عربة كئيبة معتمة، يتوافر على جنبي صندوقها الحديدي القاسي مقاعد صلبة مغطاة بطبقة خفيفة من الجلد، مع عدد ممن يرتدون الملابس البيضاء مثلي، في طريقنا إلى المجهول، واللاحديث المحمّل بالنظرات الثقيلة يجمع الأعين في نظرات باردة، تحمل بين طياتها التخوفات والقلق، ليكسر الموقف توقف السيارة أمام مدخل ضيق، على ضفتيه عدد من العساكر والضباط والكلاب البوليسية، وقفص من الحديد والسلك على يمين المدخل، ولافتة سوداء حزينة تعلو بوابة حديدية صغيرة "منطقة سجون طرة - سجن القاهرة للمحبوسين احتياطياً".
بعد انتهاء فترة الحجر الصحي التي بلغت ثلاثة عشر يوماً في زنزانة لا تراها الشمس ولا يدخلها الهواء ولا تُفتح أبوابها إلا لدخول "الجراية" - تعيين الطعام - مكدسة بأكثر من ثلاثين محبوساً يستبدلون فترات الراحة لضيق المكان، وينتظرون دورهم واحداً تلو الآخر أمام دورة المياه التي توجد بداخلها في أقصي ركنها، انتقلت إلى محل "تسكيني" الجديد: زنزانة في نفس العنبر لكنها في الدور الثاني، حيث ينقلك سلم حديدي إلى أعلى زنازين الدور الأرضي.
جدران الزنزانة تحمل عبارات متنوعة تعبر عن شخصيات وأفكار من سكنها قبلنا، وربما كتب بعضها عدد من سكانها الآن: "أنا الشخص اللي كلي عيوب لكن مليان حاجات تتحب"، "كل أول له آخر"، "لك يوم يا ظالم"، "لا تنسى ذكر الله"، بالإضافة إلى بعض أسماء النزلاء مزودة بأرقام القضايا والاتهامات الموجهة لهم، وعلى باب الزنزانة من الداخل كتب أحدهم مقطعاً من رائعة أحمد فؤاد نجم: "أعرفكم جميعاً إن السجن سور، وأعرفكم جميعاً إن الفكرة نور، وعمر النور ما يعجز يأزح ألف سور، وعمر السور ما يقدر يحجز بنت حور".
*****
صباح يوم لم أعد أستطيع تمييزه عن سابقه، فهو لا يختلف كثيراً منذ وطأت قدماي هذا المكان سوى في ازدياد شدة الألم والوهن. مُسيَّرو السجن يقومون كعادتهم بتوزيع الجرائد الحكومية على الزنازين المشتركة في الخدمة، تلك الجرائد التي ينصرف الناس عن قراءتها بالخارج، إلا أنها تظل ذات أهمية قصوى بين الأسوار، خاصة لدى سجناء الرأي، ولم لا وهي باب الوصل الممكن بينهم وبين من هم خارج الأسوار، فمهما حوصرت الكلمات و حُجبت الإشارات، إلا أنه يظل بإمكانهم قراءة ما بين السطور وتحليل الأحرف بحثاً عن الأمل.
مُسيَّرو السجن يقومون كعادتهم بتوزيع الجرائد الحكومية على الزنازين المشتركة في الخدمة، تلك الجرائد التي ينصرف الناس عن قراءتها بالخارج، إلا أنها تظل ذات أهمية قصوى بين الأسوار، خاصة لدى سجناء الرأي
حالة من الهرج والمرج في العنبر مع الساعات الأولى للتريّض، السجناء يتخاطفون جريدة "الأخبار" من أيدي بعضهم البعض للاطلاع على الحلقة الأولى من مقال الأستاذ ياسر رزق الذي أصبح الشغل الشاغل للجميع، والذي يتحدث خلاله عن التنمية السياسية وانفتاح المجال العام، بادرة أمل جديدة تكمن في ضرورة تراجع "القوة" الأمنية للخلف، وفتح الباب لحوار سياسي وطني موسع يجمع السلطة مع كل المختلفين معها، ممن لم يحملوا السلاح أو يدعموا العنف والإرهاب، لتصبح كل ملفات الوطن بلا استثناء على جدول المناقشة والتنفيذ، وعلى رأسها ضرورة تمكين أصحاب الرأي الآخر من المشاركة الفاعلة، مع ضرورة تغيير الأولويات في تلك المرحلة الفارقة من عمر الوطن، خاصة بعد نجاح العصا الأمنية في تحجيم ومحاصرة بؤر الإرهاب وداعميه في الفترة الأولى لولاية الرئيس.
الابتسامة ترتسم على الوجوه، ونشوة الأمل تحيي النفوس، لتعود معها ممازحات النزلاء لبعضهم البعض، فالمقال لواحد من المقربين للسلطة، والذي لا يمكن نشره إلا بموافقة، في الحد الأدنى، للجهات الأمنية، والحقيقة أن لا أحد هنا يريد البقاء ليوم جديد مهما بلغت قوة إيمانه واشتدت عقيدته.
*****
في ساحة التريّض هناك، وجدته منتشياً مبتسما تبدو عليه ملامح التفاؤل، يحمل بين يديه طيات دفتر يمر على كل النزلاء، يدوّنون له به بضع كلمات عن تجربتهم معه، أقبلت عليه لأستفهم عن السبب، فأجابني بثبات أن هناك قائمة للعفو الرئاسي سوف تصدر خلال أيام قليلة، وسوف يتبعها عدة قوائم متتالية، ولا مناص من تواجده في إحدى تلك القوائم ومغادرته تلك الأسوار، كما يحلم ويحلم معه الجميع.
وبعيداً عن أننا لا نستحق، قانوناً، التواجد بقوائم العفو الرئاسي، لأننا محبوسون احتياطياً، وقوائم العفو الرئاسي لا تصدر إلا بحق الحاصلين على أحكام نهائية، إلا أنني قد غمرني الأمل معه، فكتبت له بدفء ما تمنيت وتمنى، واستأنست من روحه بما تشتهي روحي، لتدور الأيام تلو الأخرى دون جديد، حتي يكتب الله لي خروجاً وأتركه في انتظار تحقيق الحلم والأمل.
السجن أرض خصبة للشائعات، وما أكثرها بين جدرانه، وبشكل يومي هناك شائعة أو أكثر يرددها النزلاء بيقين، رغم عدم تحقق واحدة منها يوماً، لكنها ليست من فصيلة الشائعات التي يجرّمها ويعاقب عليها القانون والمجتمع، ولكنه الأمل وفن زراعته، الذي يجعل من كل شائعة جديدة وسيلة لتخفيف حدة وجع الأيام المؤلمة بين الأسوار، لحين الوصول إلى الحياة إن استطعت إليها سبيلاً.
*****
الثالثة صباحاً، جميع الزنازين مغلقة منذ الثالثة من عصر أمس، معظم النزلاء نيام بعد جلسات السمر والنقاش الممتدة، البعض اعتاد على القراءة لأوقات متأخرة، وقلة أخرى تنصت باهتمام لنشرة أخبار إذاعة مونت كارلو الدولية، عبر أجهزة الراديو المصغرة التي يُسمح بدخولها لبعض النزلاء بصعوبة بالغة.
الخبطات على الأبواب الحديدية بحلل الطعام تتزايد، الصيحات تتعالى والأصوات ترتفع في مختلف الزنازين، ليصحى الجميع على نداءات تتهافت مهللة فرحاً، فقد حملت النشرة الإخبارية بشري سارة بقرار عاجل لنيابة أمن الدولة العليا، بدون سابق إنذار أو إجراء، بإخلاء سبيل عدد من المحبوسين في نفس العنبر.
يا لها من ليلة استثنائية، لم يعد أحد لفراشه للنوم، فالشمس قد أشرقت مبكراً، و زقزقة العصافير الفرِحة نسمعها للمرة الأولى بغزارة، رغم عدم تواجدها خوفاً وهرباً من شراسة القضبان المنتشرة في كل مكان حولك.
السجن أرض خصبة للشائعات، وبشكل يومي هناك شائعة أو أكثر يرددها النزلاء بيقين، رغم عدم تحقق واحدة منها يوماً، ولكنه الأمل وفن زراعته، الذي يجعل من كل شائعة جديدة وسيلة لتخفيف حدة وجع الأيام المؤلمة بين الأسوار
"سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة/ شفنا الحرب وشفنا الضرب وشفنا الموت بعنينا/ ربك واحد عمرك واحد أدي احنا رحنا وجينا/ صفر يا وابور واربط عندك نزلني في البلد دي/ بلا أميركا بلا أوربا ما في شي أحسن من بلدي "، " في سجن فيه وردة/ على بابه فيه سجان/ كل السجون واحدة/ وده سجن بالألوان/ أربع حيطان من نور/ بتبارك العصيان/ ليه الطيور بتحج/ وتصاحب القضبان"... الجميع يغني للمخلى سبيلهم في حفلة وداع مبكرة، تحمل بين مزامير ترانيمها دفء الأمل في اللحاق بهم عما قريب.
*****
في غرفة منمّقة فاخرة، تحت أضواء استثنائية تدعو للقلق واحتباس الأنفاس، على مائدة مستديرة، مع مجموعة من أولي الأمر، جلس وهو يحمل في جعبته الكثير من وجع ممن هم منه وهو منهم، حاملاً لآمالهم وطموحاتهم بغد مشرق. جلس رغم تخوفه من خيبات النتائج، محاولاً للمرة التي لم يعد يتذكر رقمها أن يدق ناقوس الخطر ويزيح معه الغمة، ويفتح باب الأمل لمن أوشكوا على كفرهم به.
وبالرغم من أن ظروف اللقاء تبدو براغماتية بحتة، خاصة أنها تأتي في ظل مشهد استثنائي تمر به البلاد، إلا أنها، وبعد شد وجذب، رسمت طريق نحو الأمل: تشكيل قائمة للعفو الرئاسي وإخلاء السبيل تشمل أعضاء أحزاب القوي المدنية القابعين في السجون في قضايا رأي، ممن لم يرتكبوا جرائم المال والدم.
زيارات تمهيدية إلى نزلاء السجون في حضور شخصيات أمنية، ربما لتساعدهم على استكشاف حقيقة وأفكار هؤلاء النزلاء، قبل اتخاذ قرارات استثنائية بمصيرهم، ومصير من هم أقرب إلى شاكلتهم في المستقبل.
زيارات بعثت بالأمل من جديد في النفوس، وانتشر صداها بين كافة أرجاء عنابر كل القابعين في السجون، لتضيء للجميع شعاع نور في أحلك فترات الظلمة.
في الطريق إلى أحد السجون ضمن مسلسل الزيارات الذي بدأ قبل أيام، وفرّغ الرجل وقته له رغم مشاغله وانشغالاته الشخصية، اتصال تليفوني مفاجئ يضرب كل سبل النجاة، ويغلق الباب في وجه الحلم ويعلن العودة بانكسار وخيبة جديدة.
أيام قليلة من التفاؤل قبل أن يطل الغمام بوجهه القبيح الموحش على المشهد، بعد أن سيطرت حسابات القوة وانقطع معها كل سبل التواصل والحوار، وانخسف الأمل.
بين تلك المشاهد وأوجاعها، وبين أحلام المقهورين وسعي الحاملين لهمومهم، يبقي الأمل هو العامل المشترك الذي أجبر الرواية ألا تُغلق طياتها حتي تكتب فصلاً تلو الآخر، فصل قد لا يحمل كل النتائج المرجوة، لكنه يخط النور مع كل حرف يُكتب، ليضيء معه ظلمات نفوس الموجوعين والمهمومين والحالمين بغد أفضل، ويجعل الجميع في انتظار كمال النهار وإن حالت الظروف دون اكتمال الشروق.
الرسالة تقول: واجهوا الألم واصنعوا الأمل، وللحديث بقية...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع