ينشط الصيد في لبنان، كونه يقع على خط مسير الطيور المهاجرة، وكون جباله تكسوها الأشجار التي تُعدّ مقصداً للعديد من أنواعها التي تتكاثر على أراضيه. ويمتد هذا المسار من أوروبا، وتحديداً بلدان أوروبا الشرقية، نحو تركيا وسوريا ولبنان والأردن ومصر وعدد من الدول الإفريقية، وتتخذه طريقاً لها طيور السمان والمطوق والبط والإوز على وجه الخصوص.
إلا أن هذا الصيد لم يكن منتظماً يوماً، على الرغم من وجود قانون ينظّمه، وقد برزت في السنوات العشر الأخيرة أشكال متعددة للصيد غير القانوني، لعلّ أبرزها الليلي، الذي يُعدّ أسوأها.
فالطيور تنتقل وتعبر خلال فترات الليل، ولهذا لجأ الصيّادون إلى وسائل تغنيهم عن الجري وراء طرائدهم في النهار، فوجدوا في الصيد الليلي طريقةً لاصطياد أعداد أكبر بكثير من تلك التي يصطادونها في النهار، وبأقل كلفة وجهد، وهو أمر يسيء كثيراً إلى هذه الطيور ويهدد بفقدان الآلاف منها.
يخدع الصيّاد الطيور ليقتلها، وهذا يُعدّ مخالفةً واضحةً لقانون الصيد البري في لبنان.
كمائن بطرق مختلفة
الصيد الليلي هو انتظار الطيور في فترات الليل لاصطيادها، فيركّب الصيادون أشجاراً على أسطح المنازل في البلدات والقرى، يضيئونها بكشّافات كبيرة، ويترافق ذلك مع وضع آلات تصدر أصواتاً للعصافير، فتجتذبها من أعالي السماء، وبمجّرد أن تحط العصافير على الشجرة، يطلق الصياد النار عليها فيقتلها.
كما يستحدث البعض بركاً صناعيةً، توضع داخلها مجسّمات لطيور البط والإوز، مع آلة تصدر أصواتاً مشابهةً لأصوات هذين الطائرين، وتضاء البرك ليلاً، فتنجذب الطيور إليها، وتطلق النار عليها عندما تصبح في المياه.
وهناك نوع آخر من الصيد، يعدّه كثيرون "الأكثر بشاعةً"، إذ يرسم الصيادون شجرةً ثلاثية الأبعاد على حائط بعد إضاءته، مع وجود ماكينات الصوت، فينزل الطائر بسرعة كبيرة ظناً منه أنها شجرة حقيقية، فيرتطم بالحائط ويموت على الفور.
وأحياناً كثيرة تترافق الوسيلتان السابقتان مع وضع الشباك والدبق (اللاصق)، حول هذه الأفخاخ فتعلق الطيور فيها.
من كمائن الصيادين للطيور - المصدر: صفحة مركز الشرق الأوسط للصيد المستدام
خداع الطيور مخالفة قانونية
يتضح لنا من هذه الوسائل، أن الصيّاد يخدع الطيور ليقتلها، وهذا يُعدّ مخالفةً واضحةً لقانون الصيد البري في لبنان الذي يحمل الرقم 580، ففي المادة التاسعة منه، أشار المشرّع صراحةً إلى منع الصيد بواسطة البوم والشباك والدبق والمصايد والأشراك والطيور العائمة الاصطناعية والطبيعية والطعم والصيد المحبوس والأنوار الكاشفة، كما منع الصيد بواسطة السموم والغاز والدخان والآلات الكهربائيّة.
وتنص المادة نفسها على منع اجتذاب كل أنواع الطرائد من خلال استعمال آلات التسجيل التي تصدر أصواتاً شبيهةً بأصوات الطيور والحيوانات.
وتؤكّد رئيسة وحدة مكافحة الصيد الجائر في "مركز الشرق الأوسط للصيد المستدام"، شيرين بو رفّول، في حديثها إلى رصيف22، أن الصيد الليلي خطر جدّاً لأنه يُعدّ احتيالاً على الطيور باستعمال الأشجار المزيّفة والأضواء وماكينات الصوت وهذا يُعدّ مخالفةً كبيرةً للقانون. والمركز يُعنى بالمحافظة على الصيد المستدام واستمرارية الطيور والتصدي لأي مخالفات في هذا الصدد، بالتعاون والتنسيق مع جمعيات بيئية.
تنتقل الطيور خلال الليل، ولهذا لجأ الصيّادون إلى وسائل تغنيهم عن الجري وراءها في النهار، فوجدوا في الصيد الليلي طريقةً لاصطياد أعداد أكبر بكثير من تلك التي يصطادونها في النهار، وبأقل كلفة وجهد، وهو أمر يسيء كثيراً إلى الطيور ويهدد بفقدان الآلاف منها
أسباب أدت إلى انتشار الظاهرة
أسباب عدة أدت إلى انتشار الصيد الليلي في لبنان، وفق رئيس "نادي الصيد اللبناني" الذي يضم الصيادين المحترفين اللبنانيين، إيلي مزرعاني. ويفصّل في حديثه إلى رصيف22، أبرز هذه الأسباب، وهي منع الصيد من قبل وزارة البيئة، ويقول: "كنا قد طالبنا مراراً وتكراراً بفتح موسم الصيد قانونياً، وهو يحدث عادةً بعد انتهاء تزاوج الطيور وعندما تكبر فراخها، وقلنا لوزير البيئة إن عدم فتح الموسم سيؤدي إلى فوضى كبيرة، منها الصيد العشوائي والصيد الليلي، فالصياد يخاف من التنقّل في هكذا ظرف، خوفاً من توقيفه ومصادرة سلاحه، فيلجأ إلى الصيد الليلي على سطح منزله".
والسبب الثاني وفق مزرعاني، يتمثّل في غلاء صفيحة البنزين التي يبلغ سعرها اليوم 24 دولاراً، وعلبة الخرطوش من العيار الكبير والتي يصل سعرها إلى ثمانية دولارات، فيلجأ الصياد إلى الخرطوش الخفيف والذي يبلغ سعر علبته دولاراً واحداً فقط، وعلى سطح منزله يمارس هذا النوع من الصيد من دون أن يتكلّف عناء التنقل وتكاليفه.
وينبّه مزرعاني إلى أنه عندما كان يُفتتح موسم الصيد كان هناك حد أدنى من الالتزام بالقانون، وكانت الناس تستصدر الرخص وتتحمل مسؤولياتها، والتزمت نسبة لا بأس بها بالقانون الذي يحدد الأنواع والأعداد المسموح بصيدها، "ولكن بعد أن أُغلق موسم الصيد عدنا لنرى التجاوزات"، يضيف.
من كمائن الصيادين للطيور - المصدر: صفحة مركز الشرق الأوسط للصيد المستدام
إبادة جماعية
برزت في الآونة الأخيرة جمعيات وناشطون أطلقوا صرختهم لوقف الصيد الجائر، ودعوا إلى تنظيم الصيد، بآليات منها الاصطياد خارج فترة التزاوج وحصر أعداد الطرائد، ومنع استعمال الشباك والدبق، وكل هذا بهدف المحافظة على استمرارية الطيور.
وفي هذا السياق، تؤكّد بو رفّول، على خطورة هذه الظاهرة، كونها تتسبب في إبادات جماعية للطيور لأن العدد الأكبر منها يعبر ليلاً، فلا تبقى منها إلا قلة قليلة. بدوره، أكد مزرعاني على أن خطورة صيد الليل تكمن في أنه يستهدف الطيور في فترة الأمان الذي تشعر به، فالطائر يهاجر ليلاً لأنه في النهار يخاف من الطيور الجارحة التي تطارده، والطيران في الليل أفضل، لأن حرّ النهار ينهك الطائر.
ويلفت مزرعاني إلى خطورة الأمر على الناس أيضاً، إذ يجري هذا الصيد بين المنازل ويسبب إزعاجاً للسكان، فلا يعقل أن يكون الشخص نائماً وبجانبه ماكينات تصدر أصواتاً، وأعيرة نارية تُطلق بين اللحظة والأخرى. كما أن معظم الأسطح في لبنان تحمل ألواحاً للطاقة الشمسيّة، وهذا يعرّضها لخطر الضرر والتعطّل جرّاء إطلاق النار، وإلحاق الخسائر الماديّة بأصحابها.
خطورة صيد الليل تكمن في أنه يستهدف الطيور في فترة الأمان الذي تشعر به.
تعاون بين الناشطين والقوى الأمنية
هذه الظاهرة ليست جديدةً بحسب مازن، وهو شاب اعتاد الصيد مع عائلته، إذ يشير لرصيف22، إلى أنها بدأت قبل قرابة خمسة عشر عاماً، ولفت إلى أن أبناء بلدته في محافظة جبل لبنان يقومون في موسم عبور طائر السّمان أو عصافير التيّان بفرش أسطح المنازل بالأشجار، ويضيف شارحاً: "عندما تشاهد الأشجار المضاءة ليلاً، تحسب نفسك أمام لوحة فنية في الشكل، لكنها مشهد متخلّف في المضمون، إذ أولاً يقوم ‘الفرقعجية’ (عبارة تُستخدم لوصف الذين يحملون البنادق ولا يحترمون قانون الصيد ويطلقون النار على كل طائر أو حيوان)، بقطع الأشجار لوضعها على الأسطح، وهذه مخالفة كبيرة واعتداء على الطبيعة، وثانياً تستعمل كل وسائل الخداع من ماكينات أصوات إلى طيور صناعية ترفرف لجذب الطيور".
ويؤكّد مازن، الذي فضل استخدام اسم مستعار، أن أعداداً كبيرةً من الطيور كانت تُقتل يوميّاً، وأحياناً يصل عددها إلى مئتي طائر على سطح منزله، إذ كان والده مهووساً بالصيد الليلي.
وحول سؤاله عن دور القوى الأمنية، يجيب: "في المرحلة الأولى كانت العناصر الأمنية تأتي وتسهر عندنا وتصطاد مع والدي منذ منتصف الليل حتى ساعات الفجر، ومع الوقت تغيّر المشهد، فبعد أن كان وجود الأشجار أمراً طبيعياً على أسطح المنازل في بلدتي، اليوم أصبح مستهجناً من الأهالي، وبدأنا نرى دوريات للقوى الأمنية تقمع المخالفات وتسطر محاضر ضبط في حق المخالفين.
بدورها تلفت بو رفّول، إلى أن هناك جهوداً كبيرةً تُبذل لمكافح هذه الظاهرة بالتعاون مع الصيادين المستدامين والمحترفين الذين يبلّغون عن هذه المخالفات، كذلك يجري التعاون مع المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، فتبلَّغ فوراً بالمخالفات بالصوت والصورة والموقع، وتستجيب فوراً للشكاوى، فتذهب العناصر الأمنية إلى المكان وتعتقل المخالفين، وتصادر الماكينات والأسلحة وتنتزع الشباك والأشجار وغيرها من المواد التي تدخل في هذه المخالفات.
وفي هذا السياق يقول مزرعاني: "الصيّاد الحقيقي مؤكد أنّه ضد هذا النوع من الصيد، وعلى الوزارات المعنية التحرّك وكذلك البلديات، إذ تقع على عاتقها مسؤولية ضبط هذه المخالفات".
عندما تشاهد الأشجار المضاءة ليلاً، تحسب نفسك أمام لوحة فنية في الشكل، لكنها مشهد متخلّف في المضمون، إذ يقطع ‘الفرقعجية’ الأشجار لوضعها على الأسطح، وتُستعمل كل وسائل الخداع من ماكينات أصوات إلى طيور صناعية ترفرف لجذب الطيور
وتواصل رصيف22، مع مصدر أمني، أشار إلى أن القوى الأمنية تتلقى يوميّاً عشرات البلاغات عن وجود صيد ليلي، والعناصر والضبّاط يتحرّكون فوراً ويصادرون الماكينات والأسلحة، ويشدّد المصدر على أن المحامين العامّين البيئيّين دائماً يبلغونهم بوجود تجاوزات بيئية، فتتحرّك القطع المعنية لمعالجة الموضوع وتوقف المتورطين.
ويضيف المصدر: "الصيد الليلي والصيد العشوائي وأي صيد خارج الأوقات المسموح بها، مخالفة جسيمة للقانون، ونحن لن نقبل بهكذا تجاوزات وسنتحرّك في أي وقت كان لقمع المخالفات والمخالفين"، داعياً المواطنين إلى إبلاغ القوى الأمنية عن أية مخالفات من هذا النوع.
الصيد الليلي واحد من أسوأ أنواع الصيد المخالف للقانون، ووفق مصدر خاص، فإن معظم من يمارسون الصيد الليلي يهدفون إلى الاتّجار بالعصافير، ويبيعونها إلى المطاعم بأسعار خيالية، وهنا تبرز الخطورة، إذ تباد الطيور بطريقة جنونية وفي فترة أمانها، الأمر الذي يهدد وجودها واستمراريّة نوعها، ما يحتّم نشر الوعي بخطورة هذه الظاهرة، مع التشدد في قمع من يعيثون فساداً وتخريباً في الطبيعة ومكوّناتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...