قبل أن يُعلن توبته "البيئية"، كما يحلو له أن يقول مبتسماً، كان عرفان حيدر (35 عاماً)، يتجه إلى الغابات المحيطة بقريته في بلدة القدموس في محافظة طرطوس السورية، ويختار أغصان السنديان المناسبة كي يضعها في "مشحرته" الخاصة، ويصنع منها الفحم المرغوب من قبل التجار.
لا ينكر عرفان أنه ارتكب أخطاءً في حق الغابة التي يعشقها، لكن الظروف الاقتصادية هي التي دفعته للدخول في هذا المجال، مستفيداً من الدخل الجيد الذي توفره، وكان يصل إلى حدود 400 دولار شهرياً في السنوات الماضية، لكن هذا الرقم تراجع بشكل ملحوظ مؤخراً.
يدقّ المهتمون بالبيئة في سوريا ناقوس خطر التحطيب فهو بات تجارة دخل فيها حيتان السوق.
وخلال عمله في تقطيع الأخشاب وتفحيمها، كان الرجل يحرص قدر الإمكان على منع حدوث حرائق في المناطق المجاورة، وأيضاً كان يسعى بشكل دائم إلى العثور على عمل جديد، وبمجرد حصوله عليه ترك هذه المهنة، وقرر تخصيص جزء من وقته للبيئة محاولاً نشر الوعي بها وسبل الحفاظ عليها.
الوضع الاقتصادي الذي دفع عرفان للدخول في هذه المهنة، هو نفسه الذي دفع غالبية شباب المناطق القريبة من الغابات إلى ذلك، ويقول أحمد حسن (18 سنةً)، إنه رسب في الثانوية العامة لأنه كان يشارك والده في العمل في مجال التحطيب فهو مصدر الدخل الوحيد لهم، والعمل في هذا الأمر يحتاج وقتاً وتعباً.
قبة خشبية لصناعة الفحم
و"المشحرة" هي المكان المخصص لصناعة الفحم، وهي أشبه بقبة خشبية مصنوعة من الأغصان، ولتشييدها تُغرز بعض الأغصان القوية في الأرض وتُرتَّب بقية الأغصان حولها، وتوضع حولها الحجارة للتثبيت، كما يُدخل أنبوب معدني تُمرر من خلاله شعلة النار "الجمر" لعملية إشعال الحطب في البداية، وبعد الانتهاء من البناء توضع بقايا أوراق الأغصان لعزل "المشحرة" عن المناخ الخارجي، كما تُضاف بعض الألواح المعدنية المسطحة وطبقة من التراب للعزل أيضاً.
وبالنسبة إلى آلية العمل، فتقوم على إدخال بعض الجمر المشتعل مسبقاً، من خلال الأنبوب المعدني، كي تبدأ عملية التفحيم، والتي تستمر عادةً عشرة أيام تقريباً. وأساس التفحيم هو احتراق الحطب ببطء على حرارة الجمر من دون إشعال النار. وفي النهاية يُزال كل ما وضع فوق المشحرة وتُرشّ ببعض الماء، ولا يُسحب الفحم فوراً بل يُترك يومين.
من أعمال التحطيب والتفحيم في غابات الساحل السوري - خاص رصيف22
"محبوبتا الحطّابين"
يدقّ جميع المهتمين بالبيئة في سوريا ناقوس خطر التحطيب الذي لم يعد موجهاً إلى التدفئة فقط أو الأعمال البسيطة، فهو بات تجارة دخل فيها حيتان السوق، والكل يريد المزيد حتى لو على حساب الغابة.
ويوضح الباحث البيئي إياد السليم، في حديثه إلى رصيف22، أن شجرتي السنديان والبلوط هما "محبوبتا الحطابين"، لأن اشتعالهما واستمرارهما في حالة الجمر قبل التحوّل إلى رماد، يدوم مدةً أطول من أنواع أخرى، والحصول على حطب منهما يتطلب جهداً أقل ويعطي وزناً أكثر بسبب كثافته، وتالياً يعطي ربحاً أعلى للتجار.
لكن المشكلة تكمن في أن السنديان والبلوط يحملان ثمار "الدوام"، التي تُعدّ الداعم الأساسي لحياة الحيوانات البرّية، فهي غذاء فئران الحقل بنسبة 95%، وفئران الحقل هذه هي غذاء الحيوانات اللاحمة من ذئاب وجقلان (أبناء آوى) وثعالب وقطط برية وغيرها بنسبة 90%.
وينشر السليم عبر صفحته على فيسبوك لينبه من خطر الاستمرار في قطع الأشجار، ويقول: "في محافظة طرطوس، باستثناء غابات البلوط العزري على تخوم محافظة حماه، تقول إحصائيات عملنا عليها كمهتمين وناشطين بيئيين، إن 90% من أشجارها قُطعت خلال السنوات الأخيرة، وبالتأكيد القطع مستمر".
شجرتا السنديان والبلوط هما "محبوبتا الحطابين"، لأن اشتعالهما واستمرارهما في حالة الجمر قبل التحوّل إلى رماد، يدوم مدةً أطول من أنواع أخرى، والحصول على حطب منهما يتطلب جهداً أقل ويعطي وزناً أكثر بسبب كثافته، وتالياً يعطي ربحاً أعلى للتجار
يعني ذلك كما يشرح السليم، أنّ توافر ثمار الدوام انخفض بنسبة 90%، وربما بالنسبة نفسها تناقصت أعداد فئران الحقل في الحراج، وهذا ما أباد ويبيد الحيوانات التي تعتمد مباشرةً على أكل الدوام، كالسناجب وعريسات الفار (نمس صغير الحجم) وغيرها، ولا ننسى الطيور التي تعتمد على منتجات الحراج وثمارها من حبّ القطلب والصفيرون والبيبود والريحان وغيرها، وحتى أفواج الطيور المهاجرة القادمة لتمكث في سوريا أشهراً عدة، سترحل مكملةً طريقها إلى دولٍ أخرى، عندما لا تجد غذاء كافياً لها.
برأي السليم، فإن الحل يبدأ أولاً على المستوى الفردي، إذ يمكن للحطاب أن يرحم أشجار السنديان والبلوط، ويأخذ للحطب من أشجار أخرى، حتى لو أخذ الأمر جهداً أكبر منه، وحتى مدخّني "الأراغيل"، يمكنهم المساهمة برفض فحم السنديان، وطلب فحم أنواع أخرى. والأمر هنا هو أهون الشرّين، فموت أشجار السنديان بالذات يعني موت سلسلة كبيرة من الحيوانات المعتمدة عليها بشكل مباشر أو غير مباشر.
من أعمال التحطيب في غابات الساحل السوري - خاص رصيف22
أخطار بيئية وبشرية
ويتحدث ناشط بيئي إلى رصيف22، بأن مشكلة التفحيم أنه مهنة غير قانونية، وقد تكون أحد أهم أسباب حرائق الغابات، لأن من يُفحّم عادةً يقوم بذلك في أماكن بعيدة وصعبة الوصول كي لا يُكتشف أمره، وأحياناً يترك الخشب في "المشحرة" إلى حين انتهاء عملية التشحير، وتكون المشكلة إذا هبت رياح وتطاير شرر من الأخشاب.
وبعيداً عن الأضرار البيئية بقطع أشجار قد يصل عمرها إلى عقود، هناك أضرار على العاملين في هذه المهنة، التي باتت تشبه "العصابات"، فكثيراً ما يوظَّف فيها أطفال أو شبان صغار، يعملون بظروف غير آمنة سواء في مرحلة التحطيب أو التشحير، وقد سُجِّلت حالات لأشخاص قطعوا أيديهم أو تعرضوا لأمراض تنفسية حادة.
الحلول يجب أن تكون من خلال الإدارة التشاركية للمكان، وبناء علاقة جيدة مع الغابة.
وبرأي الناشط الذي فضّل عدم ذكر اسمه، فإن الحلول يجب أن تكون من خلال الإدارة التشاركية للمكان، وبناء علاقة جيدة مع الغابة، إذ يجب أن يشعر الإنسان بالارتباط مع المكان، وبحقه في الانتفاع به، وهذا الحق كفله القانون لكن أحياناً لا يُطبَّق بشكل دقيق.
ويؤكد هذا الحق المهندس بلال إبراهيم، مشرف محمية الشوح والأرز، في حديثه إلى رصيف22، ويشرح بأن استفادة السكان المجاورين للغابة قديمة، ولم تكن تشكل ضرراً، إذ كان أغلبهم يأخذ حاجته فقط، ويقطع الأشجار اليابسة والضعيفة والمريضة، أما حالياً وفي بعض الأماكن فبدأ التجار باستجرار كميات زائدة من الأحطاب مما أدى إلى استنزاف الغابات وخاصةً أشجار السنديان والبلوط والعذر.
ويتابع إبراهيم: "للأسف فإن عملية التحطيب، بالإضافة إلى كونها تستهلك عدداً كبيراً من الأشجار، فهي تمارَس بشكل غير أخلاقي، فكثيرون يقطعون الشجرة بأكملها لسهولة العمل، في حين أن تقليمها يمكن أن يمنحهم الأخشاب المطلوبة أو الأوراق، ويحافظ على الشجرة في الوقت ذاته، مع العلم أن التحطيب الذي يتم ضمن ضوابط معيّنة يكون مفيداً للغابة، وهو عمل يقوم به مشروع إدارة وتنظيم الغابات التابع لوزارة الزراعة. لكن على أرض الواقع، يتجه من يعمل في التحطيب إلى اختيار الأماكن التي تعاني من اضطرابات أمنية ومتاخمة لمناطق النزاع، والعمل في أوقات متأخرة من الليل وهذا يصعّب ضبطهم، لا سيما أن ظروف الجهات المسؤولة عن رقابة الغابات غير جيدة، إذ تعاني من نقص في عدد الحراس ومستلزماتهم، وهم في حاجة إلى آليات ومحروقات تسهّل تنقلاتهم".
التفحيم أنه مهنة غير قانونية، وقد تكون أحد أهم أسباب حرائق الغابات، لأن من يُفحّم يقوم بذلك في أماكن بعيدة وصعبة الوصول كي لا يُكتشف أمره، وأحياناً يترك الخشب في "المشحرة" إلى حين انتهاء عملية التشحير، وتكون المشكلة إذا هبت رياح وتطاير شرر من الأخشاب
محرّمات قانونية واستثمارات مسموحة
يمنع القانون السوري استنزاف الغابة واستغلالها بشكل جائر، وهو يعاقب على الجرائم الواقعة على إتلاف المزروعات وقطع الأشجار، ومنها ما هو منصوص عليه في قانون العقوبات وأخرى منصوص عليها في قانون الحراج رقم 6 لعام 2018.
وبحسب القانون الأخير، يعاقَب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبالغرامة من خمسمئة ألف إلى مليون ليرة سورية (بين 110 و220 دولاراً وفق سعر الصرف في السوق الموازية)، كل من أقدم دون ترخيص مسبق على قلع أو قطع أو إتلاف أو تشويه الأشجار والشجيرات في حراج الدولة أو الإتيان بأي عمل يؤدي إلى إتلافها. ويعاقَب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة وبغرامة من مئة ألف إلى مئتي ألف ليرة سورية، كل من نزع أو أخذ أو نقل تراباً أو حشائش أو أوراقاً خضراء أو يابسةً أو أسمدةً طبيعيةً موجودةً في حراج الدولة.
أما قانون العقوبات، فينص في المادة 725، بأن كل من قطع أو قصف أو أتلف مزروعات قائمةً أو أشجاراً أو شجيرات نبتت في الطبيعة أو من نصب يد الإنسان أو غير ذلك من الأغراس العائدة للغير، يعاقَب بالحبس من ثلاثة أشهر حتى السنتين وبالغرامة من مئة حتى خمسمئة ليرة (11 سنتاً فقط).
والمادة 726 تنص على أنه إذا وقع فعل الإتلاف على مطاعم أو أشجار مثمرة أو فسائلها أو على كل شجرة أخرى ثمينة من الوجهة الزراعية أو التجارية أو الصناعية، عوقب الفاعل بالغرامة من مئة إلى ثلاثمئة ليرة وبالحبس من عشرة أيام إلى شهر عن كل مطعوم أو شجرة أو فسيلة على ألا يجاوز مجموع العقوبات الثلاث سنوات.
من أعمال التحطيب في غابات الساحل السوري - خاص رصيف22
وبالرغم من هذه المحرمات، توجد أمور مسموح بها لا يعاقب عليها القانون وربما يشجعها. ويشرح المهندس إبراهيم، أنه بموجب قانون الحراج، يُسمح للسكان المجاورين للغابة بالانتفاع منها وبرخص أصولية، إذ يُسمح لهم بالرعي ضمن حمولة رعوية محددة، وجمع نباتات طبية وعطرية، كما يُسمح لهم بإقامة منشآت سياحة بيئية تتوافق مع الشروط التي حددها قانون الحراج وبمنشآت غير ثابتة تُزال بانتهاء مدة الاستثمار.
أما الغابات التي تتعرض للحريق، فإما تزال منها الأحطاب المحروقة من قبل فرق وورشات تابعة لوزارة الزرعة، أو تُطرح للاستثمار في المزاد العلني، ويكون العمل تحت إشراف وزارة الزراعة، وفي حال رغب المستثمر في تفحيم الأحطاب المحروقة، فإنه يحتاج إلى رخصة خاصة بالتفحم تُعطى من قبل الوزارة في حال حققت الشروط الواردة في قانون الحراج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...