يحاول الرئيس قيس سعيد أن يرسم صورة لدكتاتور استثنائي في العالم لكن مأساته أنه لا يجيد الرسم، كطفل وضعت أمامه كل الألوان فصبها جميعاً على اللوح، وأضاف لها اللون الأسود، فلم يبق على شيء منها، وأغرق كل اللوحة في السواد، لأنه لا يعلم شيئاً من فن مزج الألوان ولا في تدرّجها. هذه الأمية وعدم الادراك الناتجة عن أزمة الخيال عنده هي التي شكّلت أميته السياسية. فالخوف دائماً ليس من الأميين، بل من أنصاف المتعلمين، الذين إذا توفرت لهم فرص السيطرة على السلطة يتحولون إلى كائنات ديستوبية، تصدر الفتاوي وتوقّع المراسيم في كوميديا سوداء وخفة لا تحتمل.
مواصلة المحو
واصل قيس سعيد هوسه بالمحو، فمحا نهائياً مجلس النواب الذي علقه وجمّده شهوراً كما يقول، وفعل ذلك بعد يوم من إعلانه أمام العالم كله أنه لم يقم بحل البرلمان، لأن ذلك يتناقض مع ما جاء في الدستور، الغريب أن قيس سعيد حل البرلمان بالدستور نفسه، والأغرب أنه حل البرلمان بالدستور الذي علقه وفصوله التي ألغاها (الفصل 72) .
محا قيس سعيد كل المؤسسات القضائية والتشريعية والرقابية، ولم يُبق إلا على مؤسسة واحدة، هي مؤسسة رئاسة الجمهورية، والمتوقع أنه قد يلتفت كبطل رواية "اللجنة" لصنع الله ابراهيم ويأكل نفسه فيمحوها، وليس هذا ببعيد، فهو الآن في وضع إمبراطور وليس برئيس ولا حتى بديكتاتور في غياب كل المؤسسات.
يحاول الرئيس قيس سعيد أن يرسم صورة لدكتاتور استثنائي في العالم لكن مأساته أنه لا يجيد الرسم
قيس سعيد بدأ بمرحلة محو خطابه كل مرة بخطاب متناقض، وهي حالة تكشف الارتباك الذهني والنفسي للرجل. تلك الحالة التي تسبق نهاية كل طاغية، إما بالعزل أو الانتحار.
لا انتخابات في الآجال
أعلن قيس سعيد منذ مدة عن تاريخ للانتخابات التشريعية في 17 ديسمبر المقبل، وفق الأحكام العرفية التي سنّها، وهو بذلك يعطي لنفسه منذ 25 جولاي سنة ونصف للتحضير. غير أن عودته إلى الدستور الذي ألغاه ليحل مجلس النواب يجعله أمام مأزق دستوري جديد، فحل البرلمان يتطلب إعلاناً فورياً عن موعد للانتخابات لا يتجاوز تسعين يوماً، لكن قيس سعيد الذي يستعمل الدستور كلائحة طعام بمطعم، حسب اليوم والمزاج، كما وصف ذلك أحد المحللين، اعتبر أن هذا الشرط لا يعنيه، وأنه ماض نحو انتخابات في ديسمبر المقبل، بل حتى أشار ضمن خطابه أنها ليست ضرورة لأن مصلحة البلاد أكبر من التواريخ، وهذا يعني أنه قادر على التراجع حتى عن ذلك الموعد الذي حدده بنفسه.
غير أن الفضيحة الكبرى في خطابه أنه اتهم الناخبين بقصور العقل وعدم أهليتهم لكي ينتخبوا أصلاً.
الناخبون "ناقصين عقل ودين"
في تصريح خطير ينسف كل حلم بالعودة لأي صورة للنظام الديمقراطي ولو شكلياً، يصف قيس سعيد الناخبين التونسيين بأنهم وقع تزوير عقولهم، واعتبر ذلك أخطر من تزوير الانتخابات، وهكذا وضع الشعب التونسي في مستوى القاصر والمعوّق ذهنياً والذي ليس له الأهلية لكي يختار أصلاً، قال ذلك أثناء تبجحه بما سماه استشارة وطنية، استفتى فيها الشعب إلكترونياً حول تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، ووصل إلى نتيجة أن الشعب يريد النظام الرئاسي بنسبة تتجاوز 80 بالمائة.
إن الشيزوفرينيا التي يعاني منها الرئيس تتمثل في أنه يقول الشيء ونقيضه، فبعد أن حل البرلمان بالدستور الذي ألغاه لعدم صلاحيته، وبعد أن اعتبر أنه من غير الممكن حل البرلمان لأن الدستور يمنع ذلك، يقول إن الشعب غير مؤهل لكي يختار، لأن العقول مزورة، وفي نفس الوقت يعطي نتائج الاستشارة الإلكترونية باعتبارها خياراً شعبياً.
الخوف دائماً ليس من الأميين بل من أنصاف المتعلمين الذين إذا توفرت لهم فرص السيطرة على السلطة يتحولون إلى كائنات ديستوبية، تصدر الفتاوي وتوقّع المراسيم في كوميديا سوداء وخفة لا تحتمل
هذه الصورة تعكس التخبط الكبير الذي يعيشه الرئيس قيس سعيد، وتذكّر بمقولته الشهيرة أنه جاء للرئاسة دون برنامج، وتكشف الصورة أنه ماض نحو تدمير البلاد اقتصادياً وسياسياً، لأنه يتحدى في قرارته كل المجتمع الدولي والجهات المانحة التي يطلب منها أن تقدم له المساعدة وانقاذ اقتصاد البلاد الذي ينذر بكارثة اجتماعية كبرى لم يسبق أن عرفتها تونس منذ الاستقلال.
خطاب التخوين
خلال يومين، رجم الرئيس قيس سعيد خصومه بأشنع الأوصاف، وظلت عبارة "الخونة" تتردد على لسانه كما لم تتردد على لسان دكتاتور في العالم، وأصبح النواب الذين اجتمعوا ليصدروا بياناً ضد الانقلاب يستجوبون بتهمة التآمر على أمن الدولة وتغيير نظام الحكم، ومتهمين هم بالانقلاب.
مأساة قيس سعيد أنه لم ينجح في أن يكون حتى ديكتاتوراً مرحاً، لأن تجهمه يعطي انطباعاً بأنه مريض. لذلك دعا الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي إلى عزله والعودة بالبلاد إلى المسار الديمقراطي الذي جعل تونس أول دولة ديمقراطية في المنطقة، وأن التصفيق له هو تصفيق للدكتاتورية التي تدير معظم الدول العربية.
ويعتبر أن أخطاء الديمقراطية لا تشرع لتدميرها والعودة إلى الماضي البغيض: الديكتاتورية، وما قيس سعيد إلا خطاب ردة إلى خمسينيات القرن الماضي.
أزمة اقتصادية وتعنت الرئيس
إن معاناة قيس سعيد من اخفاقاته منذ توليه السلطة وركضه طوال الوقت إلى الأمام ودماغه القومجي المعطّب، يوازيه وضع اقتصادي رثّ، أنزل الترتيب السيادي التونسي إلى ccc، وهو مؤذن بإفلاس البلاد، في ظل غضب الجهات المانحة من مسار الرئيس ورفضه العودة للمسار الديمقراطي والدفع نحو انتخابات حرة والعودة لدولة المؤسسات.
بدأ قيس سعيد بمرحلة محو خطابه كل مرة بخطاب متناقض وهي حالة تكشف الارتباك الذهني والنفسي للرجل تلك الحالة التي تسبق نهاية كل طاغية، إما بالعزل أو الانتحار
يبدو أن الوضع مرشح للانفجار في ظل هذا التنازع على الشرعيات، بين البرلمان ورئاسة الجمهورية من ناحية، والأزمة الاقتصادية من ناحية ثانية، خاصة أن العالم يمر بفترة خطيرة مست كل بلدانه بلا استثناء، جراء الحرب الروسية على أوكرانيا، ولم تعد القضية التونسية من أولويات لا الاتحاد الأوروبي ولا أمريكا ولا حتى صندوق النقد الدولي، وهذه الجهات لا يعنيها في النهاية أن يصل الوضع التونسي إلى الكارثة، لأنها قدمت شروطها للمساعدة، والخوف كل الخوف أنه عندما تقبل تونس بتلك الشروط تكون الأمور قد تغيرت لغير صالحها، وسحبت تلك الجهات مقترحاتها وشروطها بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية.
عندها لن يبقى أمام الشعب التونسي إلا الثورة من جديد على نظام الديكتاتور الذي ليس له ملامح، فقد ارتبط تاريخ الانتفاضات التونسية أساساً بأزمة الغذاء وما يعرف بثورات الخبز، وما انتفاضة 2011، في الحقيقة، وبعيداً عن الشعارات، إلا ثورة جوع وثورة خبز، فلم يكن محمد البوعزيزي يتظاهر من أجل حرية التعبير، بل كان يدفع بعربة الخضار ليأكل، وردة فعل الشعب وانتفاضته في ظاهرها انتصار لكرامته لكنها انتفاضة من أجل الوعي بخطر الجوع وأزمة التشغيل في تونس.
وشعار "شغل كرامة وطنية" كله يصب في حاجة كبرى وهي الخبز، لذلك استطاع المرشح الرئاسي نبيل القروي، وبعد عشر سنوات من تلك الكرامة والحرية والوطنية، أن يشتري نصف الناخبين برطل المعكرونة، ومن المتوقع أن يظهر قروي جديد بعد أن يكتشف الشعب أن قيس سعيد قد ملأ بطونه بالوهم.
لم يبق مع قيس سعيد إلا المؤسستين الأمنيتين، الداخلية والجيش. فهل ستبقيان في صفه والبلاد تغرق يوماً بعد يوم، وقد سبق لهما أن تخليتا من قبل عن رئيس نشأ من صلبهما "زين العابدين بن علي" وانضمتا إلى الشعب وإرادته عندما انتفض عليه؟
والمتأمل في أسباب انتفاضة الخبز يناير 1983 يلاحظ الشبه الكبير بينها وبين الوضع الحالي، من غلاء معيشة وزيادة في أسعار المواد الأساسية ورفع الدعم عنها، وفي طليعتها الخبز.
غير أن هذه المرة ليس هناك شخص اسمه الوزير الأول محمد مزالي لكي تمسح فيه الحماقات الرئاسية، وسيتحملها الرئيس قيس سعيد وحده، خاصة بعد أن استقالت ناديا عكاشة، مديرة ديوانه التي وصفت بالذراع اليمنى للرئيس منذ توليه السلطة.
أما رئيسة الحكومة نجلاء بودن، فالكل يعلم أنها بلا أي صلاحيات، وأنها تنفذ ما يقرره قيس سعيد، ووصفت حكومتها بأنها لا ترتقي إلى مستوى حكومة تصريف للأعمال. لم يبق مع قيس سعيد إلا المؤسستين الأمنيتين، الداخلية والجيش، اللتين لم تكونا يوماً متفقتين عبر تاريخ تونس، وبينهما ما بينهما من حساسيات، فهل ستبقيان في صفه والبلاد تغرق يوماً بعد يوم، وقد سبق لهما أن تخليتا من قبل عن رئيس نشأ من صلبهما "زين العابدين بن علي" وانضمتا إلى الشعب وإرادته عندما انتفض عليه؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...