شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
موسيقى النبي داود وأوركسترا الشيطان

موسيقى النبي داود وأوركسترا الشيطان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الاثنين 14 نوفمبر 202210:49 ص

سمعت أن هناك وتراً سرياً عزف عليه داودُ، وسُرّ به الربُّ. لكنكم لا تهتمون حقاً بالموسيقى. أليس كذلك؟ (ليونارد كوهين، هللويا).

جاء في سفر صموئيل الأوّل من كتاب العهد القديم أن الملك شاؤول (أو طالوت)، أوّل ملوك بني اسرائيل (1020-1000 ق.م.)، كان يعاني من عقلٍ مضطرب، فاقترح مستشاروه أن يلتمس مساعدةَ عازفِ قيثارةٍ ماهر، علّه يخفّف عنه كربَه. أوصى المستشارون براعٍ يدعى داود، كان قد اشتهر بموهبته الموسيقية. مثل داود أمام طالوت، وعزف له، فهدّأت قيثارتُه الأرواح الشريرة التي ابتلَت ذهنَ الملك.

في الفصل التالي، قتل داود العملاق جالوت بمقلاعٍ وحجرة، مبدياً قدراته القتالية الاستثنائية.

تتمتّع هاتان القصتان بأهمية ووزنٍ متساوٍ في سِفر صاموئيل؛ فداود موسيقي مرهف بقدر ما هو محارب شرس وملك تقي.

نظراً لمركزيته بالنسبة لكافة الأديان الإبراهيمية، كان لا بدّ للمصادر الدينية، اليهودية منها والإسلامية، أن تفكّر في كيفية مقاربة الجانب الموسيقي من شخصية داود، وذلك بطريقة تخدم تقاليدها الدينية المختلفة، ووجهات نظرها المتباينة، في ما يتعلّق بالموسيقى ومكانتها داخل المجتمعين اليهودي والإسلامي.

"سمعت أن هناك وتراً سرياً عزف عليه داودُ، وسُرّ به الربُّ. لكنكم لا تهتمون حقاً بالموسيقى. أليس كذلك؟"

يخصّص محرّرا كتاب "شخصية داود في اليهودية والمسيحية والإسلام: المحارب والشاعر والنبي والملك"، مارزينا زاونوسكا وماتوز ويلك، فصلاً كاملاً لدراسة ميول داود الموسيقية، وكيفية تصويرها في الكتب المقدسة للديانات الثلاث. وبالرغم من فعل الاستيحاء الواضح الذي مارسه الإسلام في إعادة تدوير النّصوص اليهودية، يهتمّ هذا البحث المقارن بالتفاوتات بين الروايات الحاخامية والإسلامية في تفاعلها مع تلك الشاعرية التي تجسّدها قيثارةُ داود وكيفية توظيفها في خدمة كلٍّ من الطائفتين وتعاليمها.

التقاليد المدراشية: نوم داود أهمّ من موسيقاه

قلّة هم الأنبياء والشخصيات المقدّسة الذين اهتموا بأمور الفنّ ومظاهره. لذا يمكن تلمّس بعض الارتباك في تعاطي النصوص الدينية مع موسيقى داود. وبالرغم من أنه يُنسب لداود عدد كبير من مؤلفات وتراتيل "سِفر المزامير"، فقد عمدت التقاليد البابلية والفلسطينية إلى التقليل من أهمية الموسيقى في حياة داود لصالح شخصيتِه الروحية. وعليه اهتمت تعاليم التلمود والأدب المدراشي-النصوص المفسرة للكتاب القديم- بنومِ داود أكثر من موسيقاه المقدسة.

"أجاب الحاخام أوشايا نقلاً عن الحاخام أها: قال داود: لم يمرّ عليّ منتصف الليل في نومي.

قال الحاخام زارا: حتى منتصف الليل كان يغفو كالحصان، ثمّ ينهض بِطاقةِ أسد.

قال الحاخام آشي: حتى منتصف الليل كان يدرس التوراة، ثمّ يتلو الترانيم والتسبيح.

[…] لكن كيف عرف داود موعد حلول منتصف الليل بالضبط؟ […] كانت تأتيه إشارة. فهكذا قال الحاخام آها بيزانا باسم الحاخام سمعان الورع: كانت هناك قيثارة معلقة فوق سرير داود. وبمجرد حلول منتصف الليل، كانت تهبّ عليها ريح شمالية، فتعزف القيئارة من تلقاء نفسها". 

هذا المقطع المستمدّ من سفر "بركات" (براخوت) من كتاب التلمود البابلي يركّز على صلوات اليهود وعباداتهم والقواعد المتعلقة بالصلوات اليومية. وهو بالتالي يرسم صورة حاخامية عن داود، عوضاً عن صورة الفنان المبدع؛ فالملك داود يفضّل الواجبات الدينية على الملذات الدنيوية. هو يتفانى في عبادة الرّب ودراسة التوراة، يضحّي بالنوم في سبيل الصلاة، حتى أنه لم يعد يعزف القيثارة، بل إن الريح هي من تفعل ذلك بالنيابة عنه، ولا لسبب سوى إيقاظه من أجل الصلاة.

العبرة التي تقودنا إليها هذه المعالجة التلمودية، بحسب المحررين، هي أن قوانين الطهارة الحاخامية تشكّل السماتِ الحقيقيةَ للتّقوى، وليس موسيقى داود أو "مزاميره" التي تغيب تماماً عن هذه الرواية. وإن أقرّت بعض الروايات التلمودية بقيام داود نفسه بالعزف على القيثارة، فذلك لكي يوقظ بني إسرائيل، ويدعوهم إلى الصلاة. الموسيقى إذاً ثانوية، ومقبولة فقط حين يتمّ توظيفها في خدمة الدراسة التوراتية.

نظراً لمركزيته بالنسبة لكافة الأديان الإبراهيمية، كان لا بدّ للمصادر الدينية، اليهودية منها والإسلامية، أن تفكّر في كيفية مقاربة الجانب الموسيقي من شخصية داود، وذلك بطريقة تخدم تقاليدها الدينية المختلفة، ووجهات نظرها المتباينة، في ما يتعلّق بالموسيقى ومكانتها

إن أردنا المقارنة بين هذين النمطين من الممارسة الشعائرية- أي الموسيقى والدراسة- يمكن أن نستدلّ إلى جوهر المنهج التلمودي الذي عمد على التركيز على الجانب العاقل للدين، عوضاً عن طابعه الروحاني والعاطفي.

فتوجه تعاليم التلمود إلى عدم الاكتراث بموسيقى داود ينسجم مع النظرة الحاخامية العامة تجاه الموسيقى. وتشير العديد من المصادر التلمودية إلى أنه، وبعد تدمير هيكل سليمان، تمّ حظر الموسيقى بشكل نهائي وقاطع. يجادل الباحث إيمانويل فريدهايم بأن هذه السلبية نابعة من محاولة الحاخامات وضعَ حدٍّ للتأثير البالغ الذي كان للموسيقى الوثنية على المجتمع اليهودي.

في النهاية، لم يتمكّن الحاخامات من حظر الإبداعات الموسيقية بشكل كامل، فاضطروا إلى تعديل أحكامهم وتحويلها عن مسار التحريم الصريح باتجاه "البروبغندا الضمنية ضدّ الموسيقى"، وفق تعبير المؤلفين، والتي تشهد بتفوق الدراسة على الموسيقى في التراتبية القداسية. وقد تمّ استثمار شخصية داود في هذا المسعى عبر الإيحاء بأن: "حتى الموسيقي داود لا حاجة له للموسيقى".

الإسلام: الصراع الأخلاقي حول قيمة الموسيقى

عن عبد الله بن عمرو بن العاص: قال رسول الله "إن أَحَبَّ الصيام إلى الله صِيَامُ داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وكان يصوم يومًا ويُفطِرُ يومًا".

تتفق التأملات الإسلامية في شخصية داود مع روايات التلمود من حيث اهتمامها بنومه الخفيف وتفانيه في العبادة، مركّزةً على إفراطه في الصلاة والصيام، وزهده بمظاهر الحياة المادية. مبالغة الأحاديث الاسلامية في تصوير تعبّد داود قد ساهمت في طرحه كنموذج مثالي للآثم التائب. ويمكن اعتبار مثابرة داود على تجاوز الحدّ الأدنى من الالتزامات المطلوبة من المسلم العادي بمثابة تأكيد على خطاياه وأسفه.

لكن إلى جانب خصاله الورعة، تطرح المعالجة الإسلامية بعداً إضافياً وأكثر تعقيداً لشخصية داود، يتمثّل بالصراع الأخلاقي بين قوى الخير والشر. هو صراع تمّ خوضه على أرض الموسيقى نفسها، على شكل حربٍ بين صوت داود وأوركسترا الشيطان. فبدلاً من إقامة جدار فاصل بين الموسيقى والصلاة، تؤكد النصوص الإسلامية على تفاني داود الديني، باستخدام مواهبه الموسيقية كإحدى أدوات هذا التفاني.

بالرغم من فعل الاستيحاء الواضح الذي مارسه الإسلام في إعادة تدوير النّصوص اليهودية، تفاوتت الروايات الحاخامية والإسلامية في تفاعلها مع تلك الشاعرية التي تجسّدها قيثارةُ داود وكيفية توظيفها في خدمة كلٍّ من الطائفتين وتعاليمها

تصوّر بعض سور القرآن داود كنبيٍّ بصوتٍ آسِر. كما يُنسب إليه اختراع آلات النفخ المعروفة بالمزمار والمعزاف، لأنه كان أول من عزف عليهما. لكن يلاحظ الباحث رودي باريت أن الأحاديث تمتدح غناءَ "ديفيد" الساحر، وليس قدرته على عزف الآلات. كما يخبرنا أبو جعفر الطبري أن الآلات الموسيقية اختُرعت من قبل الشياطين من أجل تقليد صوت داود. نجد معالجة أخرى لمسألة الآلات المحرّمة في إحدى روايات الكسائي، حيث يستخدم داود صوتَه الساحر لإبعاد الإسرائيليين عن لهوِهم بآلات الشيطان الموسيقية وفق ابن عباس.

أما تحوّل داود في الرواية الإسلامية من عازف قيثارة أو مزمار إلى مغنٍ، فله تفسير بسيط وفق الناقد الموسيقي كريستيان بوشيه الذي يعزي نبذَ الآلات الموسيقية إلى الدلالات السحرية المرتبطة بها في الحضارة اليمنية القديمة، حيث كان يستخدم المعزاف لترويض الجنّ. هذا بالإضافة إلى عدم شعبية "سفر المزامير" المسيحي عند العرب. وعليه، تمّ إبعاد موسيقى داود عن دلالاتها الشيطانية، ومواءمتها مع السياق العربي، كما تمّ إعادة تشكيل شخصية داود الرمزية بشكل يتناسب مع احتياجات المجتمع المتغيرة.

ليس صوت داود إذاً تبرئةً للموسيقى من خواصها الشيطانية، بل هو على العكس من ذلك نقيض وندّ لها. فحين أراد الله امتحانَ عبادِه للتعرّف على المؤمنين الحقيقيين بينهم، حثّ إبليس وشياطينه على الخوض في مبارزة موسيقية مع صوت داود. نجحت أوركسترا إبليس في تقليد صوت داود، وإغراء السفهاء بين الناس، كما جاء في "قصص الأنبياء" حيث يروي الثعلبي عن أبي هريرة:

حين أراد الله امتحان عباده للتعرّف على المؤمنين الحقيقيين بينهم، حثّ إبليس وشياطينه على الخوض في مبارزة موسيقية مع صوت داود. نجحت أوركسترا إبليس في تقليد صوت داود وإغراء السفهاء بين الناس

" [...] ولم يعط الله أحداً من خلقه مثل صوت داود، وكان يقرأ الزبور بسبعين لحناً بحيث يعرق المحموم ويفيق المغمى عليه، وكان إذا قرأ الزبور برز إلى البرية، فيقوم، وتقوم معه علماء بني إسرائيل خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء وتقوم الجن خلف الناس وتقوم الشياطين خلف الجن، وتدنو الوحوش والسباع ويؤخذ بأعناقها وتظله الطيور مضحيةً، ويركد الماء الجاري، ويسكن الريح، وما صنعت المزامير والبرابط والصنوج إلا على صوته، وذلك أن إبليس لعنه الله حسده واشتد عليه فقال لعفاريته ألا ترون ما دهاكم؟ فقالوا: مرنا بما شئت، فقال إنه لا يصرف الناس عن داود إلا ما يضاده ويحاده في مثل حاله فهيئوا المزامير والعيدان والأوتار والملاهي على أجناس أصوات داود، فسمعها سفهاء الناس فمالوا إليها، واغترّوا بها [...]".

يعتبر المؤلِّفان أن هذه الرواية الإسلامية، بعناصرها الشيطانية، هي انعكاس للجدل الأوسع حول طبيعة الموسيقى في الفكر الإسلامي الطاغي خلال العصور الوسطى. إذ كان ينظر إلى الموسيقى على أنها ذات صدى بالغ على الروح، ولها بالتالي سلطة على أخلاق المستمعين وعواطفهم.

هذا الانشطار في الموسيقى بين وجهها الخيّر ووجهها الشيطاني أفسح مجالاً أمام التفسيرات والتأويلات المختلفة. إذ يزعم بعض المفكرين الإسلاميين أن الطريق إلى الله هو طريق محفوف بالمتعة، وعلى المرء أن يميّز النوع الصحيح من المتعة، والنوع الخاطئ الذي ترمز إليه موسيقى الشيطان. كما أضحى غناء داود سابقةً دينية استخدمها مفكرون مؤيدون للموسيقى، أمثال الغزالي والفارابي، من أجل تبرير نشاطاتهم الموسيقية، وفق الباحثة دوريس بهرسين أبوسيف.

بينما ركزت المصادر المدراشية على ميول داود الآثمة (مثل مزامير مدراش 22: 8 ، رواية [ح])، اختار الأدب الإسلامي التركيز على الشيطان. والمفارقة بين الحافز الداخلي للخطيئة (الميل إلى فعل الشر) مقابل الحافز الخارجي (الشيطان) يختزل التباين الفلسفي الصارخ بين الروايات اليهودية والمسلمة عن داود.

وهكذا، وعلى الرغم من أن شخصية داود ومواهبه الموسيقية ترمز إلى المثل العليا التي تتطلّع إليها الطائفتان، فقد تم استخدامها لنقلِ نظُمٍ مختلفة من القيم التي كانت مهمة لكلّ من هذين المجتمعين، وهي دراسة التوراة في اليهودية والتوبة في الأوساط الإسلامية.

في وقت لاحق استوعب المفكرون الإيطاليون والبروفنساليون واليهود الإسبان هذه المفاهيم الإسلامية للقيمة الروحية للموسيقى وأعادوا تصور شخصية داود بشكل ينحرف عن صيغتها في المدراش الكلاسيكي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image