدين الإسلامي"؟

يُلخص ذلك كله، أسباب تمجيد بعض العرب إلى يومنا هذا لسيرة هتلر، حارق اليهود، عدو دول الاستعمار الأول، ومناهض المؤامرة الصهيونية العالمية، كما عدّه البعض مُعظّماً للدين الإسلامي إثر وجود علاقات جمعته بمفتي القدس آنذاك أمين الحسيني، حتى أعرب هتلر يوماً عن إعجابه بالإسلام قائلاً: "المسيحية ليست مُلائمةً للمزاج الجرماني، على عكس الإسلام"؛ كما ذكر ألبرت شبير في كتابه "داخل الرايخ الثالث". كذلك، أنشأ هتلر كتيبةً مسلمةً ضمن جيشه.

تلك الشهادات كلها، دفعت بعض العرب وأولهم الملك فاروق إلى الاصطفاف خلف هتلر في الحرب، معنوياً، ومُتابعة انتصاراته الساحقة، وانتظار دخوله البلاد العربية، كترديدهم: "إلى الأمام يا رومل"، آملين انتصار القائد النازي على الإنكليز. وفور انهزام هتلر واختفاء جثته، انتشرت الشائعات حول أنه فرّ إلى مصر، وسكن بجوار "سيدنا الحسين" وأشهر إسلامه في جامع الأزهر واستبدل باسمه اسم "الحاج محمد هتلر"! 

ولكن هؤلاء الذين يشحذون عاطفتهم بحب حارق لليهود، لا يعرفون رأيه الصريح في العرب والمسلمين. يستشهد الكاتب رامي رأفت في كتابه المذكور أعلاه، بأحد أحاديث هتلر قبل الحرب التي يصف فيها العرب قائلاً: "أشباه قردة مُلمعون، يريدون أن يذوقوا طعم السوط"!

فما يحدث هو أن البعض يشعر بالتماهي مع هتلر، ويظن أنه كان بمثابة عقبة أمام الكيان الإسرائيلي، إذ فعل ما عجز العرب عن فعله، لكنهم نسوا أن هتلر كان أحد مؤسسي ذلك الكيان، والسبب الرئيس في هجرة يهود أوروبا إلى هناك. في كتابه "تاريخ الفكر الصهيوني"، يذكر عبد الوهاب المسيري، بعضاً من شهادات هتلر وخطبه التي قال فيها مُشيراً إلى أن اليهودي لا ينتمي إلى ألمانيا وإنما إلى فلسطين: "فليبحث اليهودي عن حقوقه الإنسانية حيث ينتمي، في دولته فلسطين". كما ذكر الكاتب النازي الشهير "روزنبرغ"، وهو من أخصاء الفوهرر: "علينا مُساندة الصهيونية بكل نشاط حتى يتسنى لنا أن نُرسل سنوياً عدداً محدداً من اليهود إلى فلسطين، أو على الأقل عبر الحدود".

صدام... حامي حِمى السنّة والعروبة

في مقال له بعنوان "علم نفس الدعاية"، يُفسر موني كيلر، السبب الرئيس وراء اصطفاف الجماهير حول هتلر قبل الحرب، مُعتمداً على خطاباته، والتي تتمظهر في ثلاثة مستويات، أهمها المستوى الثاني، "توجيه أصابع الاتهام نحو الأقليات مثل اليهود والغجر". ذلك المقال والتفسير ينطبقان أيضاً على جميع الطُغاة وعلى رأسهم صدام حسين، الذي وجه أصابع الاتهام نحو الجميع، سواء إلى زملائه في الحزب البعثي، أو الأقليات كالأكراد، أو المتآمرين مع العدو الإيراني -حسب زعمه- من الشيعة، أو حتى اليساريين والشيوعيين... إلخ.

ولكن ما السرّ وراء تمجيد البعض لسيرته؟

نُسبتْ أغنيةٌ إلى المُطربة السورية ذِكرى، تشدو فيها بكلمات تمدح صدام حسين، مُشبهةً إياه بالصامد والشهيد المغدور، فتقول:

"قالوله جيشنا في قصرك والعرش انهار... قاللهم قصري في الجنة بين الأبرار

قالوله صورتك شلناها من ع الدينار... قاللهم صورتي محفورة في قلب الأحرار".

في كتابه "صدام والشيعة"، يسرد الدكتور سعيد السامرائي شهادته في حق صدام ونظامه الطائفي، والذي حاول استثارة عاطفة العراقيين والعرب مُقنعاً إياهم بأنه عرضة لمؤامرة شيعية إيرانية كبيرة لا تقل خطراً عن المؤامرة اليهودية الإسرائيلية التي حاول هتلر التصدي لها: "اتّهم صدّام شيعة العراق بأنهم يتبعون الأجنبي الإيراني، محاولاً تأليب العرب والمسلمين عليهم".

كان صدام يصحب الكاريزما بالكلاشينكوف، فجعلته بطلاً قومياً حاضراً إلى الآن، كما أنه الوحيد من قادة العرب الذي أطلق صاروخاً -من غير قصد- على تل أبيب!

وفي موضع آخر، يذكر ما كانت تحمله صحف النظام من نعرات طائفية: "وهكذا يظهر كذب ما قالته مقالات صدّام بأن السيد، ويعني عالم الشيعة، يحتجب ولا يظهر إلا في المناسبات ليحافظ على هيبته. فماذا يستفيد الشعب ابن الأهوار العراقي عندما تأتيه وقت السلم تتبختر أمامه وأنت تُدخن السيجار ثم يفتقدك عندما يركض تحت قنابل أمريكا".

فالمخيال الجمعي السنّي لا يعرف عن الشيعة سوى بعض الاتهامات كـ"كرههم للصحابة"، و"تعدّيهم على أمهات المؤمنين"، ومتى جاء رجل وأخرسَ هؤلاء ولجم ألسنتهم، فهو نِعم الحكم العدل، بغض النظر عن قتل الأطفال وتشريدهم والدخول في حروب عبثية!

كما يغض البعض الطرفَ عما ارتكبه صدّام في حق الأقلية الكردية، من هجمات كيماوية عُرفت في ما بعد باسم "حملة الأنفال"، وراح ضحيتها أكثر من 7،000 شخص حسب التقرير الصادر عن منظمة حقوق الإنسان، وقد علّق الصحافي كافيه غولستان وقتها، في صحيفة فاينانشيال تايمز: "لقد كان نوعاً جديداً من الموت بالنسبة لي. كانت العواقب أسوأ، لا يزال يتم إحضار الضحايا، جاء بعض القرويين إلى مروحيتنا، كان لديهم 15 أو 16 طفلاً، يتوسلون إلينا أن ننقلهم إلى المُستشفى. عندما أقلعنا خرج سائل من فم الفتاة الصغيرة التي كُنت أحملها وماتت بين ذراعي".

في رسالة الماجستير المعنونة بـ"صدام حسين وسياسته تجاه الأكراد"، تُعلّق الباحثة سُمية جمني على مجزرة الأنفال: "ارتكب النظام العراقي سنة 1988، جرائم ضد الأكراد في ما عُرف بجريمة الأنفال، وهي سلسلة من العمليات العسكرية التي قامت بها القوات المسلحة العراقية بأمر من السلطة. واستُخدم السلاح الكيماوي في تلك الحملة لمرات متكررة وفي مناطق متعددة، في محاولة لإبادة شعب بأكمله".

بعد هذا كله، لا يزال البعض يمجّد صدّام؟

بل يُضيفون إلى رصيده دخوله في حرب عبثية مع أمريكا، وأنه -حسب تعبيرهم- لم يرضخ قط، وظل شامخاً عظيماً في أثناء محاكمته. تلك الكاريزما التي كان يصحبها بالكلاشينكوف في مراسم الاحتفال، جعلته بطلاً قومياً حاضراً إلى الآن، كما أنه الوحيد من قادة العرب الذي أطلق صاروخاً -من غير قصد- على تل أبيب.

تلك الشواهد كلها، منحت اسمه شرف الظهور على مطاعم الفول والفلافل ومحال البقالة!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image