"حرام عليكي، الحليب الصناعي سمّ، لازم تعطيها مناعة"، مثل هذه العبارات تردّدت على مسامع الأم اللبنانية سمر (اسم مستعار) بعد ولادة طفلتها الأولى، والتي تسبّبت لها بضغطٍ نفسيّ قبل أن تضطرّ إلى إبقاء امتناعها عن الإرضاع سراً لم تشاركه مع أمّها وحماتها حتى اللحظة، أي بعد مرور أكثر من خمس سنوات على الولادة.
موروثات مجتمعيّة و"أمّهات مثاليات"
تقول سمر في حديثها مع رصيف22: "لم أرغب بالظهور أمام أمي وحماتي بصورة الأم المذنبة لمجرّد عدم رغبتي بالإرضاع، لذا كنتُ أقوم بإقناعهما أنني سأدخل غرفتي لإرضاع الطفلة، فيما كنتُ أقوم في الحقيقة بتحضير الحليب الصناعي لإطعامها".
تعتبر الأم الثلاثينية أنّ مسألة الرضاعة وغيرها من المسائل التي تتعلّق بالطفل شخصيّة ولا يمكن للمحيطين بالأم، مهما بلغت درجة القرابة، أن يتدخّلوا بها، وتُضيف: "ما من أحد سيحبّ طفلي أكثر منّي".
"تأتي الضغوطات النفسيّة التي تتعرّض لها النساء اللواتي يلدن في لبنان، وكذلك في بعض المجتمعات العربية، انطلاقاً من الصورة التي يضعها المجتمع الذكوري لكلٍّ من الرجل والمرأة. صورة الرجل دائماً تتمثّل باعتباره معيل الأسرة والمدافع عنها، بينما تظهر المرأة دائماً بثوب التضحية والحنان، وينتظر منها المجتمع أن تشعر بطفلها وتتأقلم معه بسرعة"، بحسب ما تؤكده المعالجة النفسية الدكتورة آن ماري الغصين، لرصيف22.
"لم أرغب بالظهور أمام أمي وحماتي بصورة الأم المذنبة لمجرّد عدم رغبتي بالإرضاع، لذا كنتُ أقوم بإقناعهما أنني سأدخل غرفتي لإرضاع الطفلة، فيما كنتُ أقوم في الحقيقة بتحضير الحليب الصناعي لإطعامها"
وطبقاً لحديث الغصين، عادةً ما ينشأ صراع في المجتمعات التقليدية بين الأم التي ترغب بتطبيق الطرق الجديدة مع المولود وبين أفراد العائلة، كالأم والحماة، اللتين تنطلقان من تجربتهما لتربية الطفل، فيزيد ذلك من حدّة الضغوطات التي تتعرّض لها الأم بعد الولادة.
وتشرح آن ماري أن تأثُر الأم بهذا النوع من الضغوطات يتعلّق بهشاشتها الداخلية: "إذا كانت هشّة ستمتصّ ما يقوله لها المجتمع وتشعر بالارهاق وتتفاقم حالتها، على عكس الأم غير الهشّة نفسياً، إذ ستكون وطأة الضغط أخفّ بالنسبة لها".
على خلاف سمر، رغبت نور بإرضاع ابنتها، لكنّ الرضاعة الطبيعية لم تكن كافية لإشباعها، ما اضطرّها للجوء إلى الحليب الصناعي، وعندما قوبلت بالنّقد قرّرت أن تواجه الجميع بالقول: "لو كان عندي حليب ما رح أبخل عليها".
وأصرّت نور على اتّباع الأساليب التي تراها مناسبة مع ابنتها، متجاهلةً كلّ الانتقادات التي وُجّهت لها رغم تأثّرها في الفترة الأولى، فقرّرت مثلاً أن تحمل ابنتها عند البكاء: "لم أقتنع بفكرة أن أترك ابنتي تبكي فقط كيلا تعتاد على الحملان، إنها أكثر الأوقات التي تحتاج أن تشعر بحناني".
وكذلك كشفت نور لرصيف22 أنها رفضت تطبيق كل النصائح التي سمعتها، كتغطيس الطفلة بزيت الزيتون أو إعطائها اليانسون عند الشعور بالوجع.
بدورها، تعرّضت بتول أيضاً لضغوطات من محيطها بعد ولادة ابنها، خصوصاً من قبل "الأمهات المثاليات"، على حدّ قولها، واللواتي يُغقدن عليها بالنصائح والمقارنات مع أبنائهنّ: "عندما بلغ ابني الثاني شهره التاسع، حاولت إحدى الأمهات إقناعي بضرورة التوقف عن إرضاعه والاكتفاء بالحليب المصنّع، على اعتبار أنّ حليبي لم يعد نافعاً وأصبح كالماء، وأنها كأم مثالية فطمت ابنتها بعمر السنة، لكنّني لم أستمع لها واستشرت طبيباً نصحني بأهميّة متابعة الرضاعة لطفلي".
وتتحدّث بتول لرصيف22 عن التدخّل المستمرّ بخيارات تربية أطفالها، إذ لامتها قريبتها على عدم تنظيف ابنها من الفوط على عمر السنة، وقدّمت لها اقتراحات "عنيفة" للوصول إلى الهدف المنشود، وهو أمرٌ لم يلقَ استحسان الأم على الإطلاق: "احرقيه بالقدّاحة، اضربيه، طعميه حرّ، خوفيه".
لجيهان أيضاً تجربتها مع الضغط النفسي بعد أن وضعت ابنتها الثانية منذ سنة، وتقول إنّ أول عبارة سمعتها من العائلة في المستشفى كانت "يا ويلي شو سمرا"، لم يسأل أحد عن صحّة المولودة، كلّ ما يعنيهم هو لون بشرتها وحجم أنفها وشكل وجهها، وفق ما قالت لرصيف22.
وتستدرك: "كذلك جنس المولود له أهمية كبيرة في مجتمعنا الذكوري، لذلك سمعتُ كثيراً عبارة يا حرام الله يرزقك الصبي"، مشدّدة على أهمية عدم السماح للمستشفيات بزيارة الجميع، بخاصة وأنّ الأم تكون مرهقة ومتألّمة، وغير قادرة على تقبّل هذا النوع من الانتقادات والتعليقات بأيّ شكل من الأشكال.
تدهور الحالة النفسيّة
تجربة الألم بدت مشتركة بين الأمهات جميعهنّ، خصوصاً اللواتي خضعن لعملية ولادة قيصريّة، لكنّ الألم النفسي كان عاملاً بارزاً جعل من تجربة رغد (اسم مستعار) قاسية جداً، ما دفعها لطلب الطلاق من زوجها لتتراجع عن الأمر في وقت لاحق.
تقول الأم، البالغة من العمر 26 عاماً، لرصيف22 : "تدهورت حالتي النفسية، ولو لم أتلق دعماً كافياً من زوجي لم أكن لأتجاوز الأمر أبداً، وكان وقع التعليقات التي سمعتها والتدخّلات في طريقة التعامل مع طفلي ليكون أشدّ، أعتقد أنّ الحالة النفسية للأم يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار قبل أيّ شيء آخر".
"جنس المولود له أهمية كبيرة في مجتمعنا الذكوري، لذلك سمعتُ كثيراً عبارة يا حرام الله يرزقك الصبي"
وتحدثت الأم عن تجربتها بالقول: "شعرتُ بعد ولادتي بنظرة الشفقة في عيون كلّ من حولي، كنتُ أبكي بشكل متواصل دون سبب واضح، تردّدتُ مراراً قبل أن أطلب أي خدمة كيلا أبدو (ثقيلة) بنظرهم، بدا تدخّل الآخرين في طريقة تعاملي مع ابني تقليلاً من قيمتي، سألتُ نفسي هل سيتقبّل زوجي التغير الجديد في بطني؟ هل سيتقبل اكتسابي للوزن؟"، وأشارت إلى أنها لم تستطع أن تحدّد فيما اذا كانت قد مرّت بكآبة ما بعد الولادة أم لا، لكنّها تجاوزت الأمر بمساعدة محيطها الدّاعم.
توصلت إحدى الدراسات إلى أن اكتئاب ما بعد الولادة ينتشر بين النساء العربيات بنسبة 10 إلى 37%، وذلك لأسباب عديدة، منها ضغوطات الحياة، غياب الدعم، عنف الشريك، الافتقار إلى الدعم الاجتماعي وكذلك انخفاض الدخل.
فيما تُشير دراسة بريطانية إلى أن النساء اللواتي تستمر معاناتهنّ من اكتئاب ما بعد الولادة لعدة أشهر يتعرّضن لخطر الإصابة باكتئاب يلازمهنّ لسنوات، وقد يؤثر على تطوّر أطفالهنّ، وأظهرت الدراسة أنّ احتمال ظهور اضطرابات سلوكية على أبناء الأمهات اللواتي عانين من اكتئاب مستمرّ هو الضعف تقريباً.
في هذا السياق، تُلفت الدكتورة آن ماري الغصين إلى أنّ اكتئاب ما بعد الولادة لا يتعلق فقط بالهرمونات، بل هو نتيجة أسباب عديدة، يأتي في مقدمتها حدث الانفصال بين الأم والطفل، وهي أول صدمة يعيشها الإنسان بعد انفصاله عن والدته، وتتأثر بها الأم كثيراً. أما السبب الثاني، فهو شعور الأم بالذنب إذا لم تتعلّق بطفلها بشكل فوري كما أقنعها المجتمع، والسبب الثالث يتعلّق بالفرق الذي تلمسه الأم بين صورة طفل "الأحلام المثالي" وبين الطفل "الواقعي"، ما يسبب صدمة ومن ثم اكتئاب ما بعد الولادة. وأخيراً، حالة الإسقاط التي تعيشها الأم بعد الولادة، أي العودة بذاكرتها اللاواعية إلى الوقت الذي كانت فيه طفلة، لتسترجع صدمة الانفصال عن أمّها من جهة، وعلاقتها بأمها عندما كانت طفلة من جهة أخرى.
الرضاعة... أمرٌ أساسي؟
تعود رغد، التي تلقّت دعماً كبيراً من زوجها ومُحيطها في المنزل، بذاكرتها إلى يوم الولادة، لتؤكد أنّ أسلوب الطاقم الطبّي يمكن أن يُفضي إلى ضغوطات نفسية كبيرة: "عانيتُ من آلام حادّة في الأيام الأولى، حتى أنني عجزت عن إرضاع طفلي، لأتفاجئ باتّهام الطبيب لي بأنّ تصرفاتي ناتجة عن (غنج) ليس إلّا".
تكشف رغد لرصيف22 أنها أيّام لا ترغب بتذكّرها لأنّ أحداً لم يشعر بألمها في المستشفى، فيما أُجبرت على إرضاع طفلها بالقوة وسط عبارات اعتبرتها قاسية: "يجب أن تجبري نفسك على إرضاعه، هذا طفل ويجب أن يتغذى، أنت لا تعانين من شيء، أنت تتغنّجين".
في هذا الصدد، تستعرض آن ماري الغصين فكرة نظرية للفيلسوفة الفرنسية إليزابيث بادينتر، حاولت إثباتها في كتابها L'amour en plus الذي نُشر في الثمانينيات.
تعتبر بادينتر أن غريزة الأمومة غير موجودة، إنما هي فكرة ثورية سمحت ببناء فكرة مختلفة عن الأمومة، دفعت النساء إلى الإرضاع، وجعلت أجيالاً من الأمهات يشعرن بالذنب، وتالياً فإنّ حبّ الأم هو شيء يتمّ بناؤه.
وفي حين لا تتبنّى الغصين أيّ نظرية لفكرة الرضاعة، إلاّ أنها تؤكد أنّه من الناحية النفسيّة، لا تُبنى علاقة الأم والطفل على أساس الرضاعة فقط، على الرغم من أهميّتها: "إنّما الأهمّ هي عمليّة التواصل البصري مع الطفل واحتضانه والتكلّم معه والشعور به، فعَينَا الأم هما المرآة التي يرى نفسه فيها".
"يجب أن تجبري نفسك على إرضاعه، هذا طفل ويجب أن يتغذى، أنت لا تعانين من شيء، أنت تتغنّجين"
على الرغم من وجود أشخاص يرفضون تقبّل ألم الأم بعد الولادة لأسباب تتعلق بطفولتهم، ختمت الغصين حديثها بالتشديد على ضرورة التوعية، ليس فقط على صعيد العائلة وإنّما أيضاً على صعيد الطواقم الطبية، هذا ونصحت الأمهات بالتكلّم مع أشخاص يثقن بهم حول كلّ ما يمكن أن يشكّل عبئاً عليهنّ بعد الولادة.
تجدر الإشارة إلى أن الرضاعة الطبيعية في لبنان هي دون التوصيات العالمية، إذ إن نسبة الرضاعة الطبيعية الحصرية هي الأعلى (40%) من عمر صفر إلى شهر واحد، وتنخفض إلى 2% ما بين سن الأربعة إلى الخمسة أشهر، بحسب إدارة الإحصاء المركزي واليونيسف.
هذا وأشارت إحدى المذكرات الموجزة حول "حماية الرضاعة الطبيعية في لبنان" إلى أنّ الرضاعة الطبيعية التي هي دون المستوى المثالي في لبنان تساهم بمعدلات الوفاة والأمراض عند الرضع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم