لستُ خبيراً في التسويق ولا أدّعي مهارات مشابهة. أنا مجرّد مستهلك ومراقب للاستهلاك، ولكي أكون دقيقاً كفاية، أنا مستهلك صغير لا يحب التغيير كثيراً، ولا يملك من المال ما يجعل الشركات الكبرى تستهدفه في إعلاناتها. أقصد أن من يروّجون للاستثمار في أسهم البورصة أو في الشاليهات على شواطئ تركيا، لا يستهدفونني بالتأكيد. ربما أكون مستهلكاً جيداً للأجبان البيضاء على أنواعها، أو للأفكار الجديدة في السوق. لكنني، ومنذ طفولتي المبكرة، تستهويني الإعلانات والدعايات، وأفكر كثيراً فيمن سيشتري هذا المنتج الذي تعب المعلنون في تسويقه، وبذلوا الجهد وأنفقوا المال.
المُعلِن عبر الأثير شخص ابتزازي بلا شك. إنه يستغلّ أنك محشور في السيارة على حاجز زعترة، بين نابلس ورام الله، ومضطر لسماع إعلانه بين أغنيتين
الإعلان في الراديو قصة أخرى غريبة، فالمُعلِن عبر الأثير شخص ابتزازي بلا شك. إنه يستغلّ أنك محشور في السيارة على حاجز زعترة، بين نابلس ورام الله، ومضطر لسماع إعلانه بين أغنيتين. غير ذلك كيف لك أن تستمع لدعاية شامبو تبثّها الإذاعة؟ ما الذي سيغريك في الإعلان دون أن ترى الرغوة والشعر المتماوج بعد السشوار؟ الصوت وحده لا يكفي بالطبع، وإن كان ناعماً أو جهورياً.
هذا الأفق المحدود المعتمد على الطريقة المباشرة للإعلان أو الترويج، انتقل من الجريدة والراديو إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فالهتاف السياسي الذي كان يروّج للفصيل قبل الانتخابات صار بياناً مصحوباً بالصور على فيسبوك، وقطع المرتديلا التي كانت تحتل غلاف المجلة صارت فيلماً قصيراً عبر إنستاغرام.
هذا الوضع الغريب سببه الأول هو طبيعة المنتجين وثقافتهم، فالبرجوازية في بلادنا بنت ثروتها من تصنيع معلبات الحمص والفول وتجارة الملابس والأدوات المنزلية، وبالتالي فعقلية صاحب المصنع أو وكيل الاستيراد تريد أن تبيعك منتجها بالطريقة المباشرة والسريعة، ورهانها الأساسي يقوم على حاجتك، لا على رغبتك أو اقتناعك. لا يختلف الوضع كثيراً في السياسة، فالوصف هو ذاته، والنتيجة ذاتها: أنت تشتري السلعة لأن منافستها لم تعجبك، لا لأنك اقتنعت بها، وتنتخب المرشح الفلاني لأنك تكره منافسه، وليس لأن برنامجه يدغدغ طموحاتك الوطنية.
في فيلم "مثلّث التعاسة/ Triangle of sadness" ثمة نصيحة لكيفية صنع الإعلان، فإذا كان الإعلان لمنتج فخم مثل عطر أو ملابس شانيل، فلا يجب أن تضحك الفتاة الظاهرة في الإعلان. على المتلقي أن يشعر بالرهبة وأن يتمنى، وهو يشاهد، أن يكون جزءاً من هذا العالم الباذخ في يوم من الأيام. عليه أن يدّخر ليشبهنا، وعليه هو أن يسعى للوصول إلينا، أما إن كان الإعلان لشركة مثل إتش أند إم، فلا بد من ابتسامة تشاركية مع المتلقي، فنحن نقول له دون كلام إننا شعبيون مثله، وأبوابنا مفتوحة دوماً ليزورنا.
الهتاف السياسي الذي كان يروّج للفصيل قبل الانتخابات صار بياناً مصحوباً بالصور على فيسبوك، وقطع المرتديلا التي كانت تحتلّ غلاف المجلة صارت فيلماً قصيراً عبر إنستاغرام
أفكر في هذه اللحظة بالمغزى من نشر صور الرئيس الفلسطيني مع محمد رمضان، إن كان ثمة مغزى أصلاً، وأفكر في المقابل بالهيئة المغرقة في الجدية التي يتلبّسها زعيم الفصيل الشعبي نايف حواتمة، وما الرسالة التي يريدها أن تصلنا كمتلقين مفترضين، إن كان ثمة رسالة أصلاً. يمكننا مقارنة الإجابة في الحالتين، مع إجابة سميرة التي تتولى الترويج على فيسبوك، لرحلة إلى شرم الشيخ، حين يسألها أحد المهتمين عن السعر، فتكتب: "تم الرد على الخاص".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...