لستُ خبيراً في التسويق ولا أدّعي مهارات مشابهة. أنا مجرّد مستهلك ومراقب للاستهلاك، ولكي أكون دقيقاً كفاية، أنا مستهلك صغير لا يحب التغيير كثيراً، ولا يملك من المال ما يجعل الشركات الكبرى تستهدفه في إعلاناتها. أقصد أن من يروّجون للاستثمار في أسهم البورصة أو في الشاليهات على شواطئ تركيا، لا يستهدفونني بالتأكيد. ربما أكون مستهلكاً جيداً للأجبان البيضاء على أنواعها، أو للأفكار الجديدة في السوق. لكنني، ومنذ طفولتي المبكرة، تستهويني الإعلانات والدعايات، وأفكر كثيراً فيمن سيشتري هذا المنتج الذي تعب المعلنون في تسويقه، وبذلوا الجهد وأنفقوا المال.
كنت، وأنا صغير، أنتظر دعاية العلكة على التلفزيون السوري. مجموعة من الشقراوات، ذوات الصدور الكبيرة والشعر الطويل، يرقصن ويغنين على الشاشة، وفي الخلفية مغلف أزرق باهت للعلكة المعنية. صحيح أن هؤلاء الفتيات توجهن للمشاركة في فن الفيديو كليب بعد أن مللن الرقص من أجل علكة، لكنني أستغرب، حتى الآن، من ذلك المصنع الذي كان يجمع الفتيات ويقنعهن بذلك. ثم أن السؤال يراودني حول الأرباح المجنية بسبب ذلك الإعلان: هل يستحق أمر العلكة كل هذا التعب والإنفاق؟ هل الأرباح مجدية؟
قبل ذلك وبعده كانت الصحيفة هي المكان المفضل للإعلان، لكنني أشك أن أحداً اشترى منتجاً ما بعد أن رأى أو قرأ دعاية له على صفحة الجريدة. أظن حتى أن قراء الجرائد، على قلتهم، لا يشترون شيئاً. أنا شبه متأكد أن قارئ الجريدة، وليكن افتراضاً أنه "أبو محمد"، كان يقرأ إعلان بيع دونم أرض على طريق "السواحرة"، ليعرف كم يساوي الدونم الذي يملكه هو على مدخل "العبيدية"، أو ربما ليتشفى بالبائع لا أكثر.
المُعلِن عبر الأثير شخص ابتزازي بلا شك. إنه يستغلّ أنك محشور في السيارة على حاجز زعترة، بين نابلس ورام الله، ومضطر لسماع إعلانه بين أغنيتين
الإعلان في الراديو قصة أخرى غريبة، فالمُعلِن عبر الأثير شخص ابتزازي بلا شك. إنه يستغلّ أنك محشور في السيارة على حاجز زعترة، بين نابلس ورام الله، ومضطر لسماع إعلانه بين أغنيتين. غير ذلك كيف لك أن تستمع لدعاية شامبو تبثّها الإذاعة؟ ما الذي سيغريك في الإعلان دون أن ترى الرغوة والشعر المتماوج بعد السشوار؟ الصوت وحده لا يكفي بالطبع، وإن كان ناعماً أو جهورياً.
بالموازاة مع الوسائل والأساليب السابقة للإعلان عن المنتج وتسويقه، كان يتمّ، في أماكن أخرى وبوسائل أخرى، التسويق والإعلان عن الأفكار والأيديولوجيات، وكما تفعل الشركات المنتجة للسلع، كانت الأحزاب والفصائل تعلن وتروّج لأفكارها وأيديولوجياتها.
"أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة" كانت تظهر قبل إعلان العلكة وبعده. الكتاب الأخضر، أو مقاطع منه، كانت تبثّ مثلها مثل إعلانات عصير المانجا. الماركسيون لم يمتلكوا وسائل بثّ للإعلان عن فكرهم، لذلك فقد كانوا يرسلون أبناءهم إلى الاتحاد السوفييتي لأن الاستهلاك هناك أضمن، والإسلاميون رغم امتلاكهم للمسجد كوسيلة إعلان أهم من الراديو والتلفزيون، إلا أنهم كانوا يرسلون أبناءهم إلى بريطانيا لنفس السبب تقريباً. صحيح أن الولد كان يعود من بريطانيا وقد اقتنع أكثر بفكر والده، لكن الصحيح أيضاً أن أولاد الماركسيين لم يكونوا بنفس درجة الوفاء للاستهلاك الفكري، فلو استثنينا حالات معدودة، فإن غالبيتهم عادوا وكأنهم كانوا في بريطانيا.
ما أريد قوله هو إن الإعلان والتسويق في بلادنا لا يؤدي دوره كما يفترض أن يكون، أو على الأقل فإن نتائجه لا تدوم كما هي في الغرب. الجميع يعرف الحرب المحمومة في الإعلانات بين شركتي بيبسي وكوكا كولا، أو بين مرسيدس وبي إم دبليو، وكيف أن كل شركة تحاول، بشكل مدروس وبعيد عن شبهة الإدانة، أن تنتقص من المنافس وتقلّل من شأن منتجه، مقابل الترويج لمنتجها الخاص. لكن في المقابل فإن الطرفين يظلان في السوق وترتفع مبيعاتهما باضطراد.
المنطق الترويجي للسلع وللأفكار مضروب أساساً، وهو يعتمد على وصف المنتج بالطريقة المباشرة لا أكثر. والمشتري المفترض ألّا يثق بهذا الوصف، لأسباب تتعلق بتاريخ كامل مما تعرّض له من كذب، وما مارسه هو من كذب طوال حياته. أعني أن المروّج والمستهلك "عارفين بعض" مسبقاً، ناهيك عن الأفق المحدود لكليهما.
هذا الأفق المحدود المعتمد على الطريقة المباشرة للإعلان أو الترويج، انتقل من الجريدة والراديو إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فالهتاف السياسي الذي كان يروّج للفصيل قبل الانتخابات صار بياناً مصحوباً بالصور على فيسبوك، وقطع المرتديلا التي كانت تحتل غلاف المجلة صارت فيلماً قصيراً عبر إنستاغرام.
هذا الوضع الغريب سببه الأول هو طبيعة المنتجين وثقافتهم، فالبرجوازية في بلادنا بنت ثروتها من تصنيع معلبات الحمص والفول وتجارة الملابس والأدوات المنزلية، وبالتالي فعقلية صاحب المصنع أو وكيل الاستيراد تريد أن تبيعك منتجها بالطريقة المباشرة والسريعة، ورهانها الأساسي يقوم على حاجتك، لا على رغبتك أو اقتناعك. لا يختلف الوضع كثيراً في السياسة، فالوصف هو ذاته، والنتيجة ذاتها: أنت تشتري السلعة لأن منافستها لم تعجبك، لا لأنك اقتنعت بها، وتنتخب المرشح الفلاني لأنك تكره منافسه، وليس لأن برنامجه يدغدغ طموحاتك الوطنية.
في فيلم "مثلّث التعاسة/ Triangle of sadness" ثمة نصيحة لكيفية صنع الإعلان، فإذا كان الإعلان لمنتج فخم مثل عطر أو ملابس شانيل، فلا يجب أن تضحك الفتاة الظاهرة في الإعلان. على المتلقي أن يشعر بالرهبة وأن يتمنى، وهو يشاهد، أن يكون جزءاً من هذا العالم الباذخ في يوم من الأيام. عليه أن يدّخر ليشبهنا، وعليه هو أن يسعى للوصول إلينا، أما إن كان الإعلان لشركة مثل إتش أند إم، فلا بد من ابتسامة تشاركية مع المتلقي، فنحن نقول له دون كلام إننا شعبيون مثله، وأبوابنا مفتوحة دوماً ليزورنا.
الهتاف السياسي الذي كان يروّج للفصيل قبل الانتخابات صار بياناً مصحوباً بالصور على فيسبوك، وقطع المرتديلا التي كانت تحتلّ غلاف المجلة صارت فيلماً قصيراً عبر إنستاغرام
أفكر في هذه اللحظة بالمغزى من نشر صور الرئيس الفلسطيني مع محمد رمضان، إن كان ثمة مغزى أصلاً، وأفكر في المقابل بالهيئة المغرقة في الجدية التي يتلبّسها زعيم الفصيل الشعبي نايف حواتمة، وما الرسالة التي يريدها أن تصلنا كمتلقين مفترضين، إن كان ثمة رسالة أصلاً. يمكننا مقارنة الإجابة في الحالتين، مع إجابة سميرة التي تتولى الترويج على فيسبوك، لرحلة إلى شرم الشيخ، حين يسألها أحد المهتمين عن السعر، فتكتب: "تم الرد على الخاص".
كنت اليوم أتمشى في وسط البلد مع ابنتي، وكان على الرصيف رجل يبيع الحمّص الأخضر "الحاملة". عندما رآني قال بصوت مرتفع: "بدينارين الكيلو يا حج". فأهملته بسبب كلمة حج أولاً، وبسبب أنني لا أريد أن أحمل شيئاً خلال هذا المشوار الخفيف. في طريق العودة مررت مجدداً من أمامه، فقال: "يا زلمة خذلك كيلو، والله زهقت طيزي وأنا قاعد من الصبح".
كان هذا ترويجاً يعتمد الابتزاز العاطفي كوسيلة ناجحة في كثير من الأحيان، لكن لو كان الكيلو بعشرين ديناراً فلا أظن أن هذا الابتزاز سينجح. ولأن المواقف الفصائلية لا ثمن لها، فهي تبيع بسهولة في غالب الأحيان، حتى وإن كان محدودو أفق يروّجون لمحدودي أفق، فلكل فولة كيال كما يُقال، ولا دخل لكل ذلك بالقناعة ولا بالوطن، ولا دخل له بأن المتلقي "زهقت طيزه" لكثرة ما سمعه.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحلو نعرف ان كان اسلوب البرنامج ينجح في خلق نقاش حقيقي حول قضايا حقوق المرأة...
Chrystine Mhanna -
منذ أسبوعصعب يا شربل.. معظم الناس لا يتحدثون صراحة عن تجاربهم الجنسية/الطبيّة وهذا ما يجعل من هذا الملف ضروري
Ahmed Gamal -
منذ أسبوعتقديم جميل للكتابين، متحمس اقرأهم جداً بسبب المقال :"))
Kareem Sakka -
منذ أسبوعما وصلت جمانة لهون الا بعد سنين من المحاولة بلغة ألطف..
Charbel Khoury -
منذ أسبوعموضوع مهم، وغير مسلط الضوء عليه كثراً في المواقع المستقلة.
يا ليت استطعنا قراءة تجارب أكثر.
Farah Alsa'di -
منذ أسبوعبحب كتابات جمانة حداد بالعادة، بس مرات بحس أنه اعتمادها الأسلوب الاستفزازي ما بحقق الهدف اللي هي بتكتب عشانه