شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
بين بورقيبة وحافظ الأسد... عسكر وبعث وإخوان

بين بورقيبة وحافظ الأسد... عسكر وبعث وإخوان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الأحد 30 أبريل 202311:30 ص

جرياً على مألوف عربي عريق، في المراوحة بين الصداقة والعداوة، تعود العلاقة الدبلوماسية بين دمشق وتونس، بعد قطيعة دامت أكثر من عقد من الزمن.

ورغم القطيعة السياسية المديدة التي بدأت عام 2012 بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، خلال استضافة تونس لمؤتمر "أصدقاء الشعب السوري" في أعقاب الثورة السورية، وأنهى فصولها الأخيرة الرئيس التونسي قيس سعيد، بعد تعيينه، في 27 نيسان/ أبريل، سفيراً جديداً فوق العادة ومفوضاً لتونس لدى دمشق، إلا أن العلاقات بين الدولتين كانت قد عادت على نحو متدرج منذ العام 2015، على شكل مكتب للتنسيق الأمني، كان هدفه التعامل مع قضية المئات من الشباب التونسيين الذين التحقوا بجماعات إرهابية.

وخلال حملته الانتخابية، في كانون الأول/ ديسمبر 2014، وعد الرئيس السابق الباجي قائد السبسي بالعمل على ترميم علاقات تونس الدبلوماسية مع سوريا، لكنه عاد وتراجع عن وعده وصرّح في أيار/ مايو 2015 بأنه ليس من مصلحة تونس عودة السفير السوري.

القطيعة الأخيرة، وهي الأطول بين البلدين في تاريخهما المعاصر، لم تكن استثناء، ذلك أن العلاقات السورية التونسية لم تكن يوماً الأفضل، قياساً بعلاقات دمشق وتونس ببقية الدول العربية. والنفور بين الدولتين نابع أساساً من المزاج الشخصي للحاكم الفرد فيهما، وهي صيغة حكم ابتُلي بها البلدان أكثر من غيرهما في العالم العربي، وما زالا يعيدان إنتاجها بأشكال مختلفة.

بورقيبة والقوتلي والإخوان

في أعقاب استقلال تونس، في العام 1956، وقعت أزمة دبلوماسية بين تونس ودمشق، كان بطلها المسمّى لشغل منصب السفير السوري في تونس عمر بهاء الدين الأميري. بمجرد أن وصلت أوراق اعتماد الأميري إلى مكتب رئيس الحكومة التونسية ووزير الخارجية، الحبيب بورقيبة، رُفضت وأعيدت إلى حكومة الرئيس شكري القوتلي. وحين سُئل الأميري في بيروت عن سبب رفض الحكومة التونسية له، قال: "إن الحكومة التونسية أبت قبولي بإيعاز من فرنسا التي تكرهني بسبب كوني من المنسوبين إلى الإخوان المسلمين، والمفهوم من هذا أن الحكومة التونسية تسير بإيعاز الفرنسيين وتوجيههم".

لكن رواية بورقيبة تقول غير ذلك. تحت عنوان "ما رأيت في تونس بعد تحريرها"، كتب الصحافي الفلسطيني محمد علي الطاهر مقالاً نشره في دمشق في العام نفسه، يحكي فيه وقائع زيارته إلى تونس ومقابلته صديقه القديم الحبيب بورقيبة. وعن قضية السفير الأميري يقول الطاهر في المقال، الذي ضمه لاحقاً إلى كتابه "خمسون عاماً في القضايا العربية" (بيروت، 1978): "سألتُ الرئيس بورقيبة بصفته وزير الخارجية عن مسألة السيد الأميري بدون أن أذكر له حكاية إيعاز فرنسا وقصة الانتساب إلى الإخوان المسلمين، فقال بورقيبة إني أعرف الأميري شخصياً عندما كان وزيراً مفوضاً لسوريا بباكستان وأعرفه سفيراً في جدة، ولذلك اعتذرت للحكومة السورية عن قبوله. وإني لآسف لاضطراري لكشف هذا السر السياسي، ولكن الضرورة جعلتني أبوح به، ولذلك وجب على الحكومة السورية أن تبعث للسفارة أياً كان ومن الإخوان المسلمين إنْ شاءت، فلا يجوز أن يبقى التمثيل السياسي السوري مع تونس معطلاً حتى الآن، في حين أن جميع الدول بعثت للحكومة التونسية بسفراء، ومنها مصر وليبيا والمغرب، وبقيت سوريا ‘أم العروبة’ وحدها متخلفة".

في ربيع العام 1951، وصل بورقيبة إلى كراتشي الباكستانية، في محاولة لمقابلة رئيس الوزراء لياقت علي خان. هناك، استنجد بمَن يعرفهم من العرب كي يسهّلوا له هدفه، وكان أغلب معارفه من جماعة الإخوان المسلمين الذين تعرّف عليهم في القاهرة أو في الحجاز.

لم يكن عمر الأميري متعاوناً، عكس رفيقه في الجماعة محمود أبو السعود، أحد القيادات البارزة في جماعة الإخوان المسلمين، وأحد التلاميذ المخلصين لمؤسسها حسن البنا. وكان أبو السعود قد غادر نحو باكستان بعد اغتيال البنا، وحجز له مكاناً جيداً في المصرف المركزي للدولة الوليدة، ثم تحول لاحقاً إلى أحد رموز ما يُسمّى بالاقتصاد الإسلامي والصيرفة الإسلامية، قبل أن يهاجر إلى ليبيا.

لم تكن قضية رفض اعتماد السفير غير واجهة تخفي السبب الحقيقي للخلاف بين القوتلي وبورقيبة. عاد شكري القوتلي إلى السلطة في العام 1955، بعد رحلة منفى في القاهرة في أعقاب خروجه من السلطة عام 1949 في أعقاب انقلاب عسكري نفّذه حسني الزعيم. وأصبح القوتلي في ذلك الوقت أكثر قرباً من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، إذ أثّرت سنوات منفاه المصري كثيراً على توجهه السياسي. لذلك كانت سياسته الخارجية، عربياً، شبه متطابقة مع سياسة عبد الناصر الذي كان داعماً قوياً للمعارض التونسي صالح بن يوسف في مواجهة الحبيب بورقيبة.

وكان بن يوسف، الأمين العام السابق للحزب الدستوري، رافضاً لاتفاقية الاستقلال الداخلي عن فرنسا (1955)، ووجد في عبد الناصر داعماً من منطلقات قومية، كما وجد دعماً قوياً في دمشق التي كانت أحد معاقل المعارضة التونسية بشقيها القومي والإسلامي، حيث كانت دمشق مقراً رئيسياً لجناح صلاح بن يوسف وكذلك مقراً للشيخ محيي الدين القليبي، المعارض التونسي الذي كان مقرباً من جماعة الإخوان المسلمين.

"النفور بين الدولتين السورية والتونسية نابع أساساً من المزاج الشخصي للحاكم الفرد فيهما، وهي صيغة حكم ابتُلي بها البلدان أكثر من غيرهما في العالم العربي، وما زالا يعيدان إنتاجها بأشكال مختلفة"

ورغم حدة الخلاف، سيقرر بورقيبة أخيراً، في نهاية العام 1957، إرسال أول سفير تونسي إلى دمشق، وهو الحبيب الشطي (1916-1991)، أحد أخلص رجاله، والذي سيشغل بعد سنوات منصب وزير الخارجية ثم الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بدايةً من العام 1979. كذلك، قبِل أوارق اعتماد سفير سوري جديد في تونس.

وفي موضع آخر، يروي محمد علي الطاهر مصير السفير التونسي الجديد، في رسالة لصديقه، حبيب كحّالة (1898-1965)، صاحب ورئيس تحرير مجلة "المضحك المبكي" التي كانت تصدر في دمشق ما بين العامين 1929 و1966: "ترك حُكام سوريا الضيف يتجمد في الفندق بانتظار مقابلة رئيس الجمهورية ليستقبلوا صالح بن يوسف الهارب من حكم الإعدام بتونس بتهمة التآمر على رئيس جمهوريتها الحبيب بورقيبة، بل ويسمحون له بمقابلة رئيس الجمهورية السورية، والسماح له بعد ذلك بعقد مؤتمر صحافي يطعن فيه في رئيس جمهورية تونس، على مرأى ومسمع سفيره القادم من تونس، بدلاً من الترحيب به وتكريمه وقبول أوراق اعتماده في احتفال رسمي كالاحتفال الذي استقبلت به تونس أول سفير من سوريا المستقلة إلى تونس المستقلة! وعند ذلك غادر السفير التونسي الشطي العاصمة السورية احتجاجاً على ما لقي من حماقات حكام لا يدرون ما يصنعون".

كان عبد الحميد السراج الذي عُيّن عام 1955، في أواخر عهد الرئيس هاشم الأتاسي، رئيساً للمخابرات، قد أصبح في ذلك الوقت الرجل الأقوى في البلاد، وسيصبح أثناء الوحدة المصرية السورية وزيراً للداخلية ورئيس المكتب التنفيذي للإقليم الشمالي، وأحد الرجال الأقوياء عند الرئيس جمال عبد الناصر.

وبحسب تحليل محمد علي الطاهر، فإن السراج هو مَن يقف خلف المعاملة السيئة التي تعرض لها السفير التونسي وخلف دعم صالح بن يوسف. يقول في رسالته إلى صديقه كحّالة: "وحسبك أن تعرف أن حكام سوريا الشرعيين آنذاك قد مكّنوا الضابط الصغير عبد الحميد السراج، رئيس جواسيس الاستخبارات، من التسلط عليهم، وعلى البلاد والدولة بأسرها. وأظنك أيها الأخ تتذكر الدرس البليغ الذي أعطاه بورقيبة لحكام سوريا الغابرين في البلاغ الرسمي الذي نشرته الجمهورية التونسية يومذاك تنديداً بتلك التصرفات الهوجاء التي تدل على الجهل بأبسط الأصول السياسية المتعارف عليها بين الأمم والدول. ولكن بدون أن يعرف أحد، ولا سكان سوريا أنفسهم كانوا يعرفون، أن سوريا كانت تُحكم بملازم عسكري نصف أمي اسمه عبد الحميد السراج! عندما كان حكام سوريا الحقيقين، الذين انتخبتهم الأمة السورية، ونصبّتهم رعاةً لها وحكاماً قد اكتفوا بالكراسي وبالألقاب ولسان حالهم يقول ‘أغطس في الحلة يا بردان’".

"كان بورقيبة ينظر إلى حكم الجيوش والعساكر بكثير من الاحتقار، ولم يكن يجد غضاضة في التعبير عن ذلك. ولذك، بعد سيطرة البعث على السلطة في دمشق، عادت العلاقات بين تونس وسوريا إلى مربع الأزمة"

و"الدرس البليغ" المذكور هو بيان شديد اللهجة أصدره بورقيبة، بعد عودة سفيره إلى تونس، ندد فيه بصنيع حُكام سوريا، مشيراً إلى أن دمشق لا تملك قرار سيادتها بيديها، في إشارة إلى هيمنة عبد الناصر على مواقف سوريا الخارجية.

بورقيبة والبعث

صباح الثامن من آذار/ مارس 1963، استيقظ السوريون على انقلاب عسكري جديد، سيتحول اسمه لاحقاً إلى ثورة الثامن من آذار بعد استيلاء اللجنة العسكرية للفرع الإقليمي السوري لحزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة.

قبل ثلاثة شهور من ذلك الحدث السوري الفارق، أحبطت السلطات التونسية انقلاباً عسكرياً في نهاية العام 1962 خطط له ضباط وعسكريون محسوبون على التيّار اليوسفي والقومي، كانوا يريدون اغتيال الرئيس بورقيبة. بعد محاكمة سريعة، نفّذ بورقيبة حكم الإعدام في أعضاء التنظيم العسكري، وصار أكثر حذراً من الجيش. وسيتجلى حذره هذا بعد سنوات في تهميش المؤسسة العسكرية مقابل بناء ركائز السلطة على المؤسسة الأمنية.

كان بورقيبة ينظر إلى حكم الجيوش والعساكر بكثير من الاحتقار، ولم يكن يجد غضاضة في التعبير عن ذلك. بعد سيطرة البعث على السلطة في دمشق، عادت العلاقات بين تونس وسوريا إلى مربع الأزمة، بعد فترة ازدهار قصيرة في عهد الرئيس ناظم القدسي، الذي كان صديقاً قديماً لبورقيبة منذ سنوات الحركة الوطنية، وقد دعاه بورقيبة للإقامة رسمياً في تونس عام 1976 بعد خروجه من السلطة.

"كانت سوريا وتونس دولتان متشابهتان في العشرية الأولى من القرن الحالي على مستوى بنية النظام السياسي، ذي الطبيعة الأمنية والفردية، وكذلك من حيث طبيعة التحولات الاجتماعية التي عاشها البلدان في ظل سياسات التحرير الاقتصادي وصعود رأسمالية المحاسيب التي دفعت نحو مزيد من تراكم البؤس، الذي تفجر في العام 2011"

في العام 1965، قرر بورقيبة القيام بجولة شرق أوسطية، كانت ستقوده إلى القاهرة وعمان وبيروت ودمشق، وهي الجولة التي أثارت جدلاً كبيراً عندما طرح فيها بورقيبة على العرب قبول قرار تقسيم فلسطين، في خطاب ألقاه في مخيم اللاجئين في مدينة أريحا الفلسطينية، في آذار/ مارس 1965.

كانت دمشق حتى آخر لحظة موجودة ضمن خطة جولة الزعيم التونسي لكن تفصيلاً صغيراً عبث بالزيارة. يقول محمد علي الطاهر في رسالته إلى صديقه حبيب كحّالة، والتي عجز كحالة عن نشرها في جريدته بسبب الرقابة في دمشق: "حكام سوريا عام 1965 كانوا أشد حمقاً وغباء من أسلافهم عام 1957 حيث ضللوا وزير القصر الجمهوري التونسي وأخذوا موافقته على أن تكون زيارة الرئيس بورقيبة إلى سوريا في الأسبوع الذي يصادف 8 آذار 1965 بين أيامه وحددوه على أنه يوم عيد استقلال سوريا فوافق الجانب التونسي بدون أن يدري أن حكام سوريا يقصدون يوم انتصار جماعة حزبهم البعث المنتصر على السوريين من حكامها وليس 8 آذار 1920 الذي أعلن فيه المؤتمر العام السوري بدمشق استقلال البلاد بحدودها الطبيعية وهو اليوم الذي بايع فيه السوريون الملك فيصل بن الحسين ملكاً. وتصادف أن حاكم سوريا الفريق محمد أمين الحافظ قد باح بالحقيقة أمام محمد المنصف الصخيري، نائب سفير تونس بدمشق، بلهجة تشعره باستغفال الجانب التونسي، فأبرق السفير لتونس بواقع الحال فوراً (...) فلم يَسَعْ بورقيبة عندئذ إلا الاعتذار عن زيارة سوريا وصرف النظر عنها".

ألقى خطاب أريحا ودعوة بورقيبة إلى قبول تقسيم فلسطين قنبلةً في الشارع العربي. في تونس قال بورقيبة معلقاً: "إني لم أذهب إلى الشرق من أجل قضية فلسطين. ولكن بعض الإخوان أبوا إلا أن يطلعوني على حالة، أثارت شفقتي. وبما أن طبيعتي أبعد ما تكون عن اللف والدوران، فقد أبَيت، لِما عُرفت به من جدية، أن أنساق في تيار التدجيل، الذي كان الإخوان الفلسطينيون ضحيته منذ عشرين سنة، لم تزدهم إلا تعاسة، ولم تكفِ لحمل المخطئين على التراجع عن خطئهم. وهكذا، فتحتُ صدري لهؤلاء الإخوان، وقلت لهم إن هذا الحماس، الذي لمسته، وهذه المناداة بالعودة إلى الديار والرجوع إلى الوطن السليب، أمر مرغوب فيه. فإن هذا الحماس أشبه ما يكون بالمحرك، لكن لا بد من عقل لتوجيه قوة هذا المحرك وطاقته، في سبيل الهدف. وهذه الطريقة الفعالة، لم يستطيعوا تصورها، ولم يقبلوا دعوتي إلى اتّباعها لمضايقة إسرائيل، بل اكتفوا بشتم الصهاينة وسبّهم. وقد أكّدت لهم أنني أوافقهم على أن إسرائيل جديرة بكل ما يوجهون لها من شتم وسباب، ولكن، أي جدوى من هذا الشتم؟ وماذا جنينا من ورائه، خلال 17 سنة؟".

أما في القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، فقد خرجت تظاهرات وأصدرت أغلب الحكومات العربية بيانات تنديد، وتعرضت السفارات التونسية في المشرق العربي لهجمات من المتظاهرين، ودعمت الأنظمة الحاكمة في مصر وسوريا هذا الغضب الشعبي.

في دمشق، استغل البعثيون هذا الغضب للردّ على رفض بورقيبة زيارة سوريا والمشاركة في إحياء الذكرى الثانية لـ"ثورة الثامن من آذار". ويشير محمد علي الطاهر إلى ذلك بالقول: "فانتقلوا يسبّون ويشتمون بورقيبة الذي لم يجد بداً من قطع علاقاته مع حكومة تقوم بسبه وشتمه، وتحرّض على حرق سفارته بدمشق، فسحب سفيره من دمشق. ولولا أن السفير حشد طلبة تونس في دمشق واستعد معهم لصد الرعاع عن السفارة التونسية لأحرقوها، وفتكوا غدراً بمَن فيها من تونسيين".

لاحقاً وفي 26 نيسان/ أبريل، استدعت دمشق القائم بالأعمال السوري في تونس، للتشاور، وألقى الفريق أمين الحافظ خطاباً في حمص هاجم فيه الرئيس بورقيبة، وقال إن الشعب العربي قادر، ومصمم على القضاء "على كل مؤامرة تستهدف تصفية فلسطين". أما القيادة القومية لحزب البعث فقد أصدرت بياناً شديد اللهجة قالت فيه: "إن بورقيبة لم يكن ليجرؤ على هذا الموقف الخائن لشعب فلسطين، لو لم يجد أن الموقف العربي الرسمي مليء بالثغرات التي تفتح المجال أمام هذه التطورات" وطالب "الشعب العربي والشعب التونسي ببتر بورقيبة من جسم هذه الأمة، وفضحه وفضح مؤامراته الاستعمارية".

تونس بين بعثيين

بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967، عادت العلاقات بين تونس ودمشق والقاهرة إلى مجراها الطبيعي دون أن تكون في مستوى عالٍ. كان بورقيبة ما زال حذراً. لكن بعد رحيل عبد الناصر في العام 1971، بدأت العلاقات في التحسن أكثر، ورغم المبالغات التي ينشرها القوميون في تونس عن أن "حافظ الأسد عندما شاهد صورته على مكتب بورقيبة سأله عن الصور الأخرى للزعماء العرب فأجابه بورقيبة ضاحكاً كاشفاً له عن سر دفين: وهل هناك عرب غيرنا نحن الاثنين؟"، فإن العلاقة بين الرجلين لم تكن حميمية إلى هذه الدرجة، ولم تصل مثلاً إلى درجة العلاقة بين بورقيبة وصدام حسين. وهذا بخلاف علاقة زوجته النافذة، وسيلة بن عمار، التي كانت ذات هوى مشرقي، وتقضي وقت طويلاً من العام في بيروت ودمشق والحجاز، وكانت علاقتها بعائلة الرئيس حافظ الأسد قويةً.

بعد حرب 1973 وموقف بورقيبة المساند لها على نحو غير مسبوق، تحسّنت العلاقات بين الطرفين. ولكن إثر استقبال بورقيبة لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد إخراجها من بيروت في العام 1982، زادت العلاقات فتوراً بين الرجلين. كان بورقيبة مدافعاً عن خيار ياسر عرفات في استقلال الموقف الفلسطيني عن النظام الرسمي العربي، وهو ما يتناقض جذرياً مع سعي الرئيس الأسد إلى السيطرة على منظمة التحرير.

انعكست علاقة تونس بكل من صدام والأسد سلباً وايجاباً على فرعيْ حزب البعث في تونس. كانت القبضة الأمنية القمعية أكثر شدةً مع عناصر الفرع السوري، بينما وجدت العناصر البعثية الموالية للعراق مساحةً للنشاط أكثر اتساعاً.

وسيتعزز ذلك لاحقاً بعد وصول الجنرال زين العابدين بن علي إلى السلطة بعد انقلاب عسكري في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، إذ كان يحتفظ بعلاقات وطيدة مع بغداد، ستتجلى في دعم تونسي قوي لصدام بعد غزو الكويت، سيكلفها خسارة احتضان مقر الجامعة العربية في العام 1991. في المقابل، كان الأسد في المعسكر المقابل إلى جانب دول الخليج والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، فقد شاركت القوات السورية في معركة تحرير الكويت.

أعادت حرب الخليج الفتور إلى العلاقات بين البلدين، لكن خطوة بن علي نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، في العام 1996، دفعت العلاقات نحو مزيد من الفتور. وقد سبقها دعم السلطات السورية لحركة النهضة المعارضة، عندما سمحت دمشق لعدد من قادة وأعضاء الحركة من الإقامة فيها خلال النصف الأول من التسعينيات.

وفاة الأسد الأب والغزو الأمريكي للعراق لاحقاً، وصعود إدارة جورج بوش التي ضغطت بشدة على تونس ودمشق في ملفي الديمقراطية وحقوق الإنسان، جعل العلاقات بين البلدين أكثر دفئاً. فقد كانت سوريا وتونس دولتان متشابهتان في العشرية الأولى من القرن الحالي على مستوى بنية النظام السياسي، ذي الطبيعة الأمنية والفردية، وكذلك من حيث طبيعة التحولات الاجتماعية التي عاشها البلدان في ظل سياسات التحرير الاقتصادي وصعود رأسمالية المحاسيب التي دفعت نحو مزيد من تراكم البؤس، الذي تفجر في العام 2011.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image