تشهد السجون المغربية اكتظاظاً غير مسبوق، وارتفاعاً كبيراً في عدد العُزّاب المسجونين ومن هم في سن الإنتاج والعطاء، حيث بلغ عدد السجناء إلى حدود سنة 2022، ما يفوق 97 ألف سجين، 60 في المئة منهم عُزّاب، وهو رقم قياسي يعكس الوتيرة المتسارعة التي تتزايد وفقها الساكنة السجنية في السنوات الأخيرة، حيث ارتفع العدد بنسبة 10 في المئة، وهي نسبة "تبعث على القلق"، وفق ما ورد في تقرير سنوي حديث للمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج (مؤسسة حكومية).
فعلى الرغم من تشييد مؤسسات سجنية جديدة وتوسيع أخرى قديمة للزيادة في مساحات الإيواء والطاقة الاستيعابية لهذه المؤسسات التي وصل عددها في 2022 إلى 75 مؤسسةً) 65 سجناً محلياً، و6 سجون فلاحية، وسجنان مركزيان، ومركزان للإصلاح والتهذيب (فإنها لا تفي بالغرض، إذ ما زالت السجون تشهد اكتظاظاً كبيراً، وتطرح تحديات على الجهات المسؤولة عنها وتسائل سياسة إعادة الإدماج والتأهيل التي تنهجها، لأن مجموعةً كبيرةً من المحكومين يعودون مجدداً إلى السجون بعد خروجهم منه بفترة قصيرة، وأغلبهم شباب، حيث تصل نسبة من هم أقل من 30 سنةً من السجناء في المغرب إلى 48.18 في المئة؛ فيما تصل نسبة السجناء الاحتياطيين، أي الذين يقبعون في السجون في فترة التحقيق أو المحاكمة، إلى 41 في المئة وهو ما يستدعي إعادة النظر في المنظومة لأنها أمام معضلة حقيقية، تطرح تحديات أمام القضاء المغربي.
السجن الاحتياطي التعسفي
لهذا السبب ارتفعت العديد من الأصوات الحقوقية في السنوات الأخيرة للحد من السجن الاحتياطي التعسفي في المغرب، ودعت إلى العمل بالعقوبات البديلة للتخفيف من اكتظاظ السجون وأنسنة العقاب والسجون والحيلولة دون تحطيم حياة المدانين بجنح لا تتعدى مدة محكوميتها سنتين، كما اقترح وزير العدل المغربي عبد اللطيف وهبي، في إطار الاشتغال على تعديل القانون الجنائي المغربي ومن ضمنها العقوبات البديلة، شراء المسجونين لمدد محكوميتهم، وهو ما أثار جدلاً كبيراً وتبايناً في الآراء بين من يراه إيجابياً، ويؤكد أن العقوبات البديلة ستحقق فائدةً للمجتمع لم يحققها السجن، خاصةً لأصحاب الجنح لا الجرائم الجنائية، وبين من يراه سلبياً وعاملاً للتمييز وعدم المساواة بين من عنده المال ومن لا مال لديه من الفقراء لشراء هذه المدد السجنية، ناهيك عن تراجع أسلوب "الردع"، الذي يحققه القانون ويحافظ على سلامة المجتمع وأمنه.
ارتفعت العديد من الأصوات الحقوقية في السنوات الأخيرة مطالبة بالحد من السجن الاحتياطي التعسفي في المغرب
في هذا الإطار، يقول الخبير في مجال حقوق الإنسان ورئيس "مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية"، الحبيب بلكوش، في تصريح لرصيف22، إنه "لا يمكن إنكار المجهودات التي بذلها المغرب وما زال يبذلها في تحسين وضعية السجون، ولا الإنجازات المهمة التي حققتها المندوبية العامة لإدارة السجون، غير أن الاكتظاظ يشكل عائقاً مركزياً في وجه الإصلاح، كونه نتاجاً لسياسة جنائية عتيقة تستوجب المراجعة التامة فلسفةً وتشريعاً وسياسةً من خلال إصلاح القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية أساساً".
ارتفاع معدل الاعتقال
يضيف بلكوش الذي سبق أن أشرف على تقرير حول "وضعية السجون في المغرب على ضوء المعايير الدولية والتشريعات الوطنية وضرورة الإصلاح 2016-2020"، أن معدل الاعتقال في المغرب) 251 سجيناً من أصل 100 ألف نسمة في 2022 (حسب تقرير المندوبية، هو أعلى بكثير من الدول المجاورة في شمال إفريقيا، ومن بين أعلى المعدلات في العالم، ما يعني أن اكتظاظ السجون له ارتباط وثيق بالاستعمال المفرط للعقوبات السالبة للحرية، وعدم توفر فضاء كافٍ في المؤسسات السجنية أو بسبب توزيع جغرافي للسجون لا يتناسب والحاجيات الفعلية.
رغم تشييد سجون جديدة ما زالت السجون المغربية مكتظة لأسباب تعود إلى منظومة القضاء المغربي. فما الحل ؟
من جهته، يؤكد مدير العمل الاجتماعي والثقافي لفائدة السجناء وإعادة إدماجهم في إدارة السجون المغربية مولاي إدريس أكلمام، في تصريح لرصيف22، أن عدد المعتقلين في المغرب "عرف في السنوات الأخيرة ارتفاعاً مطرداً مما جعل غالبية السجون تعرف اكتظاظاً كبيراً كما جاء في تقرير الأنشطة للمندوبية العامة لسنة 2022. وبالرغم من المجهودات المبذولة في مجال الزيادة في مساحات الإيواء والطاقة الاستيعابية للمؤسسات السجنية من خلال بناء سجون جديدة، إلا أنه يتبين من خلال الممارسة أن هذا الإجراء لا يمكن أن يكون حلاً لهذه الإشكالية التي أصبحت بنيويةً".
بناء السجون ليس الحل
يشير المسؤول إلى أن إستراتيجية المندوبية العامة في بناء مؤسسات سجنية جديدة تتوخى بالإضافة إلى الرفع من الطاقة الاستيعابية، تحقيق أهداف إستراتيجية عدة تتمثل في حرصها على استبدال السجون القديمة بسجون حديثة تستجيب للمواصفات المطلوبة، لتنزيل برامجها التأهيلية لإعادة الإدماج أو على مستوى أنسنة ظروف الاعتقال في إطار مقاربتها المرتكزة على استحضار احترام كرامة السجناء والحفاظ على حقوقهم في جميع مبادراتها. وتجدر الإشارة إلى أنه خلال السنوات العشر الأخيرة على سبيل المثال، شُيِّدت 26 مؤسسةً جديدةً لتعويض 23 مؤسسةً سجنيةً قديمةً ومتهالكةً لا تستجيب لأدنى الشروط الأمنية أو التأهيلية.
يوضح أكلمام أن "بناء سجون جديدة قد يساهم في بعض الحالات في التخفيف المؤقت من حدة الاكتظاظ، لكن هذا النهج ليس قطعاً هو الحل لهذه الظاهرة التي يجب تحليلها لتشخيص أسبابها الحقيقية واتخاذ مبادرات عملية سواء على المستوى التشريعي أو الإجرائي لتطويقها".
التدبير القضائي السيئ
أما شكيب الخياري، الناشط في مجال حقوق الإنسان، فيعزو اكتظاظ السجون إلى سبب رئيسي هو نسبة المعتقلين الاحتياطيين التي تبلغ 41 في المئة من مجموع الساكنة السجنية، خاصةً أنه وفق التقرير نفسه فإن العقوبات قصيرة المدة المتمثلة في سنتين وأقل تُعدّ على رأس قائمة العقوبات المحكوم بها بنسبة بلغت 50 في المئة من مجموع المدانين. حتى أن السراح المؤقت لم يُمنح إلا لما يقارب 5 في المئة منهم.
خلال السنوات العشر الأخيرة على سبيل المثال، شُيِّدت 26 مؤسسةً جديدةً لتعويض 23 مؤسسةً سجنيةً قديمةً
يوضح الخياري في تصريح لرصيف22، أن "الاكتظاظ في السجون سببه أساساً قضائي، من جهة، لأنه يغالي في إعمال هذا التدبير الذي يُعدّ استثنائياً وفق القانون الجنائي، ليس المغربي فقط ولكن حتى المقارن، ذلك لأن الاعتقال الاحتياطي هو انتهاك مشروع استثنائي ونسبي لقرينة البراءة، لكن التدبير القضائي له في المغرب يجعل منه القاعدة"، عادّاً أن "التدبير القضائي السيئ" للاعتقال الاحتياطي، وضعف الاستجابة لطلبات الإجراءات الأخرى التي تخلي السجون، ينعكسان بالسلب على جودة الخدمات المقدمة في هذه المؤسسات من صحة وتغذية ودراسة وعمل وغيرها.
العقوبات البديلة
حول العقوبات البديلة، يقول الحبيب بلكوش، إنها أحد الحلول المهمة التي يمكن اللجوء إليها للتخفيف من اكتظاظ السجون، وتوسيع شبكة العقوبات والبحث عن بدائل أو أحكام جديدة لبعض الجرائم، بالإضافة إلى الحد من الاعتقال الاحتياطي والتقليص من استخدام أحكام السجن القصيرة، لأن بناء سجون جديدة ليس هو الحل، فقد أظهرت مختلف الدراسات حول الإجرام أنه "كلما بنيت المزيد من السجون كلما امتلأت"، وهنا يمكن عد تجربة المغرب في إحداث 16 مؤسسةً سجنيةً خلال السنوات الخمس الأخيرة، بلا تأثير فعلي ما دامت حالة الاكتظاظ قد تفاقمت.
من جهته، يشير مولاي إدريس أكلمام، المسؤول في المندوبية العامة للسجون وإعادة الإدماج، إلى أن "العقوبات البديلة التي تأتي كبديل من العقوبات السالبة للحرية يجب أن يكون من نتائجها البديهية التخفيض من عدد المعتقلين في المؤسسات السجنية، مما يجب أن يترتب عنه التخفيف من الاكتظاظ في السجون. وأعتقد أن الجزم بذلك يتطلب انتظار دخول هذا القانون حيز التحقيق وتنزيل مقتضياته لمعرفة تأثيراته على التخفيف من اكتظاظ السجون".
يمكن عد تجربة المغرب في إحداث 16 مؤسسةً سجنيةً خلال السنوات الخمس الأخيرة، بلا تأثير فعلي ما دامت حالة الاكتظاظ قد تفاقمت
أما الناشط الحقوقي شكيب الخياري، فيؤكد أن العقوبات البديلة هي إجراء يمكن أن يكفل عقاب المدان دون تحطيم حياته، كما أنه سيكون كفيلاً بضمان إخلاء السجون من الحالات التي لا مبرر لبقائها فيها، غير أن هذا "يمكن أن تتم عرقلته بتوجهات بعض القضاة الذين يمكن أن يحكموا بأكثر من سنتين حتى لا يستفيد المدان من هذا الإجراء نظراً إلى سلطتهم التقديرية الواسعة التي يمنحها التشريع لهم، كما يمكن أن يتم عرض هذا الإجراء للبيع من لدن ثلة من الفاسدين إذا لم يتم تحصينه تشريعياً وبتعيين قضاة نزهاء عبر إعادة النظر في النظام الحالي لتعيينهم".
إخفاق سياسة إعادة الإدماج
إذا كان المغرب قد وضع العديد من الإستراتيجيات والبرامج القطاعية لإعادة إدماج السجناء والسجينات اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، من طرف المديرية العامة للسجون وإعادة الإدماج، ومؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء، فإن الكثير من التقارير الوطنية، ومن ضمنها المرصد المغربي للسجون، تكشف عن إخفاق هذه السياسة، وتعدّ أن عنصر التأهيل والإدماج يشكل "أحد مظاهر الأزمة السجنية والعقابية في المغرب" بما له من تداعيات.
ويشير تقرير المرصد إلى أن "واقع إعادة الإدماج في المنشآت السجنية في المغرب ومظاهر الفشل فيه من أكبر المخاطر التي تهدد الفئات العمرية التي تعود للجريمة، والتي تكون فترات عقوباتها صغيرةً ومتوسطةً، وتالياً لا تكون لها حظوظ في الإدماج، ما يخلق لديها ألفةً مع الجريمة".
وفي هذا السياق يقف الناشط الحقوقي شكيب الخياري عند عنصر "رد الاعتبار" ويعدّه أكبر عائق لتحقيق الاندماج، فهذا الإجراء تنتج عنه إزالة جميع آثار الإدانة منذ يوم تمتيع الشخص به، وهو ما يسمح له بشطب الإدانة من سجله العدلي الذي يُطلب من لدن المشغِّلين، على سبيل المثال. "غير أن المدة المقررة في التشريع تجعله من دون أي معنى، فلا يحق للشخص الحصول على رد الاعتبار بقوة القانون وعليه أن ينتظر مرور 15 سنةً حين يكون مداناً بسنتين حبساً، وإذا أراد أن يحصل عليه قبل ذلك فعليه أن يطلب رد الاعتبار القضائي على أن يكون قد قضى بعد انتهاء العقوبة 3 سنوات في حالة بعض الجنح، غير أن المحكمة إذا رفضت فما عليه سوى انتظار مرور 15 سنةً، حيث يكون ممنوعاً عليه العمل في مجموعة كبيرة من المهن الحرة ومضيّقاً عليه في أخرى إلى جانب الوظيفة العمومية".
ولهذا فعلى المشرع، حسب الخياري، أن يتجه إلى إلغاء رد الاعتبار، لأن العقوبة التي نطق بها القضاء قد تم تنفيذها، ويقتضي إدماج المدانين بعد انقضاء العقوبة في الحياة العامة بشكل طبيعي، كما على المشرع الاتجاه إلى إقرار عقوبات ذات أبعاد إنسانية لا انتقامية، تهدف إلى إصلاح الشخص المدان وتأهيله للعيش في المجتمع بصيغة أفضل له وللمجتمع، وفي إطار ذلك يجب أن يتم استبعاد النظام الحالي للاعتقال الانتقامي.
إدماج السجناء شأن الجميع
يؤكد أكلمام، أن من بين أهم المهام المنوطة بهذه المؤسسة إلى جانب المهام الأمنية، مهمة تأهيل السجناء للاندماج في المجتمع بعد الإفراج عنهم، وذلك تفعيلاً لدورها الاجتماعي تجاه شريحة من المجتمع ارتكبت أفعالاً مخالفةً للقوانين.
ومن أجل الاضطلاع بهذه المهمة الاجتماعية والإنسانية "اعتمدت المندوبية العامة مقاربةً متجددةً ومبتكرةً للبحث عن سبل جديدة وحديثة لتحقيق تأهيل فعلي وحقيقي للسجناء تنهل من عمق قناعتها بضرورة إيجاد مبادرات تتلاءم والحاجيات التأهيلية للمعتقلين في إطار منهجية تروم جعل البرامج التأهيلية فريدةً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون