شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الجيل الضائع في

الجيل الضائع في "السود عيونو؟... يا ولى"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتاريخ

الأربعاء 24 مايو 202301:58 م

الجيل الضائع في "السود عيونو؟... يا ولى"

استمع-ـي إلى المقال هنا

تنويه 1: هذا النص موجه إلى الأجيال السابقة واللاحقة، التي ستتعرف على أبناء جيلي لأول مرة من قرب، لذلك فإن هذه المادة (الخيالية-الواقعية والجدية-الساخرة)، هي محاولة لفهم حال جيل الثمانينيات. 

تنويه 2: هذا النص هو محضر مسرّب من أول جلسة علاج "الجيل الضائع" مع الطبيب النفسي.

دخل شخص إلى عيادة الطبيبة النفسية المعالِجة، وكان يظهر عليه الكثير من الكدمات والندب القديمة، ويلبس ثياباً رثةً وهو يمشي بخطوات غير متزنة فيها ما فيها من القرفصاء، فاستغربت الطبيبة وتقدمت نحوه كي تساعده في الجلوس على الكرسي المخصص.

بدت الطبيبة حائرةً. أرادت أن تستوضح من الحالة الجديدة التي تزورها لأول مرة ما إذا كان مخطئاً بينها وبين غرفة الطوارئ التي تقع في المبنى الملاصق لمكتبها، ولكنها ترددت نظراً إلى ما قد يحمله الموقف من قساوة في حال كانت الحالة تدرك وجهتها.

ولزيادة الارتباك، أراد الوافد أن يُعرّف بنفسه في لحظة جلوسه على الكرسي المخصص له، فقال للطبيبة:

-أنا الضائع

-الطبيبة: آه... الآن فهمت، نعم الطوارئ في المبنى المجاور.

-الحالة: لا لا... أنا اسمي الضائع.

الطبيبة وقد بدا عليها الإحراج: آسفة آسفة، تشرّفنا، ولكن اسمك غريب ولافت وعميق.

هنا خرج صوت "شخرة" من أنف الزائر يدركه جيداً أهل الإسكندرية، ولكنه تمالك نفسه وتأسف بعد أن أحس بالحرج الزائد.

مرّ أقل من دقيقة كان الطرفان فيها قد غرقا في صمت مدقع. هنا تداركت الطبيبة الموقف وتوجهت إليه بالسؤال:

- إذاً كيف حالك اليوم؟

- الضائع: بصراحة أعاني من اكتئاب ما بعد الولادة.

- الطبيبة وعلامات الصدمة تظهر على محياها: عذراً؟ اكتئاب ما بعد الولادة يا سيد ضائع!

- الضائع وهو مبتسم: لا لا اكتئاب ما بعد ولادتي أنا، أي منذ وُلدت.

- الطبيبة وبعد أن كتمت ضحكتها: لماذا تشعر بذلك؟

- الضائع: في الحقيقة أيتها الطبيبة الإحباط هو بسبب خليط أزمات أعانيه منذ ولادتي وحتى اليوم، ولكن ما دفعني للمجيء هو اكتشافي لحالتي التي لا أجد لها حلاً.

- الطبيبة: والتي هي؟

- الضائع: أزمة هوية، لا بل أزمة هوايات، سأخبرك قصتي، أنا ولدت في حقبة زمنية غير واضحة ما بين جيل الثمانينيات وبداية التسعينيات، وهي فترة غير محددة زمنياً لأن كاتب التاريخ كان مشغولاً بالحروب التي كانت منطقتنا تعج بها في تلك الفترة، من الحرب الأهلية في لبنان، والاجتياح الإسرائيلي لبيروت، فحرب الخليج الأولى ثم انهيار الاتحاد السوفياتي وتداعياته على العالم.

والديّ حظيا باسم جميل كـ"baby boomer". أما من لحقني فهو Millennium والأخير هو Z . ألا ترين أنها أسماء جميلة بخلاف اسمي: "الضائع"؟

نعم لقد نشأت وترعرعت في هذه الفوضى التي كانت تحل بالكوكب، لذلك قرروا أن يسموني بهذا الاسم الأخرق خلافاً للأسماء التي سبقتني والتي أُطلقت على من وُلدوا بعدي، فوالديّ، حظيا باسم جميل كـ"baby boomer". أما من لحقني فهو Millennium والأخير هو Z . ألا ترين أنها أسماء جميلة بخلاف اسمي: "الضائع"؟

- الطبيبة: دعني أستوضح أمراً، أنت هنا لأنك تشعر بالظلم أم بالأسى؟

الضائع: أشعر بالبذاءة يا دكتورة في وصف حالتي، من التعليم إلى العمل، فحالتي العاطفية، حتى ذوقي المشوّه، وأخيراً صعوبة انخراطي في المجتمع الحديث...

الطيبية: دعنا نبدأ نقطةً نقطةً في محاولة منا لفكفكتها، إذاً، ماذا عن التعليم؟ ما هي مشكلتك تحديداً؟

التعليم

الضائع: التعلييييم... في المراحل التعليمية الأولى، نشأ صراع حول اللغة الثانية التي يجب أن نكتسبها غير العربية، بين الفرنسية التي كانت تمثل زوراً الأرستقراطية، والإنكليزية التي كانت تمثّل المستقبل، فانقسمت إلى قسمين؛ قسم يدرس الإنكليزية وقسم يدرس الفرنسية لإرضاء والديّ، اللذين كانا تحت تأثير الانبهار بالانتداب، المثقف والمتعلم.

على الجانب الآخر، الاستقرار التعليمي كان شبه غائب وخصوصاً في بلدنا، من انهيار قيمة الليرة وتثبيتها، والاعتداءات الإسرائيلية المتلاحقة، وظهور طبقة سياسية اختفت معها أقل التقديمات الطبيعية التي يمكن أن يحصل عليها أي شعب. نعم كنت أدرس على ضوء الشمعة، وكان لزاماً عليّ أن أنجح وإلا سيتم ضربي، والتفوق المطلوب كان من باب الوجاهة الاجتماعية، لا خوفاً على مستقبلي، فأي مستقبل مشرق لشخص أُطلق عليه اسم الضائع؟

اسمي ضائع، ويقولون لي: اسم على مسمّى.

لك أن تتخيلي كمية التنمر الذي حصلت عليه في صغري وحجمها، واسمه حينها لم يكن التنمّر، ولم يكن أمراً معيباً، بل كان النوع المفضل من المزاح لدينا/ هم. نعم كنا نمزح. اليوم إذا تفوهنا بهذه النكات سنُسجن بمجموعة تهم، سجّلي لديك أبرزها: العنصرية، التنمر، الجنسية، المناطقية، وخطاب الكراهية.

اسمي ضائع، ويقولون لي: اسم على مسمّى. لك أن تتخيلي كمية التنمر الذي حصلت عليه في صغري وحجمها، واسمه حينها لم يكن التنمّر، ولم يكن أمراً معيباً

صدّقيني لم نكن عدائيين أو جاهلين، ولكن كان الشكل الحديث للضبط الاجتماعي مختلفاً كلياً، يا دكتورة لك أن تتخيلي اليوم وأنا أمشي في الطريق أو في أمسية مع أصدقائي، كمية النكات التي تأتي على رأسي، فأضحك بسببها وحدي من دون أن أشاركها، فأبدو كالمعتوه. ومن ثم أغضب من نفسي، لأن هذه النكات/ الأفكار، تعلّمت حديثاً أنها معيبة، ومعيبة جداً.

-الطبيبة: إذاً تعرضت للتنمر والعنف الأسري، هل تريد الدخول في تفاصيلهما في هذه الجلسة أم تفضّل الانتقال إلى النقطة الثانية والتي كانت...

العمل

-الضائع: في ما يخص العمل، سأكتفي بأن أقول لك إنه بمجرد انتهائي من الدراسة الجامعية والاختصاصات التي كانت مفضلةً، ظهرت الأزمة الاقتصادية الأكبر في العام 2008، وطبعاً لا ننسى الوضع الأمني السيئ في تلك الفترة، وحرب الـ2006 على لبنان وغيرها من الحروب، التي كانت تقول لي صراحةً إن فرصي المهنية ستكون تماماً، كاسمي أو أسوأ.

- ومن دون أن ننسى أن الاختصاصات التي كانت مفضلةً لدى الأهل حينها من حقوق وهندسة وطب كانت قد بدأت تحل مكانها اختصاصات أكثر حداثةً، كبرمجة الكمبيوتر وغيرها من الأمور، والتي كانت تواكب التطور التكنولوجي، ولكن عندما دخلنا إلى سوق العمل لم نكن نتخيل أن الكوكب مقبل على عالم "السوشال ميديا بزنس".

-لذلك ولكيلا أطيل عليكِ سأنتقل إلى النقطة التي قد تظنين أنها تافهة ولكنها مؤلمة صدّقيني.

الذوق الفني

كنا قد ترعرعنا على أنغام فيروز وملحم بركات ونجاة الصغيرة، وكنا إذا أردنا أن نشعر بأننا ننتمي إلى جيل الحداثة، كنا نستمع إلى عمرو دياب، محمد منير، وائل كفروي، ونوال الزغبي، وكنا نرقص رقصة الفراشة لراغب علامة!

هنا استطرد ممازحاً: هل تدركين أن جيلاً كاملاً تعلم الرقص من راغب علامة وعلاء زلزلي؟

المشكلة لم تكن في ذلك الوقت، إنما ظهرت اليوم، فنحن لا نزال نستمع إلى عمرو دياب ونقول ذلك صراحةً لأنه استطاع أن يكمل مشواره الفني بنجاح، ولكن سقط في الطريق كثيرون ممن كانوا نجوماً، يعني لك أن تدركي أن الـback street boys انتهت مرحلتهم، وعمرو دياب لا يزال مستمراً، وشابّاً... نعم أنا متحيّز لعمرو دياب.

-الطبيبة: عظيم... ولكن أين المشكلة اليوم؟

-الضائع: مع ظهور أغاني الجيل الجديد كأغاني المهرجانات، بدأنا نهاجمها علناً ونسمعها في الخفاء. انتقلنا من فيروز إلى حسن شاكوش من دون أي انتماء.

نظر إلى الطبيبة وكأنه تيقن من أمر ما نتيجة عدم تفاعلها معه بالشكل الذي كان يتوقعه، وقال: "السود عيونو؟"! فقالت له بتأثّر: "يا ولى"! فاكتشف أنها من الجيل نفسه، وشرعا في البكاء معاً

الطبيبة: طيب ماذا عن علاقاتك العاطفية كيف تأثرت بذلك؟

العلاقة العاطفية

-الضائع: كنا قد بدأنا بالحب التقليدي القديم، القائم على تبادل الرسائل المكتوبة بخط اليد، بما فيها من مبالغات مثل أغنية وائل كفوري "مكتوبك مليان دموع"، فظهر الإنترنت والأم. إس. أن!

نعم... وجب عليّ أن أختار الإيميل، ملك الموت أو نجم النجوم أو حبيبي النائم وغيرها من العبثيات التي ترينها اليوم كأسماء مستعارة على فيسبوك. في السابق كانت إيميلاتنا الخاصة.

وبدأنا بالتواصل والحب، وهي تضع صورة وردة حمراء وأنا صورة كرة قدم زرقاء وبيضاء، المضحك أننا كنا نحب بعضنا هكذا...

ولكن هنا دعيني أقول لك إن أول إنجاز شعرت به، كان يوم انتظرت 15 دقيقةً حتى "فتح إيميلي على الأم. أس. أن".

هنا، من دون سابق إنذار، ظهر عليه التعب والإرهاق برغم ابتسامته التافهة، ولكنه كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط عن كرسيه.

-الطبيبة: ما لي أشعر بأنك مرهَق، هل أنت بخير؟

-الضائع: يا دكتورة أنا ضائع بعد كل ما قيل، أنا ضائع وهنا لا أقصد اسمي. حرفياً أنا ضائع.

-الطبيبة: هل تريد أن نكمل لاحقاً؟

فجأةً نظر إلى الطبيبة وكأنه تيقن من أمر ما نتيجة عدم تفاعلها معه بالشكل الذي كان يتوقعه، وقال: "السود عيونو؟"!

فقالت له بتأثّر: "يا ولى"!

فاكتشف أنها من الجيل نفسه، وشرعا في البكاء معاً، وانتهت الجلسة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image