في تشرين الأول/ نوفمبر 2018، كانت زيارتي الأولى لزوجي طبيب الأسنان وليد شوقي، المحبوس احتياطياً للسنة الثالثة في سجن "طرة تحقيق".
في الليلة التي سبقت الزيارة، هيأت نفسي للمشهد الذي نسجته في خيالي من وحي السينما والتلفزيون، فزوجي في سجن يحوي أسرَّة من طابقين، وسألتقيه في ساحة كبيرة يخبرني فيها عن وجبة العدس التي يتناولها كما تُظهِر الأفلام. ولكن الحقيقة جاءت مختلفة عما شاهدته عبر الشاشات، فعند لقائي الأول به سألته جادة "بتناموا على سراير صح؟"، فرد بابتسامة ساخرة "آه -آه" (نعم – نعم)، لأعلم في نهاية زياتي أنه ورفاقه ينامون على الأرض، ولا يتناولون العدس يومياً كما كنت أتصور.
كثيراً ما يتصور المشاهد أن ما يدور على شاشة السينما أو التلفزيون قريب مما يجري في الواقع، لكن الشهادات الواقعية لمن قضوا شهوراً أو سنوات في السجون تجافي تلك الصورة التي تبدو "وردية" عند المقارنة بالواقع العملي للسجون المصرية.
كثيراً ما يتصور المشاهد أن ما يدور على الشاشات قريب مما يجري في الواقع، لكن شهادات من قضوا شهوراً أو سنوات في السجون تجافي تلك الصورة التي تبدو "وردية" عند المقارنة بالواقع العملي للسجون المصرية
رؤية فنية
المنتج مدحت العدل الذي أنتجت شركته مسلسل "سجن النساء"، قال لرصيف22 إن الفن "يجب أن ينقل صورة الواقع، ويمكنه أيضاً التغيير فيها لصالح العمل". وأنتجت شركته كذلك فيلم "اللي بالي بالك" الكوميدي الذي قدم سجناً مشابهاً للسجون الأمريكية، ويوضح العدل: "الديكور تخيلي للكاتب والمخرج، لأنه عمل كوميدي"، أما مسلسل "سجن النساء"، فجرى تصميم ديكور السجن به "مطابقاً" لما شاهده هو والمخرجة كاملة أبو ذكري وكاتبة السيناريو مريم نعوم، خلال زيارتهم إلى سجن القناطر للنساء.
جاءت مشاهد مسلسل "سجن النساء" داخل سجن كبير، تعيش السيدات داخله وينمن على أسرَّة، يعشن حياتهن اليومية في ملابس بيضاء. وتواصل رصيف22 مع أسر ثلاث سيدات نزيلات في السجن نفسه، وجاءت الشهادات لتنفي صحة الصورة التي ظهرت في المسلسل. فبحسب الشهادات التي حصلنا عليها يوجد عدد محدد من الزنازين في سجن القناطر تحتوي على أسرَّة، فيما تلجأ النزيلات في باقي الزنازين إلى النوم على مصاطب أسمنتية مغطاة أو على الأرض. وهو ما أكده المحامي محمد حافظ، مشيراً إلى أن السجون التي توجد بها أَسرَّة عددها قليل جداً، منها بعض العنابر في سجن القناطر.
"المشكلة أكبر من النوم على الأرض. هناك أشياء كثيرة في السجن غير آدمية، الصور التي تظهر بها السجون في السينما والتلفزيون وردية مقارنة بالحقيقة داخل السجون" عبارة قالها أحمد رضا*، الذي قضى في سجن "طره تحقيق" عاماً ونصف العام، كان يصنع خلالها من كراتين المياه المعدنية التي يشتريها على نفقته سريراً، ويضع عليها بطانيات، وبعد فترة من الوقت يحتاج لاستبدال تلك الكراتين عندما يبدأ مستواها في الهبوط بفعل الرطوبة.
يروي أحمد أنه قبل ترحيله من القسم إلى السجن، كانت مشاهد السجون التي شاهدها في السينما والتلفزيون هي المسيطرة عليه: "كان في ذهني حينها فيلم الأفوكاتو، هو فيلم كوميدي أعلم أنه مختلف عن الواقع، لكن توقعت أن يكون هناك أسرٰة حديد بطابقين وبطانيات بلون واحد، واستقبال من المساجين القدامى في استقبال السجناء الجدد".
لكن الصورة كانت أسوأ: "دخلت الزنزانة وجدت كل من بها ينامون على الأرض، أفسحوا لي مكاناً، لأفرش غطائي في مساحة لا يزيد عرضها عن 20 سم. وهي تقريباً المساحة المخصصة لكل فرد في الزنزانة".
"صناعة" صورة السجن
تقول المخرجة هالة جلال لرصيف22 إن المخرج أو القائم على العمل الفني يمكنه تقديم رؤيته الفنية الخاصة من دون قيد من الواقع، وتضيف: "الفنان من حقه التصوير بطرق مختلفة، بشرط ألا تكون تلك الطرق منقولة للمشاهد بغرض الدعاية، أو تجميل شيء قبيح، أو تضليل المشاهد. فالدعاية أو التضليل يخرجان من الرؤية الفنية، ويصبحان تزييفاً".
تضيف هالة أن المخرج حر في رؤيته الفنية، "لكن قرارات الرقابة تجعل المخرجين ليسوا أحراراً في تلك الرؤية، إذ تتدخل لحذف مشاهد معينة لإيصال صورة أو رسالة معينة. كما أن بعض المخرجين لا يملكون خيارات للدفاع عن رؤيتهم الفنية".
صورة لـ(أ.ف.ب) خلال جولة دعائية نظمتها وزارة الداخلية داخل سجن طرة للرد على بيانات دولية تندد بأوضاع السجون
وعن التصوير داخل السجون، أوضحت جلال أنه "أمر ليس سهلاً. يحتاج لموافقة أمنية، وغالباً ما تتدخل الجهات الأمنية بطلب الإضافة أو الحذف عقب التصوير".
وتقول المخرجة الحاصلة على جائزة آفاق السينما العربية من الدورة الاخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، إن العديد من المخرجين أو المنتجين من الممكن أن يوافقوا على تدخل الرقابة أو الجهات الأمنية لإتمام العمل الفني. وتبيِّن جلال أن شرط الحصول على تصريح رقابي في مراحل مختلفة من إنتاج الفيلم وعرضه بدءاً من الموافقة على السيناريو وانتهاء بتصريح العرض يمنح السلطات فرصاً متعددة للتدخل في المحتوى والرؤية الفنية، حتى في الأفلام الوثائقية، لكن "الفنان لا بد أن يقدم رؤيته هو فقط، ولا يمكن أن تكون تلك الرؤية مفروضة عليه لتجميل الأشياء أو تضليل المشاهدين".
القانون شأن آخر
تلزم لائحة السجون (اللائحة التنفيذية للقانون رقم 396 لسنة 1956 وتعديلاتها اللاحقة) إدارات السجون بتأثيث الزنازين التي تضم المحبوسين احتياطياً بأثاث محدد، منه سرير (مادة 83 أ). ولكن وفقاً لما أكده المحامي محمد حافظ، لا يستطيع كل السجناء الاستفادة من تلك اللائحة أو تطبيقها. "وفقاً للائحة نفسها من حق السجين إدخال مرتبة لينام عليها، وأدوات الطهو، وغيرها من الأشياء التي يحتاج إليها، لكن إدارة السجن ربما لا تسمح بإدخال أي من هذه المستلزمات، أو تسمح لمسجون دون آخر؛ من دون أسباب واضحة، وهو ما أكده أحمد "أهلي حاولوا أخذ إذن لإدخال مرتبة أنام عليها بسبب ألم ظهري الذي تسبب فيه النوم على الأرض. لكن الطلبات رفضت. وفي إحدى المرات رد أحد الضباط عليهم بسخرية وقال لهم ‘دخلوا له تكييف كمان’، وتكرر هذا مع غيري، وهناك أشياء متعددة مثل رفض سخان المياه الشخصي "كاتيل" او راديو".
ويقول المحامي مختار منير لرصيف22 إن أوضاع السجناء تختلف بين سجين وآخر، فالسجناء في قضايا الأموال العامة أو القضايا البعيدة عن القضايا السياسية، يمكنهم التمتع بلائحة السجون التي تسمح بتأسيس الزنزانة على نفقة السجين وإدخال مراتب أو مراوح أو مبرد للمياه وغيرها من الأشياء التي يحتاجها المسجون، بالإضافة إلى وجودهم في زنازين بها أسرَّة في سجن المرزعة مثلاً، ويتم التبرع بتلك الأشياء للسجن بعد انقضاء مدة السجن.
ويوضح منير أن اللائحة تنص على هذا الحق لجميع السجناء الجنائيين والسياسيين، والمحبوسين احتياطياً، ولكن عملياً يتمتع بعض المسجونين بتلك الحقوق ويحرم منها غيرهم.
ظهر هذا جلياً في حالة المبرمج والناشط علاء عبدالفتاح الذي حٰكم عليه في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2021، بالسجن خمس سنوات بسبب مشاركته تغريدة كتبها آخر.
خلال فترة حبسه احتياطياً، طالبت أسرته مرات عدة مصلحة السجون بتمكين علاء من حقوق أساسية منصوص عليها في القانون واللائحة، آخرها في أيلول/ سبتمبر 2021، وفقاً لمحاميه خالد علي. والمطالب هي التريض وإدخال سخان كهربائي لتسخين المياه ونقله من محبسه الذي يعاني فيه، وهو ما لم يتم الرد عليه أو الاستجابة إليه كما أوضحت الأسرة. سبق هذا الطلب مطالبات قانونية أخرى عديدة تقدمت بها الأسرة إلى النائب العام ووزير الداخلية، ولم تتلق رداً، وفقاً لباحثة البيولوجي منى سيف شقيقة علاء.
لا يوجد شكل موحد للسجون، كما لا يوجد قانون موحد يسري على الجميع أيضاً
لا قواعد
التريّض... حق محروم منه سجناء سياسيون مثل علاء عبدالفتاح وأحمد دومة. صورة خلال جولة دعائية نظمتها وزارة الداخلية في مصر داخل سجن طرة للرد على بيانات دولية تندد بأوضاع السجون
مشاهد السجون في الأفلام والمسلسلات تأخذنا لهذا العالم الذي تقيم فيه مجموعات من الناس خلف سور كبير، بمشاهد عدة، منها مشهد ساعات التريض، التي يلتقي خلالها المساجين في مكان واسع يلعبون كرة القدم مثلاً، أو يتجاذبون الأحاديث، وربما يخططون للهروب في أفلام الإثارة، لكن هذا المشهد أيضاً يكاد يبتعد كلياً عن الواقع.
يروي أحمد: "التريض وقت نرى فيه الشمس التي لا تدخل إلى الزنزانة، وننشر البطاطين التي ننام عليها في الشمس للتخلص من الحشرات، وأيضاً ننظف مكان التريض من فضلات الصرف الصحي لنتمكن من ممارسة بعض التمارين الرياضية أملاً في التخفيف من آلام الظهر".
سينمائيون: الرقابة وسلطات السجون لن تسمح بتصوير أوضاع تخالف الصورة المرغوب ترويجها. والأفلام الوثائقية حتى لو استعانت بوسائل أخرى لنقل الواقع قد تحرم من تصريح العرض العام
لا يوجد شكل موحد للسجون، كما لا يوجد قانون موحد يسري على الجميع أيضاً، لم يتعرض أحمد لمطالب بأعمال تنظيف كما نراها في العديد من المشاهد الفنية. يقول: "لم يطلب مني أحد المسح أو التنظيف، لكن كان معنا سجناء آخرون حدثت معهم أمور مشابهة، منهم سجين أتى من سجن العازولي كان يطلب منه مسح السلالم يومياً، وفي السجن أي شيء يتم دون قانون بقرار من ضابط أو مأمور السجن، فمنهم من يقرر فجأة تجريد الزنازين وأخذ كل متعلقاتنا من كتب ومخدات وبطاطين استطعنا إدخالها خلال الزيارات السابقة، لنعيد طلبها من الجديد في الزيارات المقبلة من أسرنا".
وتنص لائحة السجون في المادة 28 أنه يجوز تشغيل المحبوسين احتياطياً داخل السجن إذا طلبوا ذلك، ويكون لهم في هذه الحالة الحق في اختيار نوع العمل الذي يباشرونه في حدود نظام السجن مع ملاحظة تمكينهم من ممارسة المهن التي كانوا يشتغلون بها قبل دخولهم السجن إن أمكن.
يقول المخرج بسام مرتضى لرصيف22 إن صورة السجن مختلفة بين الأفلام وأنواعها، ففي الأفلام الروائية كل شيء مباح في بناء ديكور وتأليف القصة وأداء الممثلين، وفي السينما المصرية السجن واحد من أشهر الأماكن المكررة التي تدور بها الدراما، أما الأفلام التسجيلية فتحررت في السنوات الأخيرة من القوالب الكلاسيكية، وهذا التحرر ساعد أكثر في الإبداع، وأصبح بإمكان تلك الأفلام إعادة تصوير مشاهد وتمثيل قصص وأفلام من خلال الرسومات أو الرسوم المتحركة، وأفلام أخرى تستخدم لغة تعبير تجريبية بالظل والصوت والإضاءة، فلم يعد المخرج ملزماً بنقل صورة من الواقع ولكن صورة معبرة تعبيراً حقيقياً عن الواقع.
ويرى مرتضى أن صناع الأعمال الفنية لهم الحرية في اختيار الشكل الفني المناسب للعمل، ويمكن تفادي الأسئلة التي تدور حول مشروعية هذا الأمر، أو مدى أخلاقيته من خلال الكتابة بالتترات. ويضيف "أن تلك المشاهد معاد تمثيلها، حتى لا يتهم صناع الأعمال الفنية بتضليل المشاهدين. أما فيما يخص التصوير في السجون فيتفق أنه من الأمور الصعبة التي تحتاج لتصريحات من جهات أمنية، على رأسها موافقة وزارة الداخلية ومصلحة السجون على السيناريو، لسلطتهم المطلقة، وأيضاً يمكنهما التدخل في العمل بعد الموافقة على التصوير داخل السجون، ولا يمكن لصاحب العمل اختيار الأماكن التي يمكنه التصوير فيها داخل السجن أو الحالات التي سيلتقي بها. هذا كله تحدده الجهات الأمنية كما ترشح الأشخاص، لتصبح في النهاية مقابلات جافة دون معايشة حقيقية للشخصيات أو للحياة داخل السجن".
ومن الأمثلة التي جاءت بها صورة السجون مغايرة للواقع، أو بالصورة التي ترغبها الأجهزة الأمنية، مسلسل "البرنس" للفنان محمد رمضان، وبه كانت الصورة النمطية للنوم على أسرة بطابقين، وأيضاً زيارات للأهالي على طاولات مستطيلة، وأيضاً مسلسل "ظرف أسود" الذي حمل أجواء مشابهة في أولى حلقاته لاثنين من السجناء ينامان على سريرين، ويعملان بورشة داخل السجن.
"زبائنية" السجون
"السجون والدراما... المؤسسات العقابية في الدراما"، عنوان كتاب للباحثين الدكتور أشرف رجب الريدي وسارة مختار جمال يبحث في الصورة التي تقدمها الدراما والسينما للمؤسسات العقابية، ومنها السجون.
بحسب الدراسة، فإن المؤسسات تعمل على تحسين صورتها "لعملائها والمجتمع"، وينطبق هذا أيضاً على المؤسسات العقابية.
وتهتم تلك المؤسسات بصورتها في الدراما باعتبارها – كما يوضح الكتاب- تحتل نسبة عالية للمشاهدة لدى الفئات العمرية من 12 إلى 45 عاماً، ويوصي الباحثان بأن يكون دور الرقابة ملتزماً بإظهار الدور الحقيقي للمؤسسات العقابية ليكون هدفها الأساسي إصلاح المجرم، وليس إيقاع الضرر به.
في سياق متصل، وجدت ورقة عمل أصدرها المعهد المصري للدراسات أن الأعمال الفنية في مصر تناقش السجون وحياة السجناء الجنائيين وتستبعد التعرض إلى قضايا السجناء في أمور سياسية، كما كان يتم في الماضي في أفلام منع عرضها، ومنها البريء، وإحنا بتوع الأتوبيس، والكرنك، التي عرضت صورة قريبة من الواقع لما يلاقيه السجناء السياسيون.
*اسم مستعار بناء على طلب المصدر
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...