شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
بورصة المدارس السوريّة الخاصة... عن تجارة الوهم والأعمار

بورصة المدارس السوريّة الخاصة... عن تجارة الوهم والأعمار "غير الذهبية"

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 1 يونيو 202301:45 م

تنطوي مقولة "من علّمني حرفاً كُنت لهُ عبداً"، على الكثير من التبجيل لدور المعلم وفائض من الاحترام أقرب إلى الخشوع. لكن قائل تلك المقولة لم يكن له أن يستقرئ مستقبل التعليم في سوريّا، حيث تمثّلت المدارس فيها هذه المقولة حرفياً، فجعلت عِباد الله من أهالي الطّلاب عبيداً في إمبراطورية صناعية، تدرّ في جيوبهم مليارات الليرات سنوياً، حتى باتت تلك الأواسط أقرب إلى "بورصة" أكثر من كونها مؤسسات للتربية والتعليم. وقد كان لتجربتي الشخصية في رحلة البحث عن مدرسة لأطفالي -وما زالت مُستمرّة حتى لحظة كتابة هذا النص- بالغ الأثر في تثبيت هذا الانطباع اليقيني، وفي تشكّل خيبة جديدة انضمّت إلى ألبوم خيبات مواطنة سوريّة.

أنتمي إلى جيل لم يكن يؤرق فيه الأهالي التفكير في خيارات دراسة الأبناء -على الأقل في المراحل الدراسية الأولى- فالمدرسة الأقرب إلى المنزل كانت بديهياً هي المدرسة المنشودة لدى وصول الأطفال إلى سن السادسة، باستثناء قلّة قليلة كانت تلجأ إلى خيار المدرسة الخاصة رغبةً منهم في تعلّم أطفالهم اللغة الثانية (إنكليزية أو فرنسية)، في مرحلة مبكرة، على عكس المدارس الحكومية التي كانت تبدأ بتعليمها لطلاب الصف الخامس، أي عند سنّ العاشرة تقريباً.

وإن وضعنا في الحسبان المزايا التي تفرّدت بها المدارس الحكومية مثل: اكتظاظ الصفوف، المقاعد المهترئة، المنهاج الذي يواكب التاريخ بدلاً من المستقبل، أسلوب المسطرة المُعتمد للتهذيب في المدارس الراقية والضرب مباشرةً دون الحاجة إلى وسائل مساعدة في المدارس الأقل مرتبةً، لم يكن لأحد أن يتوقّف عند مثل هذه التفاصيل التي بدت "ثيمة" أساسيةً لشكل المدارس الحكومية، عدا عن ذلك فقد تعلّمنا جميعاً أو هكذا خُيّل إلينا على الأقل.

"على أونا على دوي"

شرعت باكراً في رحلة البحث عن مدرسة لطفليّ. كنت أفكر في الخيارات وأدرسها وأمحّصها كلّاً على حدة وفقاً للأولويات التي وضعتها منذ البداية نصب عيني حيث لم يكن التفوّق الدراسي هاجساً أسعى نحوه، لذا استبعدت على الفور نخبة المدارس التي كانت تعمل على تمييز الأطفال (منذ سنّ السادسة)، وفق علاماتهم في كل فصل دراسي. وضعت قائمةً طويلةً بدت لي المشكلة الكامنة فيها على الفور؛ فمن أصل عشر مدارس، تسع منها تقع خارج دمشق وتتوزّع في ريفها مما يعني أن على ابن السادسة وشقيقته ذات الثلاثة أعوام أن يقطعا رحلةً يوميةً تستغرق في أفضل الأحوال ساعةً ونصف ساعة من الزمن. وقد أدهشني ابني بسؤاله: "نحنا مسافرين ماما؟"، حين ذهبنا لإجراء فحوص اختبار للمرة الأولى في واحدة من تلك المدارس. لقد بدا له الطريق السريع أشبه بطرق السفر الطويلة التي نقطعها صيفاً.

خلال انتظارنا الذي طال داخل بهو المدرسة الواسع، أخبرتني إحدى السيّدات بأنّ تعرفة دخول الاختبار تغطي مصاريف أسرتها لشهر، ربما ظنت أن هذه المدرسة ستصنع الفرق بين حاضرها ومستقبل ابنها؟

أغمضت عيني عن هذه المشقّة حتى وقت لاحق، وبدأت في نهاية شهر آذار/ مارس، اختبارات القبول التي تتشابه مراسمها عند الجميع: ورقتان بأرقام وحروف وكلمات بسيطة مع محادثة جانبية قصيرة باللغتين بما لا يتجاوز العشر دقائق. لكنّ التسعيرة لذاك الإجراء الرّوتيني البسيط تراوحت بين خمسين ألف ليرة وصولاً إلى بضع مئات آلاف الليرات للطفل الواحد، وقد تصل إلى أعلى بكثير في المدارس المُصنّفة تحت خانة "إنترناشونال"، والتي يتم دفع رسم التسجیل الأول عشرة ملايين ليرة سورية (ما يُقارب 1،100 دولار أمريكي)، عدا عن قسطها السنوي.

في واحدة من تلك الزيارات، وخلال انتظارنا الذي طال داخل بهو المدرسة الواسع، أخبرتني إحدى السيّدات بأنّ تعرفة دخول الاختبار تغطي مصاريف أسرتها لشهر. ذُهلت وكدت أن أسألها لماذا أتيت إلى هذه المدرسة؟ لكنني آثرت الصمت. كانت تحتضن ابنها بكلتا ذراعيها، ربّما هو وحيدها، ربّما ظنّت أن هذه المدرسة هي التي ستصنع الفرق بين حاضرها الراهن والمستقبل المشرق الذي ينتظره حالما يدخل إلى جنّة العلم هذه. كانت تعرفة الاختبار ثلاثمئة ألف ليرة سوريّة (35 دولاراً)، أي ما يقارب ثلاثة أضعاف راتب موظّف حكومي سوري.

لقد تعودنا على تقبّل ما لم نفهم، واستيعاب ما لا يُعقل. وما لا يُعقل هو أن يكون روّاد المدارس الخاصة السوريّة هم فقط من علية القوم، إذ كيف لأيّ أحد ينتمي إلى الطبقة المتوسّطة أن يغطّي النفقات الدراسية براتبه الشهري، إلّا في حال قرر صرف مدّخراته (في حال وُجدت أو بقي منها)، لقاء سنوات أولاده الدراسية. شخصياً ما الذي يضمن لدخلنا أن يواكب هذا التضخم المتوحّش الذي التهم أقساط المدارس وضاعفها عمّا كانت عليه في السنة الفائتة؟ قد يقول قائل لماذا يخرج السوري عن إمكانياته الواقعية ويرفع بعنقه نحو ما ليس قادراً على بلوغه؟ وهو تساؤل مُحق، فمن لا يملك الإمكانيات لا يحق له التعلم في مدرسة خاصة، أو دخول مستشفى خاص، بل حتى لا سبيل له إلى إيجاد أرض بمساحة متر بمترين ليغفو غفوة الختام لأنّ القبور أيضاً صارت امتيازاً في سوريا.

"أبّهة" الدراسة جزء من العملية التعليمية

بالعودة إلى تلك المقابلات، الجميع يمتلكون الفصاحة ليتكلّموا عن الخدمات المزعومة، ولكن حين تدق ساعة الجد، هم عاجزون عن تقديم خدمات تعليمية تشابه نظيرتها في البلدان المجاورة على الأقل. فجميع المدارس من دون استثناء، يحتاج طلّابها إلى مدرّسين خصوصيين -حتى في المرحلة الابتدائية- وقد أقرّ بهذه الحقيقة الأهالي حيناً، وأشخاص من الطاقم الإداري في تلك المدارس حيناً آخر: "يحتاجون إلى تركيز المعلومة أحياناً، وتبسيط المنهاج المكثّف أحياناً أخرى"!

فصل آخر من فصول رحلة التسجيل ظهر حين لم يُقرّ أحد بقيمة القسط الدراسي للعام الجديد؛ "ليس واضحاً بعد، سنعلمكم قُبيل بداية العام الدراسي". وكان أفضل ما يُمكن لهم مساعدتنا فيه في هذا الخصوص هو إخبارنا بقسط السنة الفائتة، وعليه نستطيع التنبّؤ والتحليل والاستنتاج كيف سيكون العام الحالي؟ أما في الوقت الراهن فهم يريدون مبلغاً محترماً من المال كدفعة على الحساب، ريثما يتّضح مسار الدولار ومقدار ارتفاعه.

هل اشتكى أحد من أسعار هذه الصناعة الباهظة، هذا الوهم الباهظ؟ لا أحد بالطبع، وذلك لسببين:

وزارة التربية تعلم مقدار رفع الأسعار، لكن لا تصدر قوانينها في هذا الشأن ولا يهمها فعل ذلك (تكتفي بإصدار تعميمات غير واقعية عن الأقساط)، فهذه المدارس تتمتّع بامتيازات خاصة تجعلها بمنجى من أيّة عقوبة أو مساءلة. ولأنّ من يمتلك امتياز وضع الأبناء في مدارس خاصة لا يشتكي من الأقساط، وفق مبدأ من يركب البحر لا يخشى من الغرق.

 "أبهة الدراسة" حاجة مُلحّة ومطلب ضروري كما الساعة والسيارة وأماكن السهر ووجهات السفر... إنها امتداد للبرستيج العام الذي ما زال رائجاً في سوريا.

أضف إلى ذلك أنّ "أبهة الدراسة" حاجة مُلحّة ومطلب ضروري كما الساعة والسيارة وأماكن السهر ووجهات السفر... إنها امتداد للبرستيج العام الذي ما زال رائجاً في سوريا.

انتهى بنا المطاف إلى القبول والتسليم باستمرار رحلة البحث، إلى أن توصّلت إلى واحدة من المدارس التي استبشرت فيها خيراً. لقد كانت أقلّ المدارس استعراضاً، بل بدت لي أشبه بأخوية أو رابطة يدخل إليها الطفل من سنّ الثالثة ليتدرّج صعوداً حتى التخرّج ويُسمح فقط بدخول أشقاء الأعضاء (الطلّاب). أما الجُدد فلا مكان لهم، ظننت أن في الأمر شيئاً من المبالغة لذا لم تردعني اللهجة الصارمة والجازمة عبر الهاتف: "لا شاغر لدينا أبداً". اصطحبت زوجي وطفلي إلى موقع المدرسة المذكورة آنفاً، وقرعنا جرس البوابة وانتظرنا طويلاً لندخل المجمّع السرّي للأطفال بالغي الذكاء والحساسية ونضمّ طفلنا إليهم ونضمن بذلك اجتياز الطفل وذويه (نحن) عتبة الجهل نحو المُستقبل المضمون.

لحسن الحظ امتلكت طفلتي ذات الثلاث سنوات وجهاً جميلاً وجاذبيةً طفوليةً طاغيةً جعلتهم يسمحون لنا بالوقوف والترّجي طويلاً. نادوا على القيّم على ذلك المكان أو هذا ما ظننته: "تعال شوف هالبنت ما أحلاها". مرّ عدد من الطلاب وتوقّفوا لملاعبتها. مدرّسات ومدرّسون يقرصون خدّها بتلذذ وهي تتراقص كفراشة، وأنا أقول في سرّي: "علّها تكون تذكرة دخولنا".

العجيب جداً أنّهم قبلوها (لأنّها في عمر الثالثة)، لكنهم لم يقبلوا أخاها. لقد قالوا بالحرف الواحد إنّ تسجيلها في هذا العام يعطي أفضليةً وفرصةً لا بأس بها لقبول شقيقها في العام المقبل! كنا نعلم يقيناً أنّ الأمر منوط بـ"واسطة" ذات ثقل نوعي، فتركنا الأمر لمن هم أثقل وزناً منّا.

محكومون بخيبات الأمل

أتأسّف في أعماق روحي لإحساسي بأنّنا محكومون بخيبات الأمل، أيّاً كان مسعانا في هذه البلاد التي أصبحت مصدراً لا ينضب للحكايات العجيبة التي تصلح جميعها لمسلسلات درامية طويلة. لكن صنّاع الدراما عندنا لم يزل افتتانهم بالماضي والعنتريات والقصص الخيالية قائماً، أمّا القضايا الاجتماعية فهي لا تساوي قيمة "ما يقول نيتشه".

أخيراً، قرّرنا أنّ نرتّب أولوياتنا مجدداً، فالمدرسة التي أحببناها لم تبادلنا الهوى. توصّلنا إلى مدرسة خاصة شغلت مكانها في وسط العاصمة؛ بناء مكوّن من ثلاثة أدوار تمّ تحويل شقق كل طابق فيه إلى صفوف لمرحلة دراسية مختلفة. أما حديقة البناء فهي صغيرة جرداء، تمّت تغطيتها بشادر قماشي كان مطوياً في ذاك اليوم الماطر الذي قصدناها فيه، الأمر الذي حتّم على جميع تلاميذ المدرسة أن يقضوا وقت استراحتهم داخل الصفوف. وهذا ينطبق على كلّ أيام الشتاء الماطرة والباردة.

ما أن دخلنا حتى توّجهنا إلى الطابق الأرضي حيث توجد الإدارة. اجتزنا عتبةً مرتفعةً نوعاً ما أفضت بنا إلى غرفة صغيرة لا تتّسع لأكثر من أربعة أشخاص. ولأنّ منزلي لا يبعد سوى بضعة مجمّعات سكنية، استنتجت من تكوين الغرفة في مدخل المنزل، أنّها كانت في ما مضى "حمّام الضيوف"، وفيما كانت مُضيفتنا تشرح لنا سياسة المدرسة ومناهجها الدراسية ونقاط تميّزها، كنت أحاول اكتشاف كيف استُبدل موضع مقعد الحمام والمغسلة بمكتبين صغيرين في هذه المساحة المجهرية.

في طريق عودتنا استغرقت وقتاً في أسماء المدارس الحديثة التي فرّخت في السنوات العشر الأخيرة، مسمّيات فضفاضة دفعتني نحو إحساس غامر بأنّ المستقبل ليس غير مأمون فحسب، بل كارثي.

لهذه المدرسة ميزة لا تمتلكها أي مدرسة أخرى في قائمتنا: الموقع. وقدّرنا أنّ أطفالنا ما زالوا أضعف من احتمال مشقّة الطريق البعيد، وإن خسرنا مقابل ذلك ميزات المدارس الأخرى من ملاعب ومساحات خضراء وأماكن تُتيح نشاطات ترفيهية أو رياضية. لقد قبلنا بتلك المساومة.

لكنّ المدرسة لم تكن لتساوم مُطلقاً على المال. فقد رفضت بشكل قاطع تأكيد المبلغ النهائي واكتفت بقولها: "سيتجاوز العشرة ملايين بكل تأكيد"، لا تشمل المواصلات (عادةً ما يُقارب ثمن المواصلات نصف أجر القسط)، أو اللباس أو الكُتب.

غادرنا "حمام الضيوف"، بعد أن أتمّ ابننا اختباراته في اتجاه غرفة المُحاسب لندفع الأجور المستحقّة، "أربعين ألف ليرة"، ونمضي.

يا لها من تجارة خرافية!

في نهاية المطاف، هذا ليس سوى تخيّل لما يجب أن تكون المدارس عليه. في كل زيارة يعطوننا أوراق ملاحظات صغيرة للغاية، دُوّنت فيها مبالغ كبيرة للغاية ذات أصفار عديدة تتوه عيني قبل إدراك عددها. تلك المبالغ حتماً أكبر من كل ما صُرِف عليّ وعلى إخوتي طوال سنوات دراستنا.

أدرك أن هذا السرد أعلاه يبدو مثيراً للسخرية، ومدعاةً للغضب أمام واقع وجود أكثر من 2.4 ملايين طفل في سوريا غير ملتحقين بالمدرسة، وفقاً لإحصائية تعود إلى العام 2021، أي قبل مأساة زلزال شباط/ فبراير 2023، الذي طال محافظات سورية ثلاثة ورفع سقف هذا الرقم. ويقيناً نعلم جميعاً بأن الكثير من الأبناء تركوا مدارسهم/ جامعاتهم لعجزهم عن تغطية ثمن مصاريف الدراسة، وحتى عن تسديد أجور المواصلات من منازلهم في الرّيف إلى المدينة، وانتهوا إلى التسليم بأمر عدّوه "مشيئة الرّب".

اليوم، في طريق عودتنا استغرقت وقتاً في أسماء المدارس الحديثة التي فرّخت في السنوات العشر الأخيرة: "سوا، التأسيس، الرؤية الجديدة، العمر الذهبي، والخطوات الذهبية…". دفعتني تلك المسمّيات الفضفاضة نحو إحساس غامر بأنّ المستقبل ليس غير مأمون فحسب، بل كارثي، وأنّ أولئك الذين غادروا الوطن مدفوعين برغبة الحصول على مزايا معيشية أفضل، ربّما لم يكونوا أوفر حظّاً منّا لكن فضّلوا دقّ جدران الخزان في حين لم نفعل نحن. حتى ذلك الحين سيكون شعار تلك المدارس: "سوا" لتأسيس رؤية جديدة للعمر الذهبي الخاص بمن يمتلك الكثير من المال... أمّا من تبقّى، فإلى جهنّم وبئس المصير.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image